رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة السابعة عشرة: وصول فرسان الهروج السود

كانت الاحجبة بعد ان ارتاحوا في جلستهم، قد بدت واضحة تتارجح في خيوط من اعناقهم، وهي احجبة يرتديها الطوارق لتحميهم من القتل، فخطر للسيرجينتي خليفة الذي يحمل حجابا مثل هذه الاحجبة، ان يشارك بتعليق يقتبسه من وحي هذه الاحجبة، فقال متوجها لهم بالحديث:
ـــ ولكنكم لن تستطيعوا قتله او قتلها.
فقفز اكبرهم سنا يضع يده على بندقيته، التي يسندها بجوارها قائلا:
ــ ولماذا لا نستطيع؟ من تراه يمكنه ان يمنعنا؟
ــ سيمنعكم الحراس الذين يحرسونه من اهل الخفاء، فهو يرتدي مثلكم حجابا يقيه الضربات القاتلة، وكذلك زوجته.
فرد الرجل بنفس اللهجة العصبية:
ــ قلنا انها ليست زوجته.
فتدخل هنا الفقي عمار قائلا:
ــ ومن ادراك انه لم يتزوج؟
ــ ولماذا يخطفها اذا كان يملك موافقة اهلها على الزواج؟
ــ اليس اهل الفتاة مسلمون؟ اذن فان الشرع يبيح لها ان تزوجه نفسها طالما وصلت سن البلوغ، ويستطيع هو ان يعقد عليها، على سنة الله ورسوله، طلما توفر الشاهدان والشيخ الذي يكتب عقد النكاح.
تبادل الرجال السبعة النظرات، كانهم لم يعملوا حسابا الى ان اوسادن يستطيع ان يفعل مثل هذا الامر، وان تانيرت يمكن ان تزوج له نفسها دون حاجة لموافقة والدها.
ـــ ولكن هذا لم يحدث.
ـــ وماذا تقول لو انه حدث حقا؟
ــ اقول انهما مارقان عاصيان، اختارا الذهاب مع طريق ابليس، بدلا من طريق الله.
ــ اذن فتعلم ان السيد اوسادن تزوج السيدة تانيرت ابنة شيخكم على سنة الله ورسوله، وبعقد كامل الشروط، موجود فيه مقدم ومؤخر الصداق، وبحضور الشهود، وبتوقيع الفقيه الذي كتب العقد، ولمن يستطيع منكم القراءة، اقول، بان هؤلاء الشيوخ الذين امامكم، قرروا احضار العقد معهم دفعا للشر والبلاء وتغليب العقل والمنطق والعدل على الظلم والافتراء والقتل.

ودفع لهم بالعقد، الذي صاروا يتبادونه ويدققون فيه النظر، قبل اعادته للفقيه، وقد اوقعهم العقد في حيرة جعلتهم يدسون رؤوسهم في بعضها البعض ويتناقشون بلغتهم الطارقية التي لم يكن احد من الحاضرين يعرفها.
وما حدث هو انه ما ان وصل مبعوث باناياتي الى الشعبة وعرف الرجال الخمسة حقيقة الموقف، حتى احاطوا اوسادن علما بما يتهدده من مصير، وعرفوا انه فعلا لم يكن قد عقد قرانه على المرأة التي هرب بها، ولم يصل الى حل فيما يجب ان يفعله، غير ان يختبيء بها في هذا المكان الذي يستطيع ان يجد فيه عملا يؤمن به قوته وقوت المرأة التي يريد ان يبني بها، فقرروا كتابة العقد في تلك اللحظة لمواجهة حالة الطواري التي تنبيء بالخطر، واستخدام هذا العقد لانقاذه من القتل، وطالبوه بان يختبي مع امراته، والا يعود الى النجع، وسيبقى ابو فاس معهما ليكون الدليل الذي يريهما اين يختبئان وكيف يتصرفان ويتولى جلب ما يحتاجانه من طعام وشراب حتى يأتيهما الخبر بزوال الخطر، وتنازل السيرجينتي خليفة عن بندقيته نوع الموزر مع ثلاث اطلاقات، فاعطاها لاوسادن، للدفاع بها عن نفسه فيما اذا اضطرته الظروف الى ذلك، ووعده اوسادن بان يعيدها له فور عودته الى خيمته لان لديه بندقية ام حريبة ورثها عن والده، جاء الى الوكالة متسلحا بها، وابقاها مخبأة داخل الخيمة مع صندوق من الذخيرة.

