رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة الثامنة عشرة: قتيل وسط الشعاب

كان بانايوتي قد عرف من زوجته ما قاله السردوك، عن الطلاق الوشيك بين ابنته وزوجها، ووقف يراقب الفونسو وهو يأخذ مكانه بجوار الشاويش عنتر، في السيارة التي ستقله الى مزده، وهو يشعر بكثير من الاسف والاسى، فهذا هو الفتى الذي تعشم ان يكون ابنا له يحل مكان ابنه الهارب، المارق، وقد انساق هو ايضا وراء اطماعه وضعفه، وهذا الانسياق لن يجلب الخير له، مهما كانت الوعود المعسولة التي يعده بها السردوك، كما لن يجلب خيرا لاحد غيره، وبالنسبة لبانايوتي فما فعله سيكون مصدرا للعناء، وبابا جديدا للمشاكل سيفتحه هذا التهور من الفونسو، وسيضعه في مواجهات مع رجال يركبون جياد السلطة ويحاربون بسلاحها. رفع الشاويش يده مودعا وهو يغادر الوكالة، وردا عليه رفع بانايوتي يده بالتحية، وكأنه ليس هو الذي يرفعها. كأن هناك يدا غير مرئية هي التي تولت رفع هذه اليد وهذا الذراع، بالرغم منه. ودون ان يلتفت لاحد ممن كانوا حوله، بمن فيهم شيوخ النجع الذين تخلفوا عن مرافقة عائلاتهم الى الشعبة لاكمال ما بدأوه بالامس، تركهم ومضى باتجاه الحانوت، لان هناك معركة مؤجلة مع زوجته، استحث الخطى لحسمها، واطل من باب الحانوت يسألها ان تتبعه، فسارت خلفه حتى دخل البيت، يريد ان يعرف منها كيف قبلت وكيف تركت ابنتها تقبل الهدية الذهبية التي قدمها اليهما السردوك، فقد سألها هذا السؤال على عجل عنما سمع منها حكايته، وتواترت الاحداث التي متعته من فتح هذا التحقيق معها مساء الامس، ورجع الى البيت متأخرا وكانت مستغرقة في النوم فلم يوقظها، واستيقظ صباحا قبلها، ليكون بجوار الشاويش عمر وهو يباشر تنفيذ مهماته، ولم يكن امامه وقت لفتح الموضوع الا الآن، بعد ان انصرف اخر افراد الشرطة هذا الضحى، وافهمته زوجته انها لم تكن تريد ان تقبل العقد، ولم تكن انجيليكا ايضا في مزاج يسمح بقبوله، الا ان الرجل لم يترك لهما مجالا لابداء الرأي، اذ رمى الطقم بين ايديهما، وغادر الحانوت في خطوات عسكرية سريعة، ولم تستطع ان تركض وراءه لارجاع الطقم اليه، او رميه امام قدميه اذا رفض استلامه، لكي لا تصنع مشهدا فضائحيا امام الحشود التي كانت موجودة في الجوار من شرطة وطوارق واهل النجع وشيوخه، والطقم موجود في الحانوت، فهي لم تعد به الى البيت، وابنته لم تأخذه معها، ورغم انه ثمين يمكنه ان يغري اي انسان بسرقته، فقد تركته في درج من الادراج المفتوحة، قائلة لزوجها بانه يستطيع ان يعيده اليه اذا اراد، فابلغها بان هذا ما كان سيفعله لو عرف بامره والرجل موجود في الوكالة، اما الان فان من الصعب ارساله له مع اي مرسول، لان الامر قد يزداد تعقيدا، وتنشأ حوله اشاعات واقوال لا حاجة لاحد بها، وطلما ان احدا لم يكن شاهدا على تقديمه للعقد، فلا احد يجب ان يكون شاهدا على اعادته اليه، وبتثاقل غادر البيت قائلا انه يريد مهلة للتفكير فيما يجب فعله ازاء هذا الموضوع، وعاد الى مكتبه ليشغل نفسه بالعمل على ما فاته تحريره من اوراق وما تعطل عن نقله في سجلاته من معاملات، وظل حتى انقضى ما بقى من النهار، مكتفيا بفنجان القهوة او قطعة بسكويت يحضرها له علي من خيمة المقهى، وبمجرد ان راى العتمة تكتم انفاس ضوء النهار، خرج الى الخلاء، بامل ان يجد في وحدته مع نفسه متلفعا بالظلام، فرصة لاستعادة شيء من سلامه الداخلي، لعله كان مخطئا ــ قال في نفسه ــ عندما ظن ان فرصة ان يقيم في مكان يقع في عمق الصحراء، محاطا بحلقة مقفلة من الجبال السامقة