رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة الخامسة عشرة: ومضات من عصر سحيق

وعندما راى في زيارة تالية الى الوكالة ان هذه الحورية من حوريات الجنة، تعاني من سوء معاملة زوجها لها، اشتعل غضبا وحقدا على الرجل الجلف الذي يعاملها مثل هذه المعاملة، وغمرت قلبه مشاعر الاشفاق على هذا الملاك الرقيق القادم من بساتين السماء، يتعرض لمحنة العيش مع هذا الوحش من الوحوش البشرية، وتحول الاشفاق الى حب جارف مؤلم ينمو كشجرة شوك بين ضلوعه ويزداد مع الايام نموا، ومصدر الالم انه حب مستحيل،يصعب ان يجد طريقا للتحقق والوصال، طالما ان المرأة التي يحبها في عصمة رجل آخر، وصار موضوع هذا الحب يشغل فكره ليلا ونهارا، وطيف المرأة التي احبها يزوره في النوم واليقظة،وسمع وهو ساهد في احدى الليالي صوتا ينبعث من رأسه يقول له، ولماذا يعتبره حبا مستحيلا، فهي ليست اول امرأة تفارق زوجها وتتزوج من رجل آخر، بل ان هناك اسبابا ادعى لهذا الطلاق في حالة انجيليكا، لان زوجها رجل لا يعرف النعمة التي حباه بها خالق الكون، ولذلك فهو ليس جديرا بها، ومن هنا بدأت تراوده الافكار التي يصل بها الى تحقيق هذا الهدف، وهو تطليق انجيليكا من زوجها ليتزج هو بها.
ورغم الطريقة المسرفة في عاطفيتها التي يتكلم بها السردوك، شارحا محنة عشقه لانجيليكا، فان هيوز لم يستطع ان يكون متجاوبا تمام التجاوب مع موقف صاحبه الذي رآه يحتوي على مفارقة مضحكة، اذ كيف يمكن لرجل في عمر السردوك، يساوي عمره عمر انجيليكا ثلاث مرات، ولديه اولاد وبنات اكبر منها، ان يرى نفسه بديلا لشاب في مقتبل العمر هو الفونسو، الذي يزيد عليه انه اجنبي مثلها، ينتمي الى الدين المسيحي الذي تنتمي اليه، ولديه من الشباب والعافية والراتب ما يؤهله لان يكون رفيق عمر لها انسب كثيرا من رجل مثله، فأي انقاذ هذا الذي يرى نفسه يقوم به، انه لا يستطيع الا ان يبتسم ساخرا ازاء هذا التدفق العاطفي القادم من صاحبه، ويشعر بالحرج في الافصاح عن افكاره للسردوك، او حتى مجرد ابداء النصيحة له بان ينسى الموضوع وينتبه لاسرته وتربية اولاده وبناته واداء المهمات الجسيمة التي تتطلبها وظيفته الامنية، وهي مهمات كفيلة بان تنسيه هذا الحب العبثي الذي لا جدوى من ورائه، الا انه لم يكن حبا عبثيا في نظر السردوك، الذي مضى يشرح لرئيسه التضحيات التي سيقوم بها انصافا لانجيليكا وحرصا على سعادتها، واولها انه سيقوم بفك ارتباطه بزوجته الحالية، سيترك لها البيت والاولاد متكفلا بالانفاق عليها وعليهم،
وسينتقل الى بيت جديد يضمه مع انجيليكا، وستبقى على دينها اذا شاءت لان الاسلام لا يشترط ان تتحول الزوجة عن دينها، مضيفا انه اعد لكل شيء عدته، وكل ما ينقصه هو ان يساعده البريجادير هيوز، في مسعاه باتمام صفقة الوكالة مع زوجها الذي وافق على تطليقها فور استلامه رخصة الوكالة الجديدة.