اوقع في ايدي الطوارق السبعة، فالتعليمات واضحة صريحة بالقتل، ولا سبيل لاستشارة احد من كبراء القبيلة، فيما يجب عمله ازاء هذا الوضع الذي لم يكن متوقعا، لقد قطعوا سبعة ايام يتقصون اثر المهري الذي يحمل المارق والمارقة، ومعهم اكثر رجال الطوارق خبرة بقص الاثر، وهو الاكبر سنا، وربما اصرارا على اداء المهمة التي تم تكليفهم بها، انضم اليهم رجل له مكانة عالية في قومه، هو السيد يوبا، الذي يستمد مكانته من انتمائه الى عائلة من سلاطين الطوارق، ولهذا فقد علق الرجال بصرهم برئيسهم يوبا ينتظرون كلمته، والذي بدا وكأن العقد الذي قدموه له، والزواج الذي ابلغوه بانه حدث، امر لا يعنيه، ولا يعتد به، لان الزواج في عرف قبيلته لا يكون زواجا الا بموافقة العائلتين وعن طريقهما، وبشكل اكثر شدة وصرامة فيما يخص الفتاة، وهي في هذه الحالة ليست اية فتاة، وانما ابنة الشيخ الذي يأتمر بامره الجميع، ويطيعون كلمته، فكيف يكون الحال عندما تخرج ابنته عن طوعه، تعصى اوامره، وتهرب مع الرجل الذي رفضه اباها زوجا لها، فهل عندما يتزوج بها يكون هذا الزواج قد برأ ساحتها وساحته، ام هو امعان في العصيان والتمرد والتحدي، وفي هذه الحالة يجب ان يدفعا الثمن غاليا، ويدفعاه بحياتهما، هكذا هو المنطق القبلي الذي يعرفه السيد يوبا، وكانت وسيلة الفقي عمار لاقناعه هي الدين، فما يريدون فعله هو جريمة في حق الدين، لانهم يسعون لقتل رجل بريء وامرأة بريئة، ولكن اصرار الرجل الذي يتزعم المجموعة، ويتكلم باسمها، اظهره وكأنه يرى ان اوامر شيخ القبيلة، وتقاليد الشرف التي يحتكم اليها قومه، اقوى واكثر سيطرة على عقله وقلبه من الدين، ومن كلام خالق الكون، فتركه الفقي عمار لبقية اشياخ النجع، يحاولون معه بمنطق القانون، فالبلاد لها حكومة، تحتكم الى قانون، تستطيع تنفيذه بقوة السلطة وسلاح الشرطة، وهذا القانون فوق العادات والتقاليد التي تحتكم اليها القبائل، لان الحكومة تحكم كل الناس، ومثل هذا العمل الاجرامي يجعلهم في مواجهة الحكومة بسلاحها وشرطتها، وسيعرضون انفسهم للسجن والمحاكمة، بل والاعدام في حالة تنفيذ جريمتهم، افلا يجعلهم هذا الامر يعيدون النظر في قرارهم؟
وعندما رآى بانايوتي اصرارهم، توجه اليهم برجاء واحد، هو العودة الى شيخ قبيلتهم، وابلاغه بهذه المستجدات التي اخبرهم بها شيوخ النجع، وحقيقة ان هناك عقد زواج يربط بين اوسادن وابنته مكتوب بالطريقة الشرعية وعلى سنة الله ورسوله، فاذا اصر الشيخ ومجلس قبيلته على ان الفتاة مارقة، وزوجها مارق رغم الزواج، ويستحق القتل، فسيكون لهم عندئذ العذر في العودة والاصرار على تنفيذ المهمة. الا ان الاعتراض على الاقتراح جاء من كونهم لا يضمنون العثور عليهما بعد هذه المرة، وجاء رد المكاري ساخرا بانه من قال انهم حقا ضمنوا العثور عليهما، وكان