التي تغرس رؤوسها في زرقة السماء، سيعصمه من مشاكل العصر التي يربطها الناس بالمدن والضجيج والزحام وتشابك العلاقات وتعقدها في المجتمات المدنية، لانه يكتشف الان، حقيقة انه ليس للمشاكل حواجز ولا عوازل ولا موانع تحول بينها وبين الوصول الى صاحبها، في اكثر الاماكن بعدا عن العمران مثل هذا المكان، اذن ليس المكان وحده، وانما شيء اخر، هو الذي عرف اهل التبتل والرهبنة الحصول عليه، حين اعتزالهم بين الجبال، لعله موجود في نفوسهم، تعززت بالعزلة والاعتكاف، موهبة اعطاها الله لهم ولم يعطها له، ولهذا فهو لن يحصل على ما حصلوا عليه حتى لو وضع نفسه في اقصى نقطة في الكون وابعدها عن الناس وصخب الحياة، او لعلهم حين انسحبوا الى مثل هذه البقعة بين الجبال، كانوا قد فكوا الارتباطات كلها، وقطعوا الخيوط كلها، التي تشدهم الى عالمهم القديم، فاعطاهم العالم الجديد، في ارض العزلة والفراغ و الصمت، نفسه، وصار لهم حق ان يتواصلوا معه، فيفهمهم ويفهمونه، ويستطيع الواحد منهم عندئذ، الانصات الى نبض الصخور التي تغطي الجبال، وانين الاشجار التي تضربها الرياح، ويفهم لغة الجنادب والخنافس والديدان والتي تعيش في مثل هذه الشعاب والقفار، ثم انه، وليكن صريحا مع نفسه، جاء لاغراض دنيوية، يحاول ان يشتري خدمة من بشر مثله، ويصنع معهم عمرانا ويبني مجتمعا ويجلب لهم ولنفسه رزقا، ويكون رائدا لمرحلة من مراحل التحول التي تشهدها مناطق بدوية كهذه المنطقة، املا ايضا،وهو يصنع ما يصنعه، الا يكون في ذلك ما يتعارض مع حقه في ان يجد شيئا يمنحه له هذا المكان، الذي احبه منذ اول مرة رآه فيها، ربما شكله المكعب، المربع، لدائري، هو سر جاذبيته، بكل ما يملكه هذا الشكل الملتبس من اسرار الجمال، نعم، هناك دائما دوائر، في حياة البشر جميعا تلقى بلمستها الجمالية على الكون، كمثل تلك التي يصنعها الافق ويبني بها خيمته فوق رأس الانسان اينما كان، في البحر، في الحقل، في المدينة، في البادية، وهناك هذا الكون الدائري وكوكب الارض الدائري الذي نشعر به ونشعر بوجودنا فوقه حتى وان لم نكن نرى له صورة امامنا، فهناك صورة له في عقولنا، صورة له في خيالنا، ثم هذه الدائرة هنا التى تشكل دائرة داخل دائرة الكون والارض، ورغم انها الدائرة الاصغر التي قد يشكل صغرها ضغطا على الوجدان، الا انها ليست كذلك في حقيقة الامر، فهي رغم قوتها،
وقوة الحدود المصنوعة من جبال ضخمة كانه حيطان بناء كوني الهي جسيم عظيم، يبدو رغم شكل المربع الذي تبني به حيطان المعابد فهو محاط بدائرة الافق تحتظنه، وهي دائرة رحيمة، ورحمتها تنبع من هذا الاتساع، فهي تحيط بالبناء وتحيط بك كانسان وسط هذا البناء، وتمنحك احساسا بالحماية، ودون ان تشعر معها بما يكن ان تشعر به مع الدوائر ذات الضيق، والحواجز المرتفعة، التي قد توحي بنوع من الحصار، فالدائرة هنا ليست حصارا وانما حرية، وهذا الاتساع وهذه الحرية، يشعر بهما الان، وهو لا يرى الدائرة في وضوحها واكتمالها كما هي في النهار، فقد حجب الليل، رغم الشهب المضيئة،هذا الوضوح، ولا يرى الجبال الان الا رؤية شبحية، ويرى الفضاء مليئا بالكتل السوداء، التي لا يستطيع رغم وجودها ورغم ثقلها ان يلمسها، هكذا هو الظلام كيان مرعب ثقيل قوي، وتمد يدك لتلمسه فتجد انه لا وجود له، انه الفراغ، فهل يكون للفراغ كل هذا الثقل، كل هذه القوة، كل هذا الكيان الذي يبدو مهولا عظيما، ولكنه لا يشعر باي رعب او خوف، ربما العكس هو الصحيح، فالاحساس بالحرية ولاتساع رغم ظلال العتمة وكثل الظلام لا يفارقه.