وانسياقا مع هذا المزاج الساخر، الضاحك، الذي راى به المسألة، لم يعترض البريجادير هيوز على ما قاله السردوك، وفي ذات الوقت لم يوافقه على خطته، وانما قال ينكافه ويثير مزيدا من انينه وشكواه:
ــ اذا كنت سادخل معك في ترتيب هذه الحيلة، التي يطلق بها الرجل زوجته، وينال مكافأته مقابل ذلك، وهي كما تقول بهذا الجمال الاستثنائي، الست انا احق بها منك، وانت تراني هنا الرجل الاعزب الذي تجاوز حد الاربعين، وقارب ان يغادر مرحلة الشباب، ويكاد ان يفوته قطار الزواج ؟ لقد اشفقت على انجيليكا، فليكن قلبك رحيما فيشملني بهذه الشفقة، وانا الذي لم يدخل من قبل دنيا الزواج التي دخلتموها، ولم ينعم برؤية اطفال ينجبهم الى هذه الدنيا كما فعلت انت وامثالك، ام تراني يجب ان اعيش محروما مما تتمتعون به؟
لم يكن خافيا على السردوك ان نائب الوالي يتكلم ساخرا، ولكنه مع ذلك خشى ان تكون سخرية ماكرة، تغطى رغبة حقيقية في ان يخطف منه هذا الانجليزي الاحمر اللون، حبيبة قلبه، خاصة وانه اجنبي مثلها ينتمي الى دينها وجنسها الرومي، ولهذا ازداد استعطافا واستكانة وهو يقول لرئيسه، بانه يستطيع وهو الحاكم العالي القدم، ان يجلب من بلاده واحدة من جميلات هذا الكون، ويبني بها اذا اراد، فهو الذي يسافر الى بلاد العالم ويرى جميلاته ويختلط بهن، ويعاشرهن معاشرة الازواج دون زواج، لان هذا ما تبيحه شرائع وقوانين هذه البلاد التي يسافر اليها، وينتمي لاقوام مثل اقوامها، اما هو فان مصيره مربوط بهذه الارض الصفراء وعجاجها الاهوج وصحاريها الجرداء، التي لم يغادرها الى خارج البلاد منذ ان ولدته امه، ولم ير وجها الا وجوه اهلها الكالحة التي اكتسبت من فقر الارض وجدبها، فقرا وجدبا، ولهذا فانه ما ان راى وجها قادما من الضفة الشمالية للبحر، غربيا عن هذه البيئة القاحلة الماحلة، وهو وجه ابنة بانايوتي اليوناني، حتى اصابه الخبل والهبل، لانه لم ير وجها جميلا في قفص الرمال الذي يعيش فيه، بينما هو بالتأكيد وجه عادي، بمقاييس الجمال في تلك البلاد، قد لا يتميز عن أي وجه انثوي آخر، من نساء قومها او الاقوام التي جاء منها السيد هيوز.