هذا التعليق الساخر حافزا لبدء جولة من الكلام الساخن هذه المرة، الا انه كلام انتهى منذ بدايته، لان رجلا يحمل مسدسا دخل خيمة المقهى، وطالب الطوارق السبعة، وهم مازالوا متكئين تاركين سلاحهم ملقى بجوارهم في اهمال، بان يمتنع أي احد منهم عن مد يده الى سلاحه والا اطلق عليه النار، فبقوا متجمدين في اماكنهم ينظرون الى بنادقهم بدون ان يمدوا ايديهم اليها. كان الذي دخل هو رشيد، العون الامني الذي زرعه السردوك في الوكالة، ليكون عينا على اهلها. لم يكن ما فعله رشيد بهذه المداهمة للجماعة يلقى الارتياح من صاحب الوكالة وشيوخ النجع، ولهذا فعندما اطلق رئيس جماعة الطوارق صوتا كانه الصراخ، يتهم مضيفيه بالخديعة، طلب بانايوتي، وايده في طلبه شيوخ النجع، ان يخرج رشيد من الخيمة ويتركهم يتفاهمون بطريقة ودية مع الفريق الطارقي، وتردد الرجل كثيرا قبل ان يستجيب لندائهم بالانسحاب، لكنهم الحوا عليه، وغمز له بانايوتي من طريق خفي، ان هذا اسلم وانجح لخطته، فقد عرف انه خابر السردوك في مزده، وان هناك قوة قد تحركت من هناك، وتحتاج لوقت حتى تصل، وان رشيد ما جاء شاهرا سلاحه الا بعد ان اطمأن ان رجال الطوارق في حالة راحة واسترخاء، لكي يؤخر مغادرتهم الوكالة، حتى وصول قوة الشرطة، وكانت وسيلة بانايوتي لابقائهم، هي الظلام، فقد بدا الضوء يتراجع امام عتمة المساء، ولا سبيل امام الفريق الطارقي ان يعرف طريقا او يتقصى اثرا او يسير باي اتجاه يقوده الى غرضة في الوصول الى اوسادن، في مثل هذا الليل، لان اوسادن وامرأته سيقضيان الليل هاربين في الشعاب، بانتظار ان يشفع لهما عقد الزواج بالنجاة من القتل، وطالما انه لم ينفع، فلا سبيل امامهما الا الاختفاء، استعدادا للهروب فيما بعد، وسيبقيان يختفيان في الشعاب الى ان تزول هذه الشدة، وكان اهل النجع قد باشروا عودتهم من الشعاب، وعرفوا باخبار ما يحدث، ووجود المهاري السبعة باركة امام مباني الوكالة، وقد بدأ بانايوتي يامر عماله بان يهيئوا مكانا لنوم الضيوف، وبدأوا بان اوقدوا نارا في الخلاء المواجه لخيمة المقهى لكي تدفيء المكان وتطرد امواج البرد الليلي، وبدأ جماعة الطوارق يالفون المكان ويأنسون لاهله، خاصة بعد ان امر الشيوخ بانسحاب رشيد، الذي عرفوا انه شرطي سري يرعى الامن في الوكالة وان الامر ليس سائبا فيها، فهناك ضبط وربط وامن، وعالم يختلف عن عالم النجوع في الصحراء، وكان الشاي الاحمر الذي لم تنقطع كؤوسه عن الدوران، قد ساعد في تعميق هذه الالفة مع المكان وانهاء حالة التوتر، وجاءت الوجبة الشعبية التي يصنعها اهل المراكز الصحراوية من رقائق الخبز المغموس في مرق اللحم وفوقها قطع من ذبيحة هذا الصباح، تشكل عشاء شهيا ودسما يزيد من حالة الاسترحاء، وربما الاستلام للنوم قبل الاوان، في هذه المهاجع التي هيأها