يخامره احيانا احساس بالذنب، لانه اقتحم هذه البادية، بمشروعه الذي يغير طبيعتها، ويلوث نقاء الهواء فيها، ويبدل بعض نواميسها بنواميس جديدة مجلوبة من عالم العمران ومجتمعاته، ولكنه يعود ويقول في نفسه اليست هذه هي رسالة البشر منذ ان خلقهم الله، اي تعمير الارض وتغيير وجه الطبيعة وتحويلها الى بيئة مسخرة لخدمة الانسان وتحسين معيشته، اليس فيما يفعله شيئا يتفق والمهة التي كلف الله بني آدم عندما استخلفهم في الارض، الا انه يرى ان حجم المشاكل لا يتضاءل وهو ينسحب من المدينة الى الصحراء، انه يتزايد بدل ان يتناقص، وكأنه يجني حصاد شيء زرعه، اثما او خطيئة، وعملا لم يكن مفروضا ان يعمله، ويبحث في حياته عن شيء قام به يخرج عن روتين حياته العادي، فلم يجد الا افتتاحه لهذه الوكالة وانتقاله للعمل في الصحراء، فهل هو حقا يتقاضى عقابا على مثل هذا التحول في حياته، وهاهي فصول المعاناة التي بدأت مع حياته الجديدة في البادية، تتبع بعضها بعضا، فهي لم تنقطع منذ ان وطات قدماه هذا المكان، واخر حلقاتها هي هذه الصفقة التي عقدها الفونسو مع السردوك، راضيا ان يقايض زوجته بوكالة حلفاء يشترون له رخصتها، ويتكلفون باعطائه مالا كثيرا يبدأ به مشروعه، فهو يعرف ثمن الرخصة لانه دفع مثله في رخصة هذه الوكالة، الفرق بينه وبين صهره انه كان رائدا في هذا المجال فلم يكن هناك منافسون له، بينما هو فاز على منافسيه بالتزييف والغش، ويعرف ان كبار موظفي الدولة، خاصة عندما يستفردون بالمناصب في الارياف، وفي عزلة الحكومة المركزية، تضيع لديهم الحدود بين جيوبهم الخاصة وبين خزينة الدولة، بدءا من نائب الوالي الى السردوك الى مدراء النواحي، جميعهم يستبيحون المال العام، ويحيلونه الى مالهم الخاص، لا فرق بين هيوز الانجليزي وبين السردوك الليبي، وبين المدير البدوي في نقطة من نقاط الصحراء. انه لا يعرف ما الذي يجعل نائب الوالي يرجع في كلامه، ويأتي ليقول الكلام الذي يردده مدير الامن، مع انه شرح له كل ما يدبره الرجل مما هو مخالف للقانون ومخالف للاخلاق ومخالف للاعتبارات الانسانية، فلمن يستطيع ان يشتكي الرجل، بعد ان اشتكاه لنائب الوالي الانجليزي، الذي هو اكثر ثقافة ومعرفة وتمدنا من السردوك، ويملك المنصب الاول والاعلى في المنطقة الذي يتقدم كل المناصب، فهو رئيسه الذي يستطيع ردعه، ووضع حد لانحرافاته، فهل يحاول الوصول الى الوالي في طرابلس للاستعانة به على مقاومة هذا الحال الشائه الممسوخ، ولكن كيف للوالي، ان يترك كلام نائبه، ويأخذ كلامه هو، اليس مناقضا للمنطق ان يصدقه وينبذ كلام نائبه، على الاقل بالنسبة للمنطق الحكومي، الذي يقتضي ان يستقى الوالى معلوماته من نائبه لا من خصوم هذا النائب، ومعنى ذلك ان وضعه سيزداد سوءا، خاصة اذا تحول الوالي ونائبه بالضرورة الى خصوم له، فمن تراه يقدر ان يواجه حاكما في موقع نائب الملك، مستخدما الشعار الامبراطوري لبريطانيا شعارا له، ان مثل هذه الخصومة، غالبا ما تحمل معها شرفا يعادلها جسامة وخطورة، فمن تراه يبلغ هذه المرتبة العالية، مرتبة ان يكون ندا لنائب الملك في ليبيا يواجهه ويضع راسه براسه.

