رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة الثانية والعشرون: المواجهة مستمرة

لم يكن هناك احد موجود من شيوخ النجع وعائلاتهم، فجميعهم يمارسون عملهم اليومي في الشعاب، ولم يكن هناك الا بعض العمال الذين امرهم بالبقاء لخدمة الضيفين الكبيرين، واحضار ما يقتضيه واجب الضيافة من قهوة وشاي ومشروب، لاهجا طوال الوقت بكلمات الترحيب بضيفه نائب الوالي، متمنيا عليه ان يبقى للغذاء، فيقبل الوالى مشترطا ان تكون الوجبة يونانية، فامر بانايوتي احد عماله بنحر جدي ومباشرة القيام بشواء لحمه، فاجمل موائد اليونانيين كما اخبر نائب الوالي تبدأ باللحم المشوي، مصحوبا بالسلطة الخضراء المخلوطة بجبنة الحلوم وزيت الزيتون مع شراب الاوزو، ولم يكن هناك مانع لدى نائب الوالي ان يبدأ منذ الان بشراب الاوزو، مع مازة الجبنة والخيار والزيتون، فيما اعتبره نخبا يشربه معه، لسبب سيعرفه بانايوتي بعد لحظات، وطبعا لم يكن يستطيع السردوك ان يشارك في شراب الاوزو، مكتفيا بعصير البرتقال المحفوظ، وسأل الوالي بانايوتي ان يجلس بجواره، ويتوقف عن الانشغال باعداد الغذاء، لانه يحتاجه لان ينصت لما سيقوله له من كلام، مكررا ما اشار اليه من سبب لشرب الانخاب، مفضلا ان يتم هذا الكلام قبل ان تزدحم الوكالة باهل النجع المنشغلين في الشعاب، وهو يعرف ان زميله السردوك قد سبق وتقدم لطلب يد ابنته انجيليكا، ويعرف ايضا ان طلبه لم يجد الاستجابة منه ومن ابنته وامها، وهو يريد الا ان يعيد عرض الموضوع في ضوء جديد، هو ضوء معرفته بالسردوك وقناعته بعمق المحبة التي يحملها لانجيليكا، وحرصه على ان يضع بين يديها كل اسباب السعادة، مع استعداده لازالة كل شيء يشكل عقبة في سبيل اسعادها عند اقترانها به، فقد فك ارتباطه مع زوجته الاولى، وهيأ لها ولاولاده منها بيتا خاصا بهم، كما خصص بيتا واسعا انيقا جميلا لزوجته الموعودة التي سيتفرغ لخدمتها، متيحا لها فرصة ان تقضي الوقت التي تريده مع اسرتها والذهاب في الاجازات الدورية الى اثينا معها، وقد فكر الرائد السردوك في المهر الذي يليق بابنته، ويتيح لبانايوتي الانتفاع به، كثمن لتنشئته وتربيته لهذه الابنة، حتى وصلت سن الاكتمال والنضج والانثوي، وقد استشاره فيما قرر تقديمه، ورآه فعلا، مهرا لائقا ثمينا، لا يجوز لبانايوتي ان يرفضه، ثم مد البريجادير هيوز يده بكأس الاوزو، يقرع به كأس بانايوتي، طالبا منه ان ينهض ويمضى معه ليريه هذا المهر، ولم يكتف بالكلام، بل رشق ذراعه في ذراع بانايوتي يسحبه معه، ويقوده يتبعه السردوك، الى السيارة الصحراوية المرافقه، وسال احد اعوانه ان يرفع القماش الشمعي الذي يغطي باب صندوق السيارة، فاذا بوجود جواد جميل يلمع سواد شعره رغم عتمة المكان، والسيد هيوز يثني على جمال الجواد، قائلا بان الرائد السردوك، راى ان تقاليد البادية تعتبر امتلاك الجواد شرطا من شروط الوجاهة والقيادة ووسيلة للاستمتاع بهذه الفضاءات التي تتيح لصاحب الجواد ان يركض به عبرها، ويرجوه ان يقبل هذا الجزء الاول من المهر، اما الجزء