لهم العمال قريبا من النار وافرشوا المفارش ووضعوا الوسائد والاغطية، ودعوهم اليها قبل تناول العشاء، ليستمر بقاءهم فيها بعد الانتهاء من الطعام، خاصة وانهم وصلوا هذا الضحى الى الوكالة بعد ان قطعوا مفازات صحراوية استغرقت منهم سبعة ايام، لم يكن ممكنا النوم خلالها الا قليلا، ولم يكن لهم خلالها اكل الا حفنات من الشعير المحمص، وباعتبارهم قد وصلوا محطتهم الاخيرة فلابد ان النوم سيتسلل بيسر وسهولة الى عيونهم، وهو ما بدت علاماته تظهر في شكل تتاؤب اصابت عدواه كل المجموعة، الا ان ما أطار هذا النوم من عيونهم واعادهم جميعا الى حالة من التوتر واليقظة والاستنفار، هو هذه السيارات التي اقتحمت ليل الوكالة بكشافات انوارها، وهدير محركاتها وزوابع الغبار التي تنطلق من عجلاتها، حتى توقفت اما ابنية الوكالة، وهبط منها اعضاء قوة الامن، بزيهم الرسمي، وقوامهم عشرون شخصا، يقودهم القائد الامني للمنطقة الرائد صالح السردوك بنفسه، وانتظموا في حلقة حاصرت المكان وهم يقفون في حالة استعداد، وبنادقهم في ايديهم يشهرونها امامهم، وتقدم رئيسهم، يسال عن هؤلاء الرجال الذين يهددون الامن، فاحاط به بانايوتي وشيوخ النجع يصافحونه ويرحبون به، قبل ان يتحرك لياخذ مكانه جالسا فوق كرسي قدمه له عامل المقهى، قريبا من المكان الذي تناولوا فيه الطعام وهيأوا جزءا منه لنوم الفريق الطارقي، وقد نهضوا جميعا واقفين في اماكنهم وهم يرون الرائد السردوك يقوم ويمد لهم يده بالتحية وبجواره صاحب الوكالة يقوم بواجب تقديمه ذاكرا للجماعة اسمه ورتبته قبل ان ينتقل لتقديمهم له بادئا برئيسم الذي ذكر بانه بنتمي لسلاطين الطوارق جنوب الحمادة الحمراء، وعاد السردوك للجلوس طالبا من اعضاء الفريق الطارقي العودة الى الجلوس، وهو ما فعله ايضا بقية رجال النجع الذين رجعوا الى اماكنهم فوق الابسطة بينما بقى السردوك وحده جالسا على الكرسى وقد اخذ وضعا اكثر ارتفاعا وموقعا اكثر هيبة وهيمنة على الجلسة، وبادر بالقول متجها بالحديث الى رئيس المجموعة
ــ اراك تحمل سلاحا كما يحمله بقية رفاقك، فهل هذه اسلحة مرخص بها؟
اجاب يوبا بثقة ودون وجل ولا تردد:
ــ هناك اتفاقيات تحكم العلاقة بين السلطة الفرنسية في الجنوب وبين قبائل الطوارق تبيح لنا حمل السلاح.
فرد عليه السردوك:
ــ نعم، ولكن ليس في كل الاوقات ولا في كل الامكنة، فحملها لا يتعدى المنطقة التي تسكنها القبيلة لاغراض دفاعية، وانتم هذه المرة لم تخرجوا بها فقط عن حدود ارض القبيلة، بل والدخول بها الى ارض خارج الحماية الفرنسية كلها، فانت هنا في ارض الحماية البريطانية، وفي دائرة اختصاص الشخص الذي امامك، هل فهمت؟
ـــ نعم
ـــ اذن فان وجودكم بهذا السلاح اختراق صريح للقانون.
ثم صاح ينادي احد اعوانه
ـــ شاويش عمر، تعالوا اجمعوا هذه البنادق.