حملت انسام الليل الباردة صوت ذئب يعوي، بين الشعاب يرد على ذئب في مكان اخر، فبدا له ان العواء الاخير يأتي من مكان قريب، وانه اوغل ماضيا في الخلاء الى حد الاقتراب من قدم الجبل حيث تتكاثف اشجار السدر، يتصاعد منها صرير الجنادب التي تحتمي بها، ومن فوقها الشعاب بكهوفها التي تأوي اليها الضباع والذئاب، بينما تراجعت اصوات حيوانات النجع الاليفة، ثغاء شياهها ونباح كلابها، كما تلاشت اضواؤها وترجعت فلم يعد يظهر لها اي بصيص خلف الظلام، فعاد ادراجه متمهل الخطى، وهو يحس انه اقل انفعالا وهياجا مما كان عليه امره قبل ان يغادر اجواء البيت والمكتب. ولحظة ان دخل صالون بيته، راى انه عاد من جولته بحصيلة من الافكار التي لن يضيره تقييدها في كتاب اليوميات.
(( لعل اهم ما كانت تقوله هذه الانسام الباردة التي تحمل معها عواء ذئب في الشعاب القريبة، يرد علىه عواء ذئب في شعاب ابعد، او هذه العتمة التي تسبل استارها فوق جسدي عندما اسير عبرها فاحس بانني احتمي بها من نفسي، واخبي عندها جزءا من ذاتي يريد ان يبقى مختفيا ولا مرئيا لجزء اخر من ذاتي، او هذه الصفوف من الجبال التي تتحول ليلا الى اشباح تجمدت منذ مليار عام، هو ان لاشيء جديد، حتى المشاكل التي تطل برأسها وكأنها تعبر عن معطى جديد من معطيات الواقع والحياة، هي مشاكل ليست جديدة ابدا، بمعنى انها مهما كانت جديدة فهي جزء من روتين قديم، يجري بين ضفتي حياتنا، كما يجري ماء النهر في النهر الذي نراه اليوم فلا نرى جديدا عما رايناه من عام مضى، ولا نشعر بشيء غير مألوف طرأ عليه وجعله يختلف عما الفناه منه وعنه، رغم انه يتدفق بماء جديد في كل ثانية، فهو بالنسبة لنا نفس المشهد ونفس الماء يجري بين ضفتيه، هكذا هي احداث حياتنا، مهما جاءت بجديد، فهي في الحقيقة ليست جديدة، ولهذا فان هذه التطورات اذا اعتبرناها كذلك، مثل كلام نائب الوالي الجديد وهو يسحب كلاما قاله مناقضا لكلام السردوك، او ما قالته كاتيا عن طلاق انجيليكا الوشيك، او ما سوف تسفر عنه مؤامرات السردوك، واستجابة الفونسو له، وامتلاكه لعقد الوكالة الجديدة، وغير ذلك من احداث تاخذ قالب التطورات الجديدة، يجب التعامل معها باعتبارها جزءا من روتين قديم، حالها حال احداث مرت عليها بضعة اعوام، دون فزع ولا رعب ولا خوف، ومواجهتها باعصاب هادئة، دون ان يفقد الانسان توازنه وثباته، وكا عبرت تلك الاحداث التي مرت عليها اعوام واعوام، فستعبر هذه الاحداث وسوف نعبرها، تدور حولنا او ندور حولها، وهي نفسها سوف تصنع جدلية للتعامل معها، ستعتني بنفسها او تعتني بكلمات اخرى بخلق الحالة التي تستجيب لها وتبعث في النفس الحيوية والقوة التي تجابهها، كالفعل الذي يستدعي رد فعله والتحدي الذي يخلق في النفس تحديا موازيا له في القوة. لا ليس هناك اي سبب للفزع، او حتى الانزعاج، لان الفزع او الانزعاج انما هما خصم وانتقاص من قوة الانسان، خاصة في حالة الاستنفار المادي والمعنوي التي تفرضها عليه ملابسات الحياة ويكون محتاجا معها لكل ما لديه من قوة ))

في الصباح عندما صحا بانايوتي وخرج من بيته الى مكتبه، وجد ان الفونسو يعود مبكرا يحمل معه ورقة طلاقه من انجيليكا، مصدقا عليها من القسم البلدي لاحوال المدنية في بلدية مزده، ولم يفاجأ اطلاقا بهذه التطورات، وعندما جاءه في المكتب يحمل صرة صغيرة من الليرات الذهبية باعتبارها مؤخر الصداق الذى نص عليه عقد القران، لم يفتح الصرة ولم يعبأ بعد الليرات، ولم يجد كلاما يعلق به على ما قاله الرجل، مجرد انه استلم الصرة ورمى بها في درج مكتبه، وكان قد جاء مصطحبا معه شابا ممن يعملون ملتحقين بالشاحنات معاونين وعتالين، وقال لبانايوتي، مشيرا للرجل، بانه من اولاد باب البحر، اسمه شكري، وانه سيأخذ مكانه في العمل، وقد هيأ لنفسه مكانا لنومه في ذات المكان الذي كان يقيم فيه الفونسو قبل الزواج، وقد قام بتدريبه استباقا ليوم يغادر فيه الوكالة، وهو ما سيفعله بعد لحظات، طالبا الاذن من بانايوتي في هذه المغادرة، ليواصل العمل في وكالة يكون هو صاحبها، وعندما لم يسمع ردا من بانايوتي، انحني على يده يقبلها، ويقبل راسه ويسأله السماح، ثم تركه وقد امر شكري ان يعود الى هانجر الحلفاء، وذهب الى كاتيا في الحانوت ففعل معها نفس ما فعله مع زوجها،واكتفي بان مد يده لانجيليكا مودعا، فرفضت ان تمد يدها له وانخرطت في البكاء، وقد وضعت رأسها بين يديها ثم انكفأت به على احدى ارفف الحانوت.
كان الفونسو قد جاء في سيارة حكومية، وهي التي عاد بها حاملا ملابسه واغراضه، ولم يكن اهل النجع قد حضروا هذا المشهد، لانهم كانوا جميعا قد انطلقوا لعملهم في الشعاب.
ورآها بانايوتي فرصة ان يذهب في هذه اللحظات لزوجته وابنته في غياب الزبائن، ليرى رد فعلهما، ودخل الحانوت قائلا، محاولا ان يخفف من اهمية ما حدث:
ـــ لم استطع ان اثق في هذا الولد، حتى بعد ان اصبح صهرا لي، ولهذا لم يفاجئني سلوكه الدنيء.
ــ لم يكن منذ البداية كفأ لانجيليكا، ولولا ما حدث من هجوم اخيها عليها، ومحاولة انزال ستار على ذلك الهجوم، ما كان هذا الوغد لينال ظفرا واحدا منها.
ـــ هذا نوع من الناس يعطيك فرحتين، فرحة عندما صار زوجا لابنتنا، في ذلك الوقت الصعب، وفرحة عند خلاصنا منه، فارجوك يا انجيليكا لا تعتبرينها مناسبة للبكاء، وانما مناسبة للفرح كما قلت.