الثاني، وهو اكثر اهمية وقيمة، ويكمل مهمة الجواد ويتجاوزها، لانه ينفع ان يسمى جواد العصر الحديث، باعتباره قادرا على قطع مسافات تعجز الجياد عن قطعها، ويهديه اليه، عارفا انه رجل حضري، يحتاج الى وسيلة حضرية حديثة للنقل، تزاوج بين حياة الصحراء التي يعيش فيها السيد بانايوتي، والمدينة التي لا يستغنى عنها، وهذا الجزء من الهدية هوهذه السيارة الصحراوية التي تحمل الجواد وهي سيارة جديدة المانية الصنع دفعت بها المانيا الى السوق من نوع الفولكس لتنافس الجيب وتتفوق عليها وهذه احدى سيارات الدفعة الاولى ذات الطابع المدني والدفع الرباعي، لانها لم تستخدم سابقا الا في المجال العسكري، يقدمها اليه لتكون اداة للتحرر من ربقة المكان، يستطيع اذا اراد ان ينقل بها اسرته لقضاء عطلة الاسبوع في طرابلس والعودة في اليوم التالي، ويرضي فضوله للاغتراف من المعرفة بكنوز الصحراء ومعارضها الاثرية المفتوحة، عن طريق الطواف عبرها بهذه السيارة، وهي سيارة جديدة، مجهزة باحدث وسائل الراحة، كلفت السردوك اموالا كثيرة، وباع من اجلها قطيعا من الابل، وهو يرى ان كل شيء يهون في سبيل ارضائك وارضاء العائلة، وسيوفر بعد ذلك الالبسة والحلي، بما لا يستطيع ان ينافسه فيه اي رجل آخر، او يقدمه عريس لعروسه في هذا الجزء من العالم، ثم قال وهو يعود ليستأنف جلوسه ومواصلة الشراب، بانه لم يرض بالقيام بهذه الوساطة، والمجيء الى بانايوتي في وكالته، الا بعد ان رأى صديقه الرائد السردوك، يتقدم بهذا المهر المشرف الذي يعبر عن مدى تقديره لاصهاره، وللسيدة التي يريد ان يبني بها quot;راجيا ان اسمع منك ما يفرحني ويفرح هذا الصديق quot;.
وببالغ التأثر، وبصوت متهدج يلونه الانفعال، تكلم بانايوتي معبرا عن اكباره وتقديره لهذا التكريم الذي يشرفه به نائب الوالي، وهو يحضر اليه في مكان عمله واقامته، ولن يكون بامكانه اطلاقا ان يتأخر في تلبية اي طلب ياتي من اجله، لو ان هذا الطلب خاصا به، ولكنه طلب يخص شخصا آخر لا يملك لا شرعا ولا قانونا ولا دينيا ولا مدنيا، ان يفرص عليه شيئا كهذا، يتصل باخص خصوصيات حياته، دون رضاه، ولا وجود لغير معنى واحد لتفسير قبوله بالمهر، اذا قال انه يقبل به، هو فرض هذه الزيجة على ابنته، وهو ما لا يرضاه الخاطب نفسه، ولا يرضاه نائب الوالي، وكل ما يقوله هو ان يتناول ثلاثتهم الغذاء، ثم يسال زوجته وابنته ان تتفرغا للانصات للكلام الذي يحب ان يقوله لهما، ويعاهده بانه سيكتفي بالصمت والاستماع لما تقوله صاحبة الشأن ردا على كلامه، دون تدخل منه، ودون ابداء كلمة اعتراض واحدة، بل ودون اي تعليق، فان وافقت فهو سيكون سعيدا بهذه الموافقة، مرحبا بقبول الهديتين الثمينتين واثقا انه ستكون فيهما الكفاية عن تقديم اي شيء سواء كان ذلك حليا اوثيابا، لان ما تبقى سيكون واجبا هو الذي يتولاه، وسيجهز ابنته بما تحتاجه من مصاغ ولباس، وتزف اليه بكل بهجة وفرح، وان لم توافق، فلا يملك عندئذ الا الاعتذار عن قبول الهدية او المهر، مبديا اسفه لنائب الوالي لما تكبده من تعب المشوار.