وبسرعة، وباسلوب المداهمة والمباغثة، انقض الشاويش عمر وخمسة من عساكره يجمعون بنادق الطوارق، بينما وقف رشيد خلف المكان الذي يجلسون فيه، شاهرا مسدسه في حركة احترازية فيما لو راودت احد منهم نفسه بالمقاومة، بينما استمر السردوك في حديثه الهاديء، المطمئن، بطريقة ودية عن الحدود الوهمية التي تفصل بين منطقة واحدة مثل الحمادة الحمراء فيصبح جزء منها تحت ادارة دولة وجزء تحت ادارة دولة اخرى، باعتبار ان هذه كلها اجراءات طارئة ومؤقتة ستزول ليفرض الواقع نفسه، وهو حديث يستهدف ان يخلق تاثيرا معاكسا للاستفزاز الذي يحمله سلبه لاسلحتهم.
ـــ سنعيد اليكم بنادقكم وسنساعدكم في العودة الى اهلكم، ولكن بعد ان نطمئن الى ان الامن مستتب، وكما تعلمون فان استتباب الامن هو من مصلحة الناس جميعا بمن فيهم انتم.

سـألهم عن القبائل التي ينتمون اليها، وعرف انهم لا ينتمون لتلك التي يشكل بعض افرادها عصابات ترهب الصحراء، تم القضاء على بعضها، وما زالت الشرطة على جانبي الحدود بين فزان وطرابلس تطارد فريقا صعب المراس، لانه ينتمي الى قبائل الهجار التي تسكن جبالا تسمى بهذا الاسم داخل التراب الجزائري، تخرج منها للغزو وتنسحب اليها بعده، وعرف ان قبائل الهروج التي ينتمون اليها، وهي قبائل طارقية ليبية، كثيرا ما دخلت في صراع مع قبائل الهجار، واراد ان يستخدم هذه المعلومات التي يعرفها عن قبائلهم، لترطيب خواطرهم، بسبب ما هم فيه من محنة، وما يعتقد انه يراودهم من احساس بالعار لانهم وقعوا في ايدي الحكومة، وقد فشلوا في المهمة التي تعهدوا بانجازها امام شيوخ قبيلتهم، فاثنى على قبائل الهروج، وافهمهم ان امثالهم ممن وقعوا سابقا في يد الحكومة، ثم برأت ساحتهم، عادوا الى قبائلهم التي اقامت الاحتفالات تستقبلهم بالفرح والغناء والزغاريد، لانهم عادوا يحملون هذه الشهادة من الحكومة بحسن سلوكهم وخلو سجلهم من السوابق، وهو ما سيحدث لهم، بل ان هناك احتمالا كبيرا، كما افادهم، بان يعودوا الى قبيلتهم باخبار تدعو الى الغبطة، اذ ان حكومة الولاية في طرابلس تدرس اقتراحا ارسلته لها المنطقة الامنية في القبلة، يقضي بانشاء فرقة للهجانة، تحفظ الامن في المعابر الصحراوية، ولا سبيل الى وجود احد في البلاد، ينافس الطوارق في القيام بهذه المهمة، ومعنى ذلك وجود خمسين وظيفة بمرتب شهري مجز، ولا مانع لديه من ان تكون هذه المجموعة التي امامه من فرسان الطوارق، هي نواة هذه الفرقة، فهاهم رجال لا يحتاجون الى تدريب، لانهم متدربون على القتال، بل لا يحتاجون الى سلاح لان بنادقهم موجودة، ومهاريهم ايضا موجودة، وسيمنحهم فرصة للتفكير والعودة الى قبيلتهم واستشارتهم في الامر، بانتظار ان يكون قرار الوالي بتشكيل فرق الهجانة قد وصل من طرابلس للبدء في تنفيذه، واستأذن منهم في اتخاذ اجراء امني احترازي، باعتبار ان هناك تهمة موجهة اليهم بالتهديد بالقتل، سيتم استيضاحها عن طريق كتابة محضر، يتم فيه اخذ تعهد منهم بالامتناع عن القيام بمثل هذا العمل مستقبلا، واعطاء الامان للرجل وزوجته، قبل اطلاق سراحهم، والعودة الى ديارهم.