كانت انجيليكا مازالت تنكفيء برأسها فوق الرف، وقد تحول بكاؤها الى مجرد همهمة تشبه البكاء، فاضافت الام تشجعها على التجلد:
ـــ صدق والدك فيما قال، انه رجل لا يستحق ان يبكي احد لفراقه.
ـــ انني لا ابكيه يا امي، وانما ابكي حالنا وحال غربتنا في هذه البلاد.
فاسرع الاب بالرد قائلا:
ـــ لا تقولي هذا الكلام، انها بلادنا، وهنا مورد رزقنا، وهو مكان لا يختلف في شكله ومناخه عن تلك البادية اليونانية التي جاء منها اجدادنا.
ـــ انهم يونانيون هناك
ـــ ونحن يونانيون هنا، والناس هم الناس، هنا وهناك، الفرق في وجود السيء والجيد منهم، وهي تكاد ان تكون نسبة واحدة في العالم كله
وتدخلت الام لتطمئن ابنتها
ـــ ها انت هنا، في هذه اللحظة، في هذا المكان، بين ابيك وامك، اليس هذا كافيا لان يطرد اي احساس بالغربة في حياتك؟ هيا تعالى ندخل البيت، سوف تغسلين وجهك، وترتاحين قليلا بينما اعد لكما الغذاء، وسيتولى والدك امر الدكان.
كان بانايوتي يعرف ان الامر لن ينتهي عند هذه الورقة التي جاء بها الفونسو، او عند مغادرته الوكالة بلا عودة، وانما هناك تطورات يتوقع حدوثها مع كل لحظة تأتي، يجب ان يهيء نفسه للتعامل معها، وبينما كان يتطلع في اليوم التالي الى المنفذ في الجبل الذي تأتي منه السيارات، ليكون مستعدا لاستقبال هذه التطورات، اذا به ينتبه الى شيء يحدث في اتجاه غير الاتجاه الذي تأتي من السيارات، وانما من اتجاه الشعبة التي يقتلع فيها الناس اعواد الحلفاء، فمع الضحى، وفي وقت لا يتفق اطلاقا مع وقت عودة الناس من الشعاب، راى افواج اهل النجع تتدافع قادمة باتجاه الوكالة، يسرعون الخطى ويصنعون ضجيجا بما يصدر عنهم من اصوات، ولا يحملون معهم حزم الحلفاء،و لا يسوقون امامهم حميرا، فقد تركوا ذلك في الشعبة، وجاءوا وكأن امرا جللا دعاهم للمجيء، تاركين كل شيء وراءهم، وعرف فور وصولهم، طبيعة هذا الامر الجلل، وهو وجود رجل قتيل مرمي في احدى الحفر، وارتال النمل والخنافس والديدان تزحف فوق بقايا جسمه لان الذئاب والضباع يبدو انها نهشت مقدارا من جسمه،حيث وجدوه في مشهد هربت من رؤيته النساء وجعلت الاباء يدفعون بالاطفال بعيدا عنه كي لا يورثهم الكوابيس اثناء نومهم، وقد اهتدى بعضهم الى ان القتيل ليس الا ذلك الطارقي الهارب من الجماعة التي اخذتها الشرطة للتحقيق وذلك من خلال الحجاب الذي ظل موجودا والذي كان يرتديه كل اعضاء الفريق الطارقي، ويبدو انه مضروب باطلاقة في صدره، منذ مساء الامس فيما يبدو، وقد نزف كثيرا حتى تكونت بحيرة سوداء متخثرة من الدم تحت جسمه، وقد تركوه حيث هو، الى حين ترتيب وسيلة لنقله ودفنه. وبسرعة سأل بانايوتي شيوخ النجع عند اكتمال عودتهم لعقد اجتماع في صالون بيته، وكان اول ما سألهم عنه باعتبارهم جميعا كانوا في الشعبة، عما اذا كان احد منهم قد رأى اوسادن، فعرف منهم ان اوسادن لم يظهر في الشعبة هذا الصباح، لانه كما اخبرهم احد جيرانه، لم يغادر خيمته، وان زوجته اخبرت هذا الجار بان زوجها يمر بوعكة صحية، وقد بقيت هي ايضا للاعتناء به، وصارح بانايوتي الجماعة، بانه يشعر