وضاحكا، عاد نائب الوالي، يمازحه، مطالبا اياه الا يسحب كلامه عن جمال انجيليكا، وسحر هاروت وماروت في عينيها، وداوئر الفتنة في جسمها، وملائكية صوتها ونور الابتسام على تغرها، ولهذا فهو الان في حيرة مما قاله، ولا سبيل لان يحكم لهذه المرأة او عليها، ينصف جمالها او يظلمه، الا بان يراها، ولا سبيل لان يعده بمعاونته، اوالوقوف مع اوضد مشاريعه الا بعد ان يتحقق بنفسه من مستوى هذا الجمال، عن طريق تدبير رحلة يقومان بها سويا الى وكالة بانايوتي، ليقف على سر هذه المرأة ويعرف حقيقة سحرها وجاذبيتها، ثم نهض يغادر مكتب السردوك، تاركا له امر ترتيب هذه الزيارة بمثل ما تسمح به الظروف دون ان يقترح عليه موعدا محددا، ولم تمض سوى بضعة ايام، حتى جاء السردوك بخبر العرس الذي سيتم بين عائلتي الاومباشي جبران وخليفة مكاري، وكلاهما من معارف البريجادير، وكلاهما يرسلان بدعوة اليه لحضور العرس، وقد نقلها، كما يقول السردوك، له ولنائب الوالي، الفونسو الذي وصل الى مزده في اطار المساعي التي يبذلها للفوز برخصة الوكالة، وشرح له ان العرس يبدأ يوم الاتنين، لينتهي بليلة الدخلة يوم الخميس، وكلها ايام تصلح للسفر، اذ يكون خلالها اهل العرس على استعداد لاستقبال الضيوف، الا ان الواجب يقتضي لمن يسافر يوم الاثنين ان يبقى لاتمام كل ايام العرس، والا فليكن الذهاب يوم الخميس والعودة في نفس اليوم ليلا او في اليوم التالي، ولان البريجادير لم يكن قد زار سابقا جنائن العرعار، وقد سمع عنها من زوار الوكالة، وقرا بعض التقارير عنها، بما اثار اهتمامه لرويتها وتفقد بعض معالمها الاثرية، فقد ابدى استعداده لحضور كل ايام العرس، ابتداء من يوم الاثنين، وامر بصرف مبلغ من بند النثريات في ميزانية مكتبه بما يكفي لشراء هدايا العرس وهي اربعة كباش وتجهيز سيارة الكارفان التي يستخدمها اثناء اقامته في الصحراء وعدد اخر من السيارات.
وهاهما الآن، السردوك ونائب الوالي، في سيارة الجيب بمفردهما، بعد ان تحقق للبريجادير رؤية انجيليكا في صورة من المجد والجلال، لم تظهر بها من قبل، وباكثر فتنة، واثارة من كل المرات التي راها فيها السردوك، ولهذا فهو يمد بصره في فضول، ويدير عينيه بين الطريق وبين وجه البريجادير هيوز، يريد ان يعرف انطباعه عما رآه، وجاء كلامه عندما فتح فمه لابداء رايه فيما رآه متوافقا مع ما كان ينتظره السردوك، فقد قال له انه الان يفهم بعمق وقوة كيف استطاع هذا الجمال، ان يدفع بالسردوك الى حافة الجنون، واضاف قائلا بان هناك نوعا من الجمال الانثوي له تأثير صواعق البرق التي تضرب جذور القلب فيحدث له ما يحدث لشجرة تعرضت لصاعقة اشعلت فيها النار اغصانا وجذورا، وهو لا يقول هذا الكلام من فراغ وانما يقوله... وحل عليه نوع من الصمت جعله لا يكمل الجملة، فاستحثه السردوك ان يكمل الجملة التي بداها ليعرف هذا الأساس الذي بنى عليه انطباعه، فاجابه بان هذا الاساس يرجع الى ما احس به شخصيا وهو يتلقى مثله صواعق الجمال كما تلقاها، معترفا بان مارآه اتلف لبه وسلب روحه، واكمل قائلا يصف ما حدث له باقوى ما اسعفته به اللغة من تعبير :
ـــ وها انت تراني اجلس الان بجوارك كائنا لا عقل له ولا روح ولا قلب، فقد سلبني جمالها كل ذلك.
افصح نائب الوالي لرفيقه في السيارة بما احس به، في هذه الكلمات التي راى الا يفسدها بمواصلة الكلام. بقى صامتا، وقد انتقل ببصره يرقب التكوينات التي صنعتها الجبال، والتي تكاد ان تتحول الى تماثيل لكائنات جسيمة عظيمة مثل دناصير تحجرت وهي تقف على قوائمها الخلفية، رافعة رؤوسها التى لا ملامح لها، تغرسها في زرقة الافق، وترك صاحبه حائرا، يختلس اليه النظر، يترقب بكثير من القلق والتوجس، ان يعود رئيسه الى الكلام شارحا وموضحا ما يرمي اليه بمثل هذا الكلام، هل هو حقا ادراك لعمق ما احس به السردوك، وفهم للدوافع التي كانت وراء تصرفاته للفور بهذه المرأة، ام هو غريم جديد يكشف له اوراقه، ويدخل ساحة المنافسة على الفوز بهذه المرأة. اراد ان يتكلم مطالبا رئيسه بتوضيح الموقف، الا ان السيارة التي تسير امام سيارتهما وقفت، وهبط منها الراعي، فيما يعني انه وصل الى منطقة تقتضي ان يقدم شرحا عنها لنائب الوالي، فاوقف السردوك بدوره السيارة،
وهبط منها هو ونائب الوالي، يدققان النظر فيما حولهما ويحاولان الاهتداء الى مواطن الاهمية لهذا الجزء من جنائن العرعار، الا ان الراعي، اوضح لهما، انه سيقصد بهما منطقة اخرى، من قدم الجبل، تحول الصخور دون بلوغها بالسيارة، سيسيرون اليها على الاقدام، مسافة قصيرة، ومضى وهما يتبعانه، الى صخرة تقف على شكل عمود لا يزيد طوله عن متر واحد، وطاف بهما حول العمود، يريد ان يرى تاثيره فيهما، وعندما وجد انه لم يحدث التأثير الذي توخاه، ابان لهما انه ليس عمودا مصنوعا من صخر الجبل كما يبدو، وانما هو شجرة عرعار ضاعت اوراقها واغصانها ولم يبق منها الا هذا الجذع، الذي تحجر وبقى واقفا في هذا المكان، وقفة طالت بعدد سنوات عمره التي تبلغ الملايين، والحكم بان هذا الجذع ينتمي لاشجار العرعار، لانها هي الاشجار التي اشتهر بها المكان، ولان في الجذع انسيابية وخلو من النتوءات تشبه بما يشبه جذوع اشجار العرعار فبدا وكانه مصنوع من الرخام بينما اشجار متحجرة اخرى يقول ابو فاس انه راها في اماكن اخرى تختلف عن هذا الجذع، ورغم معرفة ورؤية ضيفيه الاثنين لمثل هذه الاشجار المتحجرة في رحلاتهما الصحراوية، الا ان قدرة هذه النباتات والكائنات الحية التي تحولت الى حجر تظل تفجر في الانسان عندما يراها مشاعر الاندهاش والاستغراب وتتركه واقفا في صمت وقفة تامل لاسرار الحياة والغازها وحقائقها الصادمة احيانا، فهم هنا، يلتقون بأثر لشجرة، عمرها سابق، لوجود الانسان فوق هذه الارض، فبقوا لحظة يتاملون جذع الشجرة، يتحسسونه، ويتبادلون فيما بينهم نظرات الاستغراب.