ثم نهض من الكرسى مستأذنا بانايوتي في الذهاب الى الحانوت لامكانية العثور على نوع من الانواع التي يفضل تدخينها من السجائر، بينما يعرف بانايوتي ان الهدف شيء آخر غير البحث عن السجائر، وطالبه بان يعتني بضيوفه حتى يعود، ولم يكن الضيوف يحتاجون الا لهذه الاستراحة التي اتاحها لهم السردوك، ليدسوا رؤوسهم في بعضها البعض، يتحدثون في همس، بلغتهم التي لا يفهمها احد من الحاضرين، حتى لو التقط كلمة او عبارة، وقد اكتست وجوههم علامات الحنق، ينظرون حولهم في شك وريبة وحذر، مما بدا واضحا من خلاله للحاضرين، ان هناك مؤامرة صغيرة ينسجونها، الا ان احدا لا يستطيع التكهن بها، لان الحصار محكم عليهم بحيث يصعب وجود منفذ فيه، الا ان المؤامرة سرعان ما اتضحت خيوطها، بعد دقائق قليلة، وتكشفت واضحة امام الجميع، وعرفوا سر ما كانوا يهمسون به، فقد عرفوا انهم وقعوا بين براثن الحكومة، وان لا امان لها ولا لشرطتها، ولا مصداقية للكلام المعسول الذي يقوله صاحب هذه الشرطة، ولانهم لا يستطيعون الافلات من هذه القبضة مجتمعين، فقد قرروا ان يتيحوا الفرصة لواحد منهم وليكن اصغرهم، لينفذ من هذه القبضة هاربا على قدميه، ليستطيع ابلاغ القبيلة بما حدث، بدلا من ابقائهم في الظلام، لا يدرون شيئا عما حدث لهم، وفعلا تكلم الفتى الذي وقع اختيارهم عليه، يستأذن بانايوتي ان يذهب الى الحمام، فامر بانايوتي واحدا من عماله ان يقوده الى مكان دورة المياه، الذي نهض يسير امامه يحمل الفنار، ودون ان يثير هذا الخروج اهتمام احد من الشرطة، وما ان اقترب الرجل من دورة المياه، مبتعدا عن المكان الذي يحتشد فيه رجال الشرطة، حتى اطلق ساقيه للريح، داخلا في الخلاء، مختفيا خلف سجف الظلام، قبل ان ينتبه احد من رجال الشرطة الى هروبة ومحاولة اللحاق به، او تسليط اضواء السيارات الى حيث هرب دون فائدة، بينما كان السردوك يقضي وقته في الحانوت، متحدثا للسيدة كاتيا وابنتها، يبشرهما بانتهاء معاناة انجيليكا مع الفونسو، فقد افلح اخيرا في ارغامه على تطليقها، وسيكون يوم الغد هو موعد تحررها من هذا الزوج البائس وانعتاقها من اغلال زواجها الفاشل، لينفتح المستقبل امامها باذن الله وتوفيقه زاهيا مشرقا يعد باحلى المنى واجمل الوعود، واول علامات اشراقه هو هذا الطاقم الذهبي الذي يحتوي عقدا واقراطا وخاتما، سوف يتلألأ فوق صدرها، ويزين اصابعها، ويتأرجح عنقود نور من اذنها، وفتح صندوقا اخضر، مفروش وسطه بقماش الدانتيلا، فظهر الطاقم باجزائه المتوزعه توزيعا جميلا فوق المخمل اللامع الاحمرار الذي يمثل بطانة الصندوق، اذ ان هذه هي هدية السردوك لانجيليكا بمناسبة انتهاء عهد الظلم والاستعباد بالنسبة لها، وتركهما بعد ان وضع الصندوق بين يدي كاتيا، وقبل ان يسمع تعليقهما او يتيح لهما فرصة ان يعتذرا عن قبول الهدية، رجع مهيئا نفسه لاخذ الطوارق السبعة مخفورين الى مزدة، وقد هيأ للقبض عليهم سيارة البوكس السوداء، المعدة بصندوقها الحديدي لهذا الغرض، واصدر اوامره لافراد الشرطة، فاحاطوا بمجموعة الطوارق، يقودونهم الى ركوب البوكس، تاركا المهاري في عهدة معاونه رشيد ليتولى احضارها فيما بعد الى عاصمة الاقليم، اما بالنسبة للطارقي الهارب، فلم يكن هناك مجال لايقاف هروبه، ولكن لابد من تدابير احترازية لحماية اوسادن وزوجته، يكلف بها الشاويش عمر الذي ابقاه مع احدى السيارات واربعة افراد من الشرطة، وامره بان يتولى بمساعدة اهل النجع، استدعاء اوسادن وزوجته الى الوكالة، وابلاغه بان الخطر لم ينته بالنسبة له، لان الطارقي الهارب سوف يعود الى القبيلة، التي قد تستنفر مجموعة اخرى، وتستخدم اسلوبا اكثر مباغتة وخداعا لمداهمته وقتله، ولهذا فهو ينصحه بوضع نفسه تحت حماية الشرطة في مزده، وهناك سوف يجد مكانا آمنا لاقامته هو وزوجته بعيدا عن الخطر الذي يتهدده. ولم ينس السردوك قبل مغادرة الوكالة ان يبلغ الفونسو بان كل شيء جاهز بالنسبة له، لكي يأتي مع الشاويش عمر يوم الغد، لاستلام رخصة الوكالة، التي ستكون تلويحة وداع للفقر وبداية الطريق الى الثراء، وسيلمع اسمه باعتباره صاحب الوكالة التي سيعرفها الناس باسم وكالة الفونسو.

19

بكفاءة واتقان بدأ الشاويش عمر منذ فجر اليوم التالي انجاز المهمة التي كلفه بها رئيسه السردوك، ارسل رشيد الشرطي السري المقيم بالوكالة برفقة المهاري السبعة، الى مزده يعينه واحدا من عناصر الشرطة الذين بقوا معه، وارسل عنصرا آخر الى الشعبة مع دليل من اهل النجع لجلب اوسادن من هناك على وجه السرعة، وكان هو جاهزا فور وصول اوسادن وزوجته للانطلاق بهما الى مزده، وكانت المفاجأة التي تلقاها من اوسادن، هي رفضه مغادرة الوكالة، قائلا بانه قادر على حماية نفسه وزوجته، ولا يطلب عونا او مساعدة من الحكومة في هذا الموضوع، شاكرا لمدير الامن قدومه الى الوكالة لنصرته والقبض على المجموعة التي جاءت تلاحقه، ولكنه ليس خائفا من الرجل الذي فر هاربا خلف الجبال، ولا من اية مجموعة اخرى يرسلها شيخ القبيلة، لانه لا يشكو ضعفا في التصويب، ولا احتياجا للسلاح فبندقية ام حريبة التي يملكها، رغم انها تنتمي لنوع من السلاح انقرض من العالم، الا انه يملك لها مخزونا من الذخيرة لا ينفذ ويعرف في مدينة غات عائلة تتخصص في صنع نوع من البارود لتعمير هذا النوع الذي مازال متداولا لدى اهل المنطقة هناك، يستطيع في اي وقت الحصول عليه، وهناك فقيه طارقي من اهل تمبكتو، التقى به عند زيارته لاقارب له في الحمادة الحمراء، قرأ على هذه البندقية من الاوراد ودعا عليها من الدعاء ما يجعلها بندقية مباركة، تصيب اهدافها وتحمي صاحبها، وكل ما يطلبه لكي لا يكون حملها مخالفا للقانون، هو استصدار ترخيص له بحملها، بالنظر الى ما تعرض له من تهديد بالقتل، كما تعلم الحكومة، لكي يستطيع ان يدافع عن نفسه وعن زوجته بهذه البندقية.
حاول الشاويش عمر ان يثنيه عن رأيه، الا انه استسلم في النهاية لمشيئة اوسادن، عائدا الى رئيسه السردوك، بالرد الذي سمعه، وتاكيده على انه قادر على حماية نفسه.