ونهض بعد ان قال هذا الكلام مدعيا ان لديه شيئا يستوجب عمله، وحقيقة الامر انه يريد للحديث ان ينتهي عند هذا الحد، فلا مجال للمط والاطالة في موضوع يعرف انه محسوم بالنسبة له ولاسرته، الا انه سيلتزم بما قاله لنائب الوالي، ولا حاجة في هذه اللحظات ان يخبر ابنته وزوجته بما حدث، وسيترك الموقف يسفر عن نفسه، ولابنته ان تعبر عن نفسها في حضور الضيفين، تاركا لها حرية الاختيار، والرد سلبا او ايجابا. انه يعرف رأيها، ويوافقها عليه، ويتمناها ان تتشبت به، ولكنها ان رأت في الامر شيئا جديدا يستوجب اعادة النظر، فليعطها هذا الحق، وسيحافظ على وعده، بالا يتدخل فيما تريده وترضاه.
غاب عن ضيفيه دون احساس بالحرج او الاثم لانه يتركهما بمفردهما، فهما يعرفنان ان لديه عملا، اضافا هم اليه عملا آخر بتحضير مأدبة لغذائهما، فليواصل السيد هيوز، استهلاك الاوزو، الذي لن يجده في اي مكان في هذه الصحراء، غير هذا المكان، وليشرب حتى الثمالة اذا شاء، لقد ترك امامه زجاجة عبوءتها ليترا كاملا، تصبح باضافة الماء ثلاثة ليترات، اذا كان لديه جوف لاستيعابها، لانه لم يشاركه الا بكأس واحد مجاملة، فعلاقته بالاوزو، ليست علاقة نهارية، انما ليلية ولكنها ليست علاقة معاقرة تتواصل كل ليلة، بل مرة يهزه فيها الشوق اليها بعد مسافة من الابتعاد، ثم انهما يستفردان به في وقت لا وجود فيه لاحد من شيوخ مجلسه، وهذا الاستفراد لا يرتاح اليه، وهو استفراد سيستمر اثناء الغذاء، وبعد الغذاء عندما يأخذهما الى بيته للقاء زوجته وابنته، راجيا بينه وبين نفسه، الا يكون في هذه المواجهة اية قسوة بالنسبة للمرأتين، فهي مواجهة لا تخلو من حرج، وقرار احالة الامر اليهما، قد يحمل شبهة انه يهرب من المسئولية، الا ان هذا ما اقتضاه الموقف ولا يستطيع الان ان يتراجع عما قاله لنائب الوالي، الا انه راى وهو يرفع بصره نحو الافق، باحثا عن ذريعة ينشغل بها عن مصاحبة الرجلين، شيئا يحمل بصيص امل في وجود من ينقذه من عبء ان يستفردا به، راى اوسادن يركب المهري عائدا من الشعاب يرفد زوجته من خلفه، وارسل مسرعا القهواجي علي، الذي كان منهمكا في تحضير الشواء، ليعرف ما يحدث ووقف محل الولد يرقب النار ويقلب الاسياخ التي تحمل اللحم، ويتابع من مكانه البعيد ما يحدث لاوسادن وزوجته، فقد رآه يأخذ زوجته بين ذراعيه بعد ان يبرك المهري، ويتجه بها الى الخيمة، وانتظر واقفا امام خيمة المقهى يتلقى صهد النار، ما ياتي به علي من اخبار، فعرف منه ان تانيرت اصيبت بضربة شمس، الى حد الاغماء، فانتظر زوجها حتى استعادت وعيها واركبها على المهري وعاد بها الى الخيمة، فذهب بانايوتي مسرعا الى امراته يسألها ان تبحث عما يمكن ان تجده في الحانوت من اسعاف تاخذه الى خيمة اوسادن، لانقاذ تانيرت، وبالذات بعض حبات الاسبرين التي يعالجون بها ارتفاع درجة الحرارة، وتترك لابنتها ما تبقى من مهمات اعداد الاطباق المرافقة للشواء، فاصرت ابنته ايضا على الذهاب مع امها، فصديقتها تانيرت اولى بالخدمة من هؤلاء الضيوف، خاصة ان الطبق الرئيسي وهو الشواء، هناك من يتولى تجهيزه، كما سبق اعداد طبق السلطة، واذا احتاج الضيفان الى قهوة فليعدها لهم علي بعد الانتهاء من الشواء، وسمع زوجته تتساءل بشيء من التذمر عما جاء بهما، فلم يشأ ان يخفي عنها سبب مجيئهما قائلا ان الرجل الذي رفضته انجيليكا جاء هذه المرة معاودا الكرة مستعينا بنائب الوالي كي يتوسط له، متصورا ان جلب مهر كبير هو عبارة عن جواد وسيارة صحراوية سيقنعان انجيلكا بتغيير رأيها، ودون تعليق اخذت الام يد ابنتها تجرها خلفها وكانها تهرب بها من مشهد هذين الضيفين.
تركهما الاب تذهبان للاعتناء بالمرأة المريضة , وعاد ليباشر بنفسه تقديم الغذاء لضيفيه، فامر علي بتحضير الاطباق والشوك والسكاكين، وقام بوضع الفراش الشمعي على احدى الطاولات واخرج من البيت طبق السلطة اليونانية المغطاة بالجبنة والزيت، وبدأ علي يملأ الصحون باسياخ الشواء الذي اعطاه خليط البهارات والاعشاب المجلوبة من اليونان نكهة بلاد الاغريق، ولونا اجنبيا يختلف عن طعام اهل هذه المناطق، كما اضافت المسطردة ذات اللون الاصفر المجلوبة من الخارج، زخما الى هذا اللون الاجنبي، وجلس بمحاذاة ضيفيه وقد سكب لنفسه من زجاجة الاوزو كاسا ثانيا مسايرة لضيفه نائب الوالي، واستسلم الضيفان لالتهام اللحم المشوي بشراهة ونهم، ووضع لهما طبقين من الحلوى اليونانية المغموسة في العسل باعتبارها الجزء الحلو من هذه الوجبة اليونانية، واكملها بالقهوة التركية التي يصر اليونانيون على تسميتها باليونانية، ولم يبق بعد اكتمال الوليمة الا اداء المهمة التى جاء الضيفان من اجلها، فنهض البريجادير هيوز واقفا طالبا من بانايوتي ان يقوده الى البيت لمواصلة الحديث في حضور صاحبة الشأن، واقناعها بما جاء من اجله، الا ان بانايوتي افهمه ان هناك مشكلة صغيرة هي وجود المرأتين في بيت اوسادن لاسعاف زوجته المريضة مرضا طارئا، لكنه لم يستطع ان يسأل نائب الوالي ان يعود للجلوس وقد نهض من مكانه وسار بضع خطوات في اتجاه البيت، فسار يقوده الى هناك، قائلا له ولصاحبه السردوك، ان البيت بيتهما، يستطيعان الجلوس فيه، وسيبعث وراء زوجته وابنته يسألهما سرعة الحضور، الا ان التي جاءت هي الام، قائلة ان ابنتها لم تستطع ان تترك صديقتها في هذه الحالة الحرجة، وراى عليا واقفا بالباب ينتظر الامر بتقديم اي خدمة يريدها الضيفان، فصاح به بانايوتي ان يذهب حالا الى خيمة اوسادن، ويطلب من انجيليكا ان تأتي فورا لان هناك امرا عاجلا وكثير الاهمية يتطلب وجودها، ولتترك المرأة المريضة في رعاية زوجها، وهو قادر على الاهتمام بها اكثر منها، غاب علي، وجلس بانايوتي في صالون البيت مع ضيفيه، ينتظر على قلق مجيء ابنته، وزوجته تختفي في المطبح بحجة انها تعد شيئا لضيفيها، دون ان تعد اي شيء، وبدلا من حضور انجيليكا، جاء اوسادن يطرق الباب ويدخل مسـتاذنا باسلوبه المهذب، مرفقا حديثه، بانحناءة من راسه، ومد يده وقد رفع اللثام عن وجهه، يسلم بحرارة عن الضيفين الجالسين في الصالون، وقد فوجئا بوجوده، باعتبارها جلسة خاصة، حول موضوع خاص، يقتضي ان يتم التداول فيه في اطار العائلة فقط، ولا مكان لوجود هذا الرجل الغريب عن الطرفين. رآهما اوسادن ينظران اليه باستغراب واستنكار، فاعتذر عن مجيئه غير المتوقع، قائلا بانه ليس الا رسولا، جاء يبلغهما رسالة من انجيليكا، التي ارادت تحت اصرار زوجته ان تبقى برفقتها، كما لم تشأ ان تترك نائب الوالي ينتظرها، وهي لا تستطيع الحضور، وتقديرا له ولمكانته الرفيعة اصرت على ان يحمل عنها هذه الرسالة التي تقول، مع تبجيلها الكامل له، واحترامها للمساعي التي يبذلها والتي من اجلها جاء الى بيت ابيها، فانها لا تملك كلاما تقوله له، الا ما سبق ان قالته بوضوح للسيد السردوك، عندما افهمته انها لا تقول ذلك رفضا لخطبته لها او اعتراضا على شخصه، لانها لا تملك له هو ايضا الا الاحترام والتقدير، وانما هو شيء يتصل بها، ويخص طبيعتها وشخصيتها، جعلها نافرة من الزواج، لا تفكر فيه،ولا تصبو اليه، ولا تحس باذنى رغبة للارتباط باي رجل، ولن ترغم نفسها مهما كان الثمن على الزواج لانه ليس امرا يخضع للبيع والشراء ويتأثر بالسعر ان كان غاليا او منخفضا، وهي تأسف للسيد نائب الوالي، وتشعر بالخجل منه، ولا تجد القوة على مواجهته، فارادت ارساله،اي اوسادن، ليقول هذه الرسالة، ويرجو ان يعطيه نائب الوالي الاذن في الانصراف، بعد ان ادى هذه المهمة التي كلفته بها السيدة انجيليكا.
خرج اوسادن ولم يكن هناك مجال لاي كلام يقوله احد لاحد من الموجودين في صالون البيت. تبادلوا نظرات يصحبها الصمت. في تثاقل نهض نائب الوالي ماشيا باتجاه الباب، ولحق به صاحبه السردوك، وخلفهما نهض صاحب البيت، وفي صمت سار ثلاثتهم في طابور بنفس الترتيب الى حيث تقف السيارتان.
في صمت ركب السيد هيوز، وركب بجواره السردوك امام عجلة القيادة، وانطلقت بهما السيارة، تتبعهما السيارة التي تحمل الحصان والاعوان، وقد علا غبار السيارتين، ودخل جزء منه في فم بانايوتي، فصار يسعل وقد شرق بهذا الغبار، مستغربا لانه شارك في توديع مواكب من السيارات الصغيرة والشاحنات الضخمة التي تجر احيانا المقطورات، بكل ما ينتج عن حركتها من غبار ودخان، دون ان تترك ايا منها ترابا او دخانا تسرب الى حلقه وبقى طعمه الماسخ في فمه، مثل هذه المرة، وتكون سببا في مثل هذه النوبة الحادة المؤلمة من السعال.
نعم، لعل السبب، في دخول التراب الى فمه، انه لم يأخذ حذره، وابقى فمه مفتوحا، فقد كان مازال مندهشا لما حدث، لانه توقع ان تكون الامور قد تغيرت، ورأي ابنته ايضا قد تغير بسبب هذه الوساطة التي يقوم بها نائب الوالي، وان هاتين الهديتين، جعلا بصرها وبصر امها يزيغان، وتخضع المرأتان للاغراء والطمع، حمدا لله ان هذا لم يحدث، وهو راض بما حدث، وراض عن نفسه لانه استطاع ان يصمد في مواجهة هذه الموجة الكاسحة، العاتية التي حركها ضده السردوك، بدءا من الحملة البوليسة التي استنفرها بشكل غير مسبوق في المنطقة، ثم تحريكه لنائب الوالي، واحضاره الى هذه الوكالة للوساطة، ثم تدبيره لهذه الاموال الطائلة التي اشترى بها حصانا من اجمل انواع الخيول، وسيارة لا تملكها الا الحكومات. وقف في وجه الاغراء، كما وقف ايضا في وجه التهديد الصريح، الذي بدا واضحا ان السردوك ارجأه الى يقوم باستنفاذ كل الوسائل السلمية، وهو سعيد لان ابنته اظهرت هذه الشخصية القوية، وهذاالمعدن الاصيل الذي افلح في ان يغرسه فيها، معدن ان يحترم الفرد نفسه، والا يفرط في جوهره الانساني، الا يخضع لاي اغراء يجعله يخسر نفسه مهما كان المكسب الذي سيكسبه، لانه لا وجود لاي ارباح وخسائر، فالامر لن تكون الا خسارة وخسارة، وهو سوق اذا دخله الانسان فلا مجال فيه للربح ابدا. ولهذا فهو يعد نفسه كاسبا، وهو كسب لابنته وكسب لاسرته، مهما كانت خطورة ما ستأتي به الايام.
يطمئنه قليلا، ان كل شيء تم امام شاهد، هو اكبر شخصية حكومية في المنطقة، فلا مجال لاي لبس فيما حصل، ولا فرصة امام السردوك للتزييف او الادعاء بشيء لم يحدث، واي انتقام ينوي القيام به، او مؤامرة ينوي تدبيرها، فانها ستكون الان واضحة ومكشوفة امام نائب الوالي، معروفة لديه اسبابها ودوافعها.
طبعا، لابد لرجل يحمل اسم quot;طائرالشرquot; ويتباهى به،ان يكون على خبرة ودراية، باساليب رسم الخطط التي يتحايل بها على شهادة الوالي، والالتفاف حولها، ومحاولة النفاذ منها الى تحقيق انتقامه، ولكن ليس بالكيفية التي يمكن ان يقوم بها في غياب هذه الوساطة التي قام بها نائب الوالي، لان الامر سيكون اكثر مشقة وصعوبة، وقد تعزز هذا الحضور لنائب الوالي، بحضور آخر يراه لا يقل اهمية في مؤازرته وتأييده ودفع الاذى عنه، هو حضور اوسادن، لقد كان هو ايضا موجودا، ويقوم باداء مهمة معاكسة لمهمة نائب الوالي، وبالانابة عن الطرف الثاني في المعادلة، انجيليكا، وهما الاثنان بهذه الصفة يشكلان بالنسبة له سياجا، يساعد على الاحتماء من طائر الشر، وتدابيره ومؤامراته.
اكتشف انه رغم الوليمة التي اولمها للضيفين، ولذة الطعام الذي نال اعجابهما، لم يكن يجد شهية للاكل، وتظاهر مجرد تظاهر بمشاركتهما الطعام، ويجد نفسه الان في حالة جوع، وقد تفتحت شهيته واشتدت رغبته للاكل، فقرر ان تستمر الوليمة ليلا، وان يكون ضيفيه على العشاء اوسادن وزوجته، خاصة وان هناك لحما متبقيا من الجدي المذبوح، لابد ان يشوى ويؤكل اليوم طازجا، ولا حاجة لتجفيفه وتحويله الى قديد، وهي وليمة تتوافق مع الوعكة التي تعرضت لها تانيرت، ومنعتها بلاشك من اعداد الطعام لنفسها ولزوجها، وارسل من فوره يبلغ اوسادن بالدعوة، واتجه الى الحانوت يبلغ زوجته كي تقوم بالتحضير للعشاء بمعاونة ابنتها، لكي يتفرغ علي للقهوة التي ستزحم بالزبائن فور عودة اهل النجع من الشعاب.
وسيكون عشاء الليلة فرصة لان يضع اوسادن في الصورة، لقد عرف جزءا منها، وقام بدور صغير فيها، ولكن ليس على علم بكل التفاصيل التي يجب الا تغيب عنه، لكي يهيئه فيما بعد لدور اكبر في شن اي عدوان يشنه طائر الشر، فالسردوك رجل لا أمان له، ولا احد يمكن ان يتنبأ من اين ستأتي الضربة التي يوجهها اليه، وعليه ان يكون على حذر.

عندما جاء شيوخ النجع، اعطاهم فكرة عن الزيارة السريعة التي قام بها البريجادير هيوز الى الوكالة، وما بلغه به من شكر الملك لرعاياه بسبب الاحتفال بعيد العرش، وافهمهم ايضا انه جاء يصحب السردوك متوسطا له في طلب يد ابنته، الا انه احال الموضوع الى صاحبة الشأن، التي رفضت الخطبة ولم تقبل الوساطة.
وظن بعضهم في البداية ان السردوك يطلب ابنة بانايوتي لابنه البكر الذي وصل سن النضج والزواج، ولكنهم فوجئوا ان الرجل المتقدم في السن يريدها لنفسه، فاستنكروا طلبه، واعطوا الحق لابنة بانايوتي فيما ابدته من رفض، متفهمين موقف بانايوتي عندما ترك الامر لابنته، لانه في حالة تقاليدهم البدوية، يبادر الاب بالرفض دون حاجة في مثل هذه الحالة الواضحة لعرض الامر على بقية الاسرة، والامر الذي كان موضوع استغرابهم، هو وساطة نائب الوالي في مثل هذه الزيجة غير المتكافئة، التي يرفضها اي صاحب عقل سليم، اذ كيف يرضى ان يسوقه رجل حاد عن طريق الصواب الى السير في هذا النهج الخاطيء، لقد كان اولى به، ان يعيد الى الرجل عقله الغائب، ويثنيه عن السعي في هذا المقصد الخائب، ثم انه رجل اعزب، مازال في مقتبل العمر، فمن باب اولى، واكثر منطقا ان يأتي ليخطب انجيليكا لنفسه، عندها سيكون بانايوتي محقا اذا رحب به، ونصح ابنته ان تعدل عن موقفها الرافض للزواج، وتقبل بحاكم المنطقة زوجا لها، وتشرط عليه اسرتها المهر الذي تريد، ومقدم الصداق اللائق به وبها، ومؤخره الذي يضمن مستقبل ابنتهم اذا حدث خطأ او طلاق، سيكون رجلا كبير المقام مثله، قادرا بالتأكيد على الاستجابة لهذه الشروط. ولم يقل لهم بانايوتي شيئا عن سوابق الموضوع، ولا عن توابعه التي يتوقعها، لانه لم يكن يريد ان يسبب قلقا لاحد منهم، داعيا الله ان ينتهي الامر عند هذا الحد، واذا لم ينته، واحتاج لاهل الوكالة يصطفون معه في مواجهة اي طاريء فان لكل حادث حديث.