تذكر هيوز انه قرأ في تقرير صحفي لزائر الاماني مر بارض القبلة منذ عقود مضت، وتوقف لحظات في تقريره عند جنائن العرعار، وتحدث عن شظية كبيرة من نيزك عمرها من عمر المراحل الاولى للخلق، سأل عنها الراعي، قبل ان يركب السيارة الى مكان جديد، غير واثق من ان الاثر لا زال موجودا فعمر التقرير قديم جدا، ولابد ان احدا من قراصنة الاثار في الصحراء قد عرف به عن طريق هذا التقرير وقام بالسطو عليه كما حدث لاثار كثيرة اخرى، الا ان الراعي اخبره بانه على علم بوجود اثر يثير فضول الاجانب، ربما يكون هو هذا الجزء من النيزك، لانه ليس واثقا من طبيعته وحقيقة اهميته الاثرية، وحرضه نائب الوالي على الذهاب اليه فركب السيارة يقودها السائق عثمان، باتجاه ذلك الشيء الغامض، الذي ما ان اوقف السيارة واتجه اليه، في مدخل احدى الشعاب، حتى ادرك البريجادير انه فعلا هو ذلك الجزء من النيزك، وكان يظنه شيئا في حجم جذع تلك الشجرة المتحجرة، ولكنه وجد شيئا ضخما حجمه بحجم قبة من قباب القلاع او القصور، له سطح مكعب الشكل، يبدو كانه تمثال مصنوع من البرونز، ولكنه ليس برونزا، وانما مادة نيزكية تصلبت وربما تحجرت تشبه ما شاهده في صور الافلام العلمية الوثائقية، وعرف السبب في عدم اعتداء لصوص الاثار عليها، لان هذه الشظية الكبيرة من النيزك الساقط من الفضاء الكوني، منذ ملايين الاعوام، ارتطمت ارتطاما قويا بمنطقة صخرية من الجبل، وهي في حالة اشتعال وغاصت غوصا في هذه الطبقة الصخرية، واذابت بسبب اللهب بعض المعادن الموجودة في هذه الطبقة، فالتحمت بها واطبقت عليها وصارت جزءا منها بحيث صار يستحيل فصلها من صخور الجبل الصوانية، وزادت عوامل التعرية عبر تعاقب الازمنة، من تاكيد هذا الالتحام، ولن تستطيع غير تقنيات مهولة والات حفر جبارة ان تخترق هذه الطبقات من الصوان وتقوم بفك هذه التلاحم بين المادة النيزكية وصخور الجبل، وقد تعجز هذه التقنيات عن القيام بمهمة كهذه، دون اللجوء الى تفجير المنطقة بالديناميت الذي يقضي على الاثر نفسه، ولولا هذا الاعجاز الذي صنعته الطبيعة لما امكن له او لغيره مشاهدة هذا الاثر المتبقى من عصور ما قبل التاريخ. انتقل بعدها الركب يجوب هذا الفضاء بين الجبال بحسب رؤية ابو فاس وما يقول انه يستحق المشاهدة، مثل صهاريج الماء الرومانية، التي كان انتباه نائب الوالي منصرفا الى ما ينمو قريبا منها من نباتات محاولا ان يجد عند الراعي اجوبة على اسئلته حولها، حتى انتصف النهار فقادهم الراعي قريبا من كوخه، واحضر لهم وعاء جلديا مملوءا بحليب الماعز، واحضر مع الحليب طبقا مليئا بالتمر كما احضر كليما قام بفرشه لهما تحت ايكة من اشجار البطم قريبة من الكوخ ليجلسا وهو السائق معهما لتناول هذا الغذاء المكون من التمر والحليب مسكوبا في قدح خشبي كما احضر كانون الفحم وعالة الشاي واعد لهم ثلاث دورات من الشاي الاخضر، وبعد قضاء استراحة القيلولة، استأنف بضيفيه وسائقهما اكمال الجولة عبر الخلاء وتذكر بئر الغولة، التي تنزوي في ركن بعيد وفوهتها المسدودة باسلاك شائكة صدئة تراكمت فوقها الاوحال حتى صارت اشبه بكدس من القمامة، وفكر ان كانت على درجة من الاهمية تستحق ان يقود ضيفيه اليها، ثم قرر ان ينسى الموضوع فهي بئر مهملة منسية ويجب ان تبقى كذلك ولانها كانت قريبة من قبر روماني قديم فقد اهمل القبر ايضا كما اهمل قصر الخواجه لانه يقع فوق قمة جبل يقتضي الصعود اليه نصف يوم، واتجه يريهم ما تبقى من عروق متيبسة لاشجار العرعار المغدورة التي حصدتها محرقة القائد التركي، ثم ابدى نائب الوالي استعداده لقطع مشوار على الاقدام متسلقا الجبل في عمق احدى الشعاب ليرى بنفسه كيف تنمو نباتات الحلفاء التي من اجلها تأسست الوكالة، واراه ابو فاس كيفية قلعها، وفي وقت يتوافق مع رحلة العروس على الهودج من خيمة اهلها الى خيمة زوجها، اخذ الموكب طريقه راجعا الى مقر الوكالة ليشهد نائب الوالي هذا الملمح الاساسي من ملامح العرس البدوي، والسردوك يقود به السيارة متلهفا لمواصلة الحديث حول انجيليكا الذي ابقاه رئيسه معلقا، بامل ان ينتزع منه الموافقة على مساعيه للزواج منها، الا ان المسافة التي قطعتها السيارة الى موقع العرس، لم تكن طويلة بحيث تتيح للحديث ان يأخذ المدى الذي يريده السردوك، فاضطر مرغما ان يترك الموضوع دون حسم، ليعطي نائب الوالي فرصة ان يتفرج على هذا الجزء من طقوس العرس، ويتطوع بشرح ما يريد نائب الوالي فهمه حولها، فالهودج هو كما اوضح له ليس الا محفة من الواح خشبية مشبوكة في بعضها البعض اشبه بكوخ صغير، مغطى بالمفارش والاقمشة المزركشة ذات الالوان الزاهية، تم تحميله فوق الجمل، وفي الوسط مجلس مريح للعروس، مفروش بالحشايا والوسائد، واقترب به السردوك وهو يقود السيارة من الهودج الذي كانت جلست فيه العروس لا يظهر منها أي شيء الا يدها المزخرفة بالحناء، ترمي بها بعض القروش على سبيل العادة، يلتقطها اطفال يتقافزون ويتعاركون للفوز بها، وللجمل زمام يقوده فتى من اقارب العروس، محفوفا باعضاء الجوق الفني في ايدي بعضهم الدفوف وعاشور مرتديا اللباس الوطني يمشي بينهم يضرب المزمار والنساء خلف الهودج يطلقن الزغاريد ويرفعن عقريتهن بالغناء، وفي الملهاد علي يمين وشمال الهودج، الفرسان يركضون جيئة وذهابا، ولان المسافة قصيرة بين خيمة اهل العروس وخيمة عريسها فلم يكن ممكنا ان ينتقل الهودج بها مباشرة الى الخيمة الاخرى، وانما لابد لكي تكتمل للعرس بهجته، ان يمضى الجمل وهو يحمل العروس في هودجها قاطعا دائرة كبيرة حول النجع تستغرق ما يقرب من ساعة، والسيارة التي يقودها السردوك تسير متمهلة مع دورة الجمل، وامام خيمة العريس كانت هناك مجموعة اخرى من النسوة من اقارب العريس وجيرانه يطلقن الاغنية الشهيرة في التراث الشعبي التي تغنى ترحيبا بالعروس وهي
يا مرحبا يا لا فية
انشاء الله تكوني عافية
يا مرحبا يا امراة اخوي
يا منورة حوش بوي
اهلا وسهلا ومرحبتين
اهلا اهلا ضوء العين
انت فوق الحاجب والعين
مرحبتين اهل بالجودة
مرحب يا صادق في وعودة
ليك انغني هالمجرودة

وفي حين دخلت العروس الى خيمتها محاطة بنساء من اهلها واهل العريس، استمر الغناء واستمرت الزغاريد تحيط بها وتتعالى من حولها، بينما كان العريس في هذا الوقت موجودا في خيمة العراسة، التي كان قد دار فيها الفرح، محاطا باصدقائه، يغنون له ومعه الموشحات، وقصائد المالوف الليبي، مثل نعس الحبيب، ويا هلالا غاب عني واحتجب، ويا ليل الصب متى غده، اقيام الساعة موعده، وعندما جاء الليل وحان موعد العشاء وحضرت قصاع الطعام، اخذ رفاق العريس هدنة من غناء الموشحات، ليقوموا باساتئنافها في موعد زفة العريس الى عروسه، في حين اتخذ الرجال الكبار مكانا بعيدا عن الشباب لجلوسهم، وقد اصر نائب الوالي ان يشاركهم الجلوس على الارض تاركا الكراسي التي اعدها بانايوتي لجلوسه هو وبعض رفاقه ليتناول طعامه مثلهم من قصاع الكسكس التي اعدوها لهم، وفي انتظار العشاء تسلل السردوك يحوم حول الحانوت وحول بيت بانايوتي وبيت الفونسو بامل ان ينعم بتكحيل عينيه بحبيبة القلب، الا ان الحانوت كان مقفلا، ولم تنم اية حركة عن البيتين لان المرأتين كانتا في العرس، فلم يفز بالنظرة الاخيرة التي كان يمني نفسه بها، قبل مغادرة هذه الربوع، ولانه كان متشوقا لان ياخذ المصادقة على خطته من رئيسه، فقد اراد ان يقترح عليه العودة بعد العشاء، وقبل ان يفعل ذلك راي الجاسوس الذي زرعه في النجع يشير اليه يرغب في الانفراد به، فانتحى به جانبا، يستمع الى ما لديه من اخبار صار ينقلها له همسا، مفادها انه قد تناهى الى سمعه ان الفونسو لم يكن راضيا عن سلوك زوجته وتصرفاتها اثناء رقصة النخيخ، واستعراضها لجمالها وزينتها امام الناس، خاصة وان بين الحضور ضيوفا من المركز، يتطلعون لان تكون في حوزتهم، وراى في ذلك استفزازا له، واستهتارا بمشاعره، وكلام آخر كثير اثارها وجعلها تخرج مغضبة الى بيت اهلها، وتترك له البيت، في آخر الليل.
ووجد السردوك ان كلام الجاسوس، يحتوي على معلومات لن يستطيع ابقائها في طي الكتمان،ولابد ان ينقلها للبريجادير هيوز، فانتزعه انتزاعا من وسط المجموعة بعد انتهاء العشاء، ليبلغه ان الفونسو عاد للتنكيل بانجيليكا وتعذيبها، وهو لا يستطيع صبرا على هذا الاجتراء، ولابد من انقاذها باية صورة واية وسيلة، وقد استقبل البريجادير كلامه بابتسامة ساخرة، لانه يدرك ان السردوك يحاول ان يلبس اغراضه الخبيثة لبوس الشهامة والفروسية والاستعداد النبيل لانقاذ امراة يعذبها زوجها، واكتفى بالابتسام دون تعليق، كما نقل له السردوك اقتراحه بان يستفيدا من نور القمر في الرحيل منذ الان، ووافقه البريجادير على وجاهة العودة الى مزدة هذه الليلة، ولكن ليس قبل ان يفرغ من مشاهدة ما بقي من طقوس الزفاف، وعاد الى مكانه في حين ارسل السردوك العساكر المرافقين لهما في الرحلة لاتخاذ الترتيبات الخاصة بالسفر، فمضوا يربطون الكارفان الى السيارة التي تجرها، ويهيئون الركب للانطلاق، في هذه اللحظة كان رفاق العريس قد اخذوه الى نقطة في الخلاء يبدأون منها مسيرتهم لزف العريس الى عرسه التي تنتظره في الخيمة المخصصة لهما، ينطلق منها الان غناء البوطويل وتتصاعد منها الزغاريد، في حين بدا الشباب بترديد اهازيج المالوف، ثم انشاد الاغنية الشهيرة في اعراس البادية المسماة رسول الهادي، يرافقهم مزمار عاشور، حتى وصلوا بالعريس الى خيمته، فانطلق اكثر من عيار ناري، وجاء احد الرجال بجرة صغيرة حطمها امام العريس حين لحظة اجتيازه عتبات الخيمة، وقد اصطفت النساء على الجانبين يزغردن قبل ان يأخذن طريقهن الى خيمة اهل العريس في الجوار، في حين عاد رفاق العريس الى خيمة الرجال.
يتبع غدا