رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة التاسعة عشرة: الهجوم الكاذب
كان رأي بانايوتي الذي افضى به للحاضرين، انه لا حاجة لابلاغ الحكومة بما حدث، او انتظارها لكي تأتي بشرطتها وسياراتها واجراءات التحقيق التي ستقوم بها، واخذ جثة القتيل لتشريحها، فهم سيقومون بدفنه في المكان الذي وجدوه فيه، وان يتم التكتم على الموضوع فلا يأتي على ذكره احد، ووافقه الجميع على ما قاله لانهم مقتنعون بما قاله اوسادن، ولا حاجة لادخاله في سلسلة من التحقيقات والمحاكمات التي لا يدري احد بما تسفر عنه، غير انه لا احد يستطيع ان يضمن رشيد، الشرطي السري التابع للسردوك، الا ان خليفة مكاري، الذي تربطه به قرابة بعيدة، ابلغهم انه لم يعد من رحلته مع المهاري الى مزده، المهم ان يتم التنبيه على كل من رأى القتيل من اهل النجع، بان يتكتموا على الخبر ولا يأتي احد على ذكره له عندما يعود، ولا لاحد غيره، اذ لا يجب ان يصل مثل هذا الخبر لاهله في جنوب الحمادة الحمراء، لانهم لو عرفوا به، لارسلوا بدل سبعة انفار جيشا يركب المهاري للانتقام له وتنفيذ رغبة شيوخ الطوارق بقتل اوسادن وزوجته، وقتل كل من يعترضهم او يقف في طريقهم حتى لو كان فريقا من الشرطة، وبدلا من قتيل واحد، ستمتليء هذه البراري بجتث القتلى.
وتم الاتفاق على ارسال عدد من شباب النجع يتولون حفر قبر للرجل القتيل ودفنه، الا ان الفقي عمار افتى بان الرجل مهما كان مخطئا ومهما كان قتله مبررا، فانه مسلم لابد من اكرامه اكرام الرجل المسلم الذي لا يجوز دفنه الا بعد تغسيله واقامة صلاة الجنازة عليه، وحاول الاومباشي جبران ان يتصدى له قائلا بان اموات المسلمين يموتون في الحروب ويهيلون عليهم التراب في مقابر جماعية، فقال بان ما يجوز في الحرب لا يجوز في السلم، وهذا النوع من الدفن هو من المحضورات التي تبيحها الضرورات، وحسما للنقاش تم تكليف نفس المجموعة باحضار القتيل الى الوكالة، بعد تدبير خشبة يستخدمونها كمحفة، وتوفير مواد مطهرة ذات رائحة عطرية، تساعدهم في قتل الحشرات التي خالطتها وازالة الرائحة الصادرة عنها، وخلف ستار من الكتان داخل هانجر الحلفاء، بعيدا عن اعين الناس وفضولهم، قام الفقيه عمار بمساعدة السيرجينتي خليفة باداء طقس الغسل لما تبقى من الجثة ووضعها في الكفن مع ما توفر من حنوط يدخل فيه الزعفران واعشاب برية زكية الرائحة، ولف الجثمان بجلباب رجالي ووحمله فوق النقالة التي استخدمت بمثابة الثابوت، وساروا به، يشيعونه الى مثواه الاخير، حيث حفروا له قبرا في ذات المكان الذي تم اختياره ليكون مقبرة للراحلين من قاطني الوكالة، منذ ان رحل رجل وامرأة طاعنين في السن من جماعة اوزو، وهو مكان يقع خلف تلة صغيرة، ليكون خارج مرمى النظر، وهناك صلوا عليه صلاة الجنازة، وحفروا له قبرا عميقا سدوه بالصخور واهالوا فوقه ترابا ممزوجا بالطين والحجارة لكي لا تجد الذئاب والضباع والكلاب طريقا الى حفره واخراج جثته.
مهما كان القتيل انسانا مجهولا، لا يمت بصلتى الصداقة او القرابة لاحد من اهل الوكالة وقاطنيها، فان مجرد موت الرجل قتيلا بينهم، مشاركين في تشييع جنازته واداء الصلاة على جثمانه، ودفنه قريبا من اماكن اقامتهم، يثير بينهم احساسا بالاسى، وينشر فوق اجواء الوكالة غلالة من الحزن تجعل النهار يجر قدميه في تثاقل وبطء وحزن، والمساء يأتي بعتمته بالغ الكآبة، يزرع في القلوب وحشة وانكسارا، وقد اختفى جو المرح واللعب الذي كان يسود المكان في مثل هذه الاماسي سابقا، خاصة في خيمة المقهى والمناطق المحيطة بها، وحل مكانه الصمت، وكان الناس فقدوا حاسة النطق.
الموت زائر عابر، والحياة هي الابقى، وكذلك الاحياء، فهم ابقى من الموتى، ولهذا فقد كان لابد للحياة ان تواصل طريقها بعد وقفة قصيرة اجلالا للموت، ففي اليوم التالى عاد اهل النجع الى الشعاب ينتزعون مع انتزاع اوراق الحلفاء لقمة عيشهم، ومعهم عاد اوسادن وزوجته تانيرت، يتعلمان بسرعة واجتهاد، افضل طريقة لانتزاع اكبر قدر من الحلفاء كل يوم، بينما يتركان للمهري حرية ان يرعى خارج الشعبة، بتغذى بالعوسج والعجرم والقزاح والصبار، وصاحب الوكالة ماض في روتينه اليومي، جالسا في مكتبه يراجع سجلاته، او جالسا تحت المظلة امامه يقرأ صفحات الانجيل، ويرفع راسه احيانا ويمد بصره الى المعبر الذي تدخل منه السيارات الى جنائن العرعار، متوقعا مجيء الشر في صورة الرائد السردوك في اية لحظة، ولكن اليوم مضى دون ان يأتي، ولا تأتي مع المساء الا سيارة شحن الحلفاء، بسائقها واثنين من مساعديه، يقضون جزءا من الليل ويحملون عبوءة السيارة، ثم يأخذون طريقهم عائدين الى عاصمة البلاد، ووقد استغرب بانايوتي ان يمر يوم ويومان وثلاثة بل اربعة ايام دون ان يحدث شيء على جبهة السردوك، مما يؤكد ان خبر موت الرجل الطارقي، قد مضى في صمت وتكتم ولم يصل خبره الى احد في مزده، والا كان هذا الاحد هو السردوك نفسه، وقد اسرع بالمجيء، جاهزا لاثبات سلطته وسطوته. انه يتعاطف مع اوسادن، ويرى فيه فتى، شجاعا، قويا، نبيلا، ويشعر بمسئولية ازاء حمايته واعفائه من اي عناء يحصل له من وراء حمايته لنفسه، بقتل رجل يتعقبه لقتله وقتل زوجته، ولهذا فهو مرتاح لما حدث، مبتهج لقفل هذه الصفحة التي تنتنج عنها متاعب للرجل لا يستحقها، وقذ ذهب اليه يزوره في خيمته مصطحبا زوجته وابنته لمواساة الزوجة الصغيرة الهاربة من قمع اهلها، لانه يحس انها ربما تكون اكثر عرضة لاحاسيس الخوف والاسى من زوجها، لانها بالتأكيد الطرف الاضعف، وقد راى ان ابنته انست اليها، ودعتها بعد الزيارة لان تزورها في بيتها، وتقضى جزءا من المساء معها، لانها مازالت لم تألف المجتمع النسائي لاهل النجع، ولم تصبح عضوا في حلقاته الى لا تنفض الا لتنعقد من جديد حول عالة الشاي، وبعد انتهاء الزيارة تحدثث انجيليكا لوالدها باعجاب عن تانيرت وجمالها وقوة شخصيتها وكيف استطاعت ان تتحدى تقاليد القبيلة، ورفضت الزواج من الرجل الذي اختارته اسرتها لها، وهو نفسه الرجل الذي جاء يقود مجموعة الفرسان لتنفيذ مهمة قتلها وقتل اوسادن، وابت الا ان تتزوج حسب هوى قلبها، هاربة مع الرجل الذي احبها واحبته، وكانت المفاجأة لابنته عندما ردت تانيرت لها الزيارة واستمعت منها الى نوع من الغناء الطارقي الشجي الجميل، تؤديه بصوت بالغ الجمال، وتعزف عزفا بارعا على الة موسيقية طارقية تشبه الساندوري اليونانية، ويسمونها امزاد، وتملك واحدة جاءت للعزف عليها في بيت انجيليكا، وافهمتها انه من تقاليد البيوت الكبيرة مثل بيوت السلاطين والشيوخ تعليم بناتهم العزف على هذه الالة، والغناء معها حفظا للتراث الفني للقبيلة، كما اسهمت في اعداد طعام العشاء، وقامت بتحضير طبق من اللحم المحفوظ بالتجفيف، والمخلوط بالخبيز واللبن الحامض، واحتفظت له ابنته بجزء منه، وجده لذيذا وتمنى على ابنته ان تقوم تانيرت بتحضيره مرة ثانية فاقترحت ان يتم ترتيب جلسة عائلية تحضرها تانيرت صحبة زوجها مع كل اسرة بانايوتي، وتكون فرصة لتحضير مثل هذا الطبق، والاستماع لغنائها وعزفها على الة امزاد.
نعم، انه يسغرب لعدم ظهور السردوك في الوكالة كل هذا الوقت، حتى لو لم يكن سمع بخبر مقتل الرجل الطارقي، فان لديه موضوعا اكثر اهمية من هذا الخبر، يتصل بمؤامراته الشخصية ومراميه الخسيسة، فقد اكمل صفقته مع الفونسو، واخذ مصادقة رئيسه هيوز على صفقاته ومشاريعه، ولم يعد هناك ما يمنعه من مواصلة السعي لتحقيق الرغبات التي صارح بها ابنته وصارح بها زوجته، رغم انه انكرها في زمن سابق امامه وامام البريجادير هيوز، ولكنه واصل العمل سرا من اجل تحقيقها، ولابد ان هذا التاخير في المجيء الى الوكالة ليس بسبب عدوله عن الفكرة، ولا دليلا على وجود مشاكل تواجهه في مساعيه، وانما هي ترتيبات يعيد بها بناء الاسس الجديدة لحياته في المرحلة القادمة، فهو رجل له زوجة واولاد واسرة كبيرة قد لا تكون في حالة توافق مع اهدافه، ولابد ان يجد طريقة لتحييد هذه الاسرة وتنحيتها من طريقه باسلوب لا يجلب له المشاكل، ولعله يسعى لتملك بيت جديد، سيكون عن طريق السلب والنهب لواحد من المساكن الحكومية، ولكن كل مخططاته، في النهاية، تحتاج الى موقف رادع صامد منه هو، يضع به حدا لرغبات هذا الرجل المريضة، وهو موقف لابد ان تساعده فيه كل من ابنته وزوجته، لانه بدونهما لن يستطيع ان يواجه الرجل مواجهة فعالة تبطل مشاريعه، واهلا بعد ذلك باي عون ياتي من خارج الاسرة، ومن اي مصدر من المصادر. واتخذ بينه وبين نفسه قرارا، هو ان يجلس جلسة مصارحة مع زوجته وابنته، ويسعى لتبصيرهما بالخطط التي يرسمها السردوك، والمعركة المفتوحة معه التي ستخوضها الاسرة بكل اعضائها، وايضا التبعات الناجمة عن هذا الموقف، وانتظر حتى عاد اهل النجع من الشعبة محملين بما جمعوه من حلفاء لوزنه، واخذ بطاقاتهم الى الحانوت واستلام ما يحتاجونه من بضاعة مقابله او نقود فائضة عادت اليهم، وحضر قليلا مع الشيوخ جلستهم، ثم استأذن معتذرا بالنعاس الذي يداعب عيونه، وكان قد اعطى خبرا مسبقا لزوجته، بانه يريد مفاتحتها وفي حضور ابنتها في موضوع عائلي اثناء العشاء، وعندما انفرد بهما في حجرة الجلوس داخل البيت، قال لهما انه يتوقع في اي لحظة مجيء الرائد السردوك، طالبا يد انجيليكا للزواج، لان هذا كان هدفه الذي جعله يعقد صفقته الشيطانية مع الفونسو ويغريه بالمال ويشترى له رخصة الوكالة لكي يتخلى له عن زوجته انجيليكا، ولابد من افهامه ان انجيليكا ليست بضاعة تباع وتشترى، هذا اولا، وثانيا فالسردوك رجل له زوجة وله واولاد وبنات، سيعمد مؤقتا الى تطليق هذه الزوجة وتخصيص بيت لها ولاولادها غير البيت الذي سيخصصه لزوجته الجديدة، لكن لا احد يدري ماذا سيفعل بعد ذلك، وثالثا فهو رجل بدوي، لن يتيح اية درجة من الحرية لزوجته كتلك التي كان يتيحها لها الفونسو، رغم غيرته الشديدة، فهو مثلا لن يسمح لها ان تخرج سافرة الوجه او تقف لتبيع البضائع لزبائن الحانوت، ولن تستطيع ان ترى احدا خارج المجتمع النسائي المزداوي المحاصر وراء جدران البيوت، وستمضى حياتها وفق هذا الروتين الذي لن تتحرر منه الا لفترات قليلة عند زيارتها للوكالة او ذهابها مع اسرتها الى طرابلس لحضور مناسبة اجتماعية لاقارب واصدقاء، او قضاء اجازة كل بضعة اعوام مع اهلها في اليونان، تستطيع بطبيعة الحال ان تحتفظ بدينها المسيحي لان الاسلام لا يمنع زوجة الرجل المسلم من ذلك، ولكن رجلا بدويا، شديد التزمت مثل السردوك، صاحب عقلية عسكرية بوليسية، سوف يحاول الضغط عليها بكل قوة للتحول للاسلام، اما ما تنجبه من ابناء فلا سبيل لاتباعهم دينا غير دين والدهم، طبعا هناك من الفوارق في العادات والتقاليد واساليب اللباس والطعام وقضاء اوقات الفراغ، ما لا حد له، ويحتاج من زوجة اجنبية ترضى بمثل هذه الزيجة جهدا خارقا للتوافق مع عادات وتقاليد اسرة الزوج ومجتمعه، ولهذا فهو مع رفض عرضه بالزواج، عارف ايضا ان امها مع هذا الرأي، تاركا الحرية لابنته اذا كان لها رأي اخر ان تفصح عنه، اما اذا كان رايها من رأي والديها، فان على الاسرة ان تتوقع الدخول في معركة قاسية مع الرجل، فهو صاحب سلطان في المنطقة، وهو صاحب الشرطة فيها، وتحت يده العساكر والسلاح والسجون، وقد افلح للاسف الشديد ان ياخذ في صفه الحاكم الانجليزي لمنطقة القبلة، ومعنى ذلك انه سيسعى بداية لتحقيق غرضه بالاغراء، ولن يكون صعبا عليه دفع اي مبلغ يطلب منه، واذا عجز عن تحقيق غرضه بهذه الوسيلة، فسيلجأ الى التهديد، الا ان بانايوتي، كما اخبر زوجته وابنته، لا يستطيع في هذه المرحلة ان يتنبأ، بنوع هذا التهديد، ربما يسعى لتدبير قضية يسجنه بها، او مشكلة يقفل بها الوكالة، او مشكلة ثالثة تنتج عنها خسائر فادحة للوكالة، كل ذلك سيهدد به، ولكن الى اي مدى يقدر على تنفيذ تهديده، هذا ما يبقى محل تخمين وتكهن، لانه ليس واثقا انه يستطيع حقا تنفيذ ما يهدد به، وكان كل ما قالته الام، هو انه قرارثقيل على ابنتها، وانها تريد ان تمهلها بعض الوقت حتى تقول رأيها، فهي صاحبة الشأن في الموضوع قبل امها ووالدها، وكان رد بانايوتي على كلام زوجته، هو ان رفض انجيليكا لزوج مثل السردوك لا يحتاج لاي تفكير، ولكن اذا كان لابد من هذا الوقت، فانه وقت ضيق جدا جدا، لان الرجل سيداهم الوكالة في اي لحظة، فهو لا محالة قادم، ان لم يكن هذه الليلة، ففي الغد صباحا اومساء، راجيا الا تكون زوجته قد طلبت مهلة لتفكير ابنتها للتدبر في المخاطر الناجمة عن الرفض، لانه لا يريد لانجيلكا ان ترهن حياتها له بسبب المخاطر، فاذا كان الامر كذلك فلترفضه وليذهب خاسئا مدحورا تلاحقه لعنة السماء، وكل ما يستطيع ان يقوله لها انه سيقف معها بكل انفاسه، ولن يستطيع ان يفرض عليها نفسه حتى لو جاء يحمل مسدسه بين يديه.
وحدث ما تنبا به بانايوتي، ففي صباح اليوم التالي وصل السردوك، الا انه جاء بشكل لم يتوقعه بانايوتي ولا احد غيره، فقد جاء برتل من السيارات الحكومية الصحراوية يكاد يوازي الرتل الذي دخل به الانجليز البلاد عقب فوزهم على قوات المحور،جاء في تل يبلغ عشرين سيارة، لا تملكها قوات الامن في المنطقة، ومعنى ذلك ان استعان بقوة تاتيه من غريان عاصمة اقليم الجبل الغربي، والسبب كما اوضح لصاحب الوكالة، ان هناك هجوما يخطط له سلطان الطوارق بعد حبس فرسانه الذين وقعوا في الاسر، فقد تبين ان لهم سوابق اجرامية، وان طلبا قد تم تعميمه بشأنهم من السلطان الامنية الفرنسية في فزان، وقد تم بشأنهم تطبيق الميثاق الذي يحكم العلاقة بين الشرطة في طرابلس والاخرى الفرنسية في فزان، لتسليمهم اليها لمواجهة القضاء، وانتقاما من اهل الوكالة الذين قبضوا عليهم، واوسادن الذي كان سبب محنتهم، قرر السلطان تانان، سلطان الطوارق في الهروج السود، تجريد حملة من مائة فارس لمهاجمة الوكالة، وما ان سمع الرائد السردوك الخبر، حتى راى، حسب قوله، ان يسرع باستنفارهذه القوة، رغبة في دفع الاذى عن اهله في الوكالة، واصر على ان يتم تزويده بقوة من الشرطة لا يقل عددها عن افراد القوة المهاجمة، الا ان قوة الشرطة تتميز عن المهاجمين، بان لديها من قوة النيران ما لا تملكه حملة الطوارق، ومع وفرة الذخيرة، وحداثة وفعالية البنادق والمدى البعيد للتصويب الذي لا تجاريه بنادق الموزر وام حريبة التي يملكونها، فانه جاء معه بمدفع جاهز لابادة المهاجمين لو تجراوا على الاقتراب من الوكالة، وهناك من القنابل اليدوية ما يكفي لشل حركتهم وضمان هزيمتهم، في بضعة دقائق بدلا من بضعة ايام، لو اقتصرت المواجهة على البنادق فقط.
واختار السردوك موقعا في الخلاء يبعد مسافة كيلو متر عن الوكالة، تجاه الجنوب، وهي الجهة التي يتوقع ان تأتي منها حملة الطوارق، وامر ان يكون موقعا للمخيم العسكري، حيث بدأ افراد قوته ينصبون خيامهم ويقيمون المتاريس امامها وهي اشولة مليئة بالتراب، يصفونها فوق بعضها البعض امام الخيم تشبه الجدران، وفي يوم واحد اكملوا نصب الخيام وتشييد المتاريس وبدأوا في حفر الخنادق واقامة الدشن ووضعوا قاعدة للمدفع، وارسل السردوك بعضا من العساكر كفرقة استطلاع ترصد المشارف التي يمكن ان يأتي منها العدو، وعاد اهل النجع مساء بحصيلتهم من الحلفاء، ليجدوا الوكالة تحولت الى هذه الاجواء الحربية، وسمعوا هذا الصخب الذي يصنعه الجنود وفؤوسهم التي تحفر الارض لاقامة الخنادق والدشن، بينما بدأت كلاب النجع معزوفة النباح، التي تواصلت بشكل يزداد حدة، وذهب في اذهان كبار السن من اهل النجع، ممن لم يعرفوا سببا لكل هذه القوات، ان الحرب العالمية قد تجددت معاركها، وان طرفا من اطراف هذه الحرب جاء ليجعل من مكان اقامتهم ميدانا للمعركة، وكان السردوك جاهزا باعطاء البنادق لمن يجيد استخدامها، مثل الاومباشي جبران، او السيرجينتي خليفة، اما اوسادن فقد طلب ان يستعين به في فرقة الاستطلاع، وانتظر واحدا من عساكره كان قد ارسله من مزده متطيا المهري، وصل مع الليل، فاشار الى اوسادن ان يأخذ هو ايضا المهري الذي يملكه، وان ينطلق الاثنان مع الفجر، فيخترقا احدى الشعاب الجنوبية، ويمضيا باتجاه الطريق الذي يتوقع ان تأتي منه الحملة الطارقية القادمة من الهروج السود، لاستطلاع اخبارها، والعودة بسرعة في حالة ظهور ادنى اشارة تنبيء بقدومها، وقد تم تزويده بمنظار مكبر يتبادل استعماله مع رفيقه في المهمة لرصد فرسان الحملة.
واحدث ما رآه الناس من استعدادات حربية، حالة من الفزع بين اهل النجع، فتجمع عدد كبير منهم، رجالا ونساء واطفالا، امام خيمة المقهى يتسقطون الاخبار، مما دعا الرائد السردوك بان يعتلى كرسيا لكي يراه الجميع، ووقف خطيبا فيهم، قائلا لهم بان ما يرونه يحدث امامهم من استعدادات عسكرية، مجرد خطوة احتياطية لابطال وتعطيل اي خطر يتهدد الوكالة واهلها وقاطنيها، وانه يطمئنهم بان هناك قوة قادرة على ردع اية عصابة من قطاع الطرق، مهما كثر عدد افرادها، وهذه القوة الموجودة تحت قيادته، لم تحشد من اجل استخدامها، وانما لتكون بديلا لهذا الاستخدام،اذ ان مجرد وجودها يشكل مانعا ورادعا لقيام العدوان، لانه لا احد يجرؤ على ان يضع نفسه في طريق قوة قادرة على سحقه ومحقه ومسحه من الوجود، وهو لا يشك بان الاخبار عن وجود هذه القوة قد وصلت الى اصحاب العصابة، وانها رجعت على اعقابها، ولن يحدث شيء بعد الان، وهو يرجو من الجميع ان يعودو الى خيامهم ويناموا هانئين في مضاجعهم، فعين الحكومة ساهرة لا تنام من اجل ضمان راحتهم وامنهم وسلامتهم.
وعندما راى حشد النساء والاطفال والصبيان ما زال موجودا، استخدم صوتا اكثر غضبا وانفعالا، ولهجة حاسمة ساخطة، في نهرهم وزجرهم والصراخ في وجوههم بان ينصرفوا الى خيامهم واكواخهم، ملوحا في الهواء بالهراوة الغليظة التي لا تفارقه، فركضوا جميعا هاربين، عندئد جلس في طاولة امام خيمة المقهى ومن حوله شيوخ النجع يتبسط معهم في الحديث ويشرب الشاي، قائلا لبانايوتي وهو يراه يتحرك في قلق بين الناس، بالا يكلف نفسه القيام باي شيء يتصل بالضيافة او توفير شيء له او لمن معه من عساكر، لان القوة جاءت بتموينها معها، ولديها طباخ وادوات طهي، وانه شخصيا سيتناول طعامه مع عساكره، وهناك خيمة مخصصة لمبيته، ولا يريده ان يشغل نفسه او اهله بشيء مما يتصل بهذه الحملة.
يتبع غدا
التعليقات