بان لاوسادن علاقة بمقتل الرجل الطارقي، ويحسن قبل النظرفي اي شيء يتصل بهذا الموضوع، ارسال مرسول الى خيمته لامكانية ان يتحامل على نفسه ويأتي لحضور طرف من الاجتماع، وعندما ذهب الولد الذي ارسله بانايوتي اليه، وجده مرتديا ملابس الخروج، مستعدا للمجيء معه في التو، وحال وصوله، لم يكن محتاجا لكي يسمع اسئلة بانايوتي عما حدث، فقد اخبر الرجال المجتمعين، بان ما توقعه جماعة الامن كان توقعا صائبا، وهو ما كان واثقا من حدوثه، وهو ان الرجل الهارب سيحاول قبل عودته الى شيخ القبيلة ان ينفذ المهمة، بالانابة عن رفاقه الذين تم القبض عليهم، لان مثل هذا التنفيذ سيغطي الفشل، ويمسح الاحساس بالعار الذي سيلاحقهم، ولهذا بقى اوسادن في حالة استعداد لملاقاته، واحس به يترصد له منذ وصوله الى الشعبة، ويتبعه من بعيد دون ان يستطيع ان يتبع زوجته لانها كانت ترتدي رداء بدويا يحجب شعرها ووجهها، وقد اتخذ الرجل الهارب مخبأ بين الصخور في مكان مرتفع، يحاول ان يجد فرصة لاقتناصة بمجموعة سهام صغيرة ذات رؤوس مطلية بمادة سامة، يعرف ان بعض فرسان القبيلة يستعملونها ويخبئونها داخل ملابسهم، كبديل للبندقية اذا حدث وان سلبتها السلطة من الفارس، ولانه كان موجودا وسط مجموعة من اهل النجع يجمعون الحلفاء فلم يكن سهلا اقتناصه، الا اذا ابتعد عنهم، ولانه كان واعيا بان هناك من يرصد حركته ظل ملتصقا بالجماعة، حتى حان موعد انتهاء جمع الحلفاء ومغادرة الناس للشعبة، اختار اوسادن ان يتخلف عنهم تاركا زوجته تعود مع نساء النجع، وسعى لاستدراج الرجل، منتقلا بين الصخور في محاولة لخداعه واشعاره بانه يستطيع ان يستفرد به ويرمي نحوه بالسهم القاتل، واخذا في نفس الوقت حذره منه، صاعدا الى منطقة اكثر ارتفاعا من موقع اختبائه، محتميا بالصخور، بحيث يستطيع ان يرى الرجل وهو يعطيه احساسا بانه لا يراه، ولا يعرف بوجوده، وعندما باغته باول سهم رماه به، كان في حالة انتباه وحذر، فاستطاع ان يتفاداه، ويزحف بين الصخور متقدما منه، وعندما رآه يرفع يده بالسهم الثاني، باغته باطلاقة في راسه، من بندقية ام حريبة، وهي بندقية لا يصدر عنها دوي كبير عند اطلاق الرصاصة على هدف قريب، وكان قاصدا ان يصنع اقل قدر من الدوي، لكي لا يجلب انتباه الناس اليه، رغم ان اهل النجع كانوا قد غادروا الشعبة، والعتمة بدأت في زحفها الحتيث تطوق المكان، ولم يكن في حالة نفسية تسمح بالبقاء لدفنه بكل ما يقتضيه ذلك من جهد لحفر القبر، وكل ما فعله ان جره الى اقرب حفرة وتركه هناك، عائدا الى خيمته، وهو يشعر
بالاسف لانه كان مرغما على قتل رجل جاء يتربص به لقتله وقتل زوجته لو وجد اليها سبيلا، فهو لم يفعل ما فعله الا دفاعا عن نفسه، ولهذا فانه ينقل لهم الحادث كما حصل، وقد احضر السهم الصغير الذي كان بحجم السكين يريهم اياه وقد وضعه في محفظة جلدية، ممسكا به في غاية الحذر بسبب نسبة السم الموجودة في راسه المدبب، قائلا بانه على ثقة من ان اية محكمة سوف تحكم عليه بالبراءة، اذا مثل امامها، مستعدا لتسليم نفسه الى الحكومة لو جاء من يطلب منه ذلك

يتبع غدا