رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة السابعة والعشرون: زوجة مثل انجيليكا

وجد بانايوتي نفسه يستطيع ان يذهب مطمئن البال للقاء السردوك، دون ان يخشى غدره وخداعه، وان يتكلم معه دون وجل او خوف، حول الغاء مهمة الشرطي السري في الوكالة، لانه لا وجود لاي عمل يقوم به، ويتكلم واثقا من دعم نائب الوالي له، الذي كان يعرف موقفه قبل ارسال اوسادن اليه، ولكنه راى ان يتأكد من قوة هذا الدعم بعد استدعاء السردوك له، فعاد اوسادن يحمل هذا التأكيد، وينقل اليه الدعوة التي وجهها اليه نائب الوالي بضرورة ان يزوره في مكتبه بعد انتهاء اجتماعه بالسردوك.

وبدوره رأى السردوك وقبل وصول بانايوتي الى مكتبه، ان يلتقي الشرطي رشيد، يناقش معه الهدف من رغبة بانايوتي في طرده من الوكالة، وبادره متخابثا بالسؤال، عما كانت مهمته في الوكالة، ليعرف مدى فهمه واستيعابه للمهمة التي اوفده من اجلها، فشرح له رشيد بانه كان موجودا بحجة الكشف عن مجرم من قطاع الطرق هرب الى الوكالة متنكرا في صورة واحد من جامعي الحلفاء، ولكنه يعرف ان هذه لم تكن مهمته الحقيقية، وانما المهمة الحقيقية هي ان يكون عينا ترصد حركات وسكنات انجيليكا وزوجها الفونسو، وتقديم تقرير عنهما، وعاود السردوك سؤاله lsquo; عن مهمته بعد ان طلق الفونسو زوجته، وتقدم السردوك لخطبتها، ورفضت هذه الخطبة وعما كان تصوره عن دوره في الوكالة عندئد، فاجابه الشرطي الذي عمل سنوات تحت امراته وبات واحدا من كاتمي اسراره، بانه غضب غضبا شديدا لهذا الرفض، ورآه ركلا لنعمة يعرضها الرائد السردوك على هذه العائلة، وشرفا لا تعرف قيمته، وصار واثقا انها عائلة تستحق العقاب لهذا الرفض، ووجوده في الوكالة ربما يكون عاملا مساعدا في العثور على سبيل لانزال هذا العقاب.
وغرز السردوك عينيه الحادتين الصغيرتين الماكرتين في عيني عميله يسأله ان كان خلال هذه الايام التي اعقبت الرفض قد فكر فيما يمكن ان تكون هذه الوسيلة، فاجابه بان رجلا يملك وكالة مثل بانايوتي، ويتعامل بيعا وشرا مع عدد كبير من الزبائن، لابد ان يقع في اخطاء، وتنشأ له مشاكل وخصومات مع الناس، ومهمته اذا استمر في عمله، ان ينتظر حصول خطأ كبير من جانبه او مشكلة مع احد الزبائن يمكن الباسها طابعا جنائيا، ليقوم عندها بالابلاغ عنه، والقبض عليه، ويسعى لتكبير يالمشكلة، والبحث عن القرائن والادلة التي تدينه، وسيتمكن خلال اقامته في الوكالة من معرفة المناوئين له، لاستخدامهم في الشهادة ضده، وقبل ان يكمل الشرطي شرح افكاره عن المهمة المكلف بها في وكالة بانايوتي قاطعه السردوك منتقلا الى جانب اخر من الموضوع دون ان يعلق بالسلب او الايجاب عما سمعه منه، متحدثا عن اجتماعه بصاحب الوكالة، الذي يتوقع حضوره الى مكتبه هذا الصباح، طالبا من رشيد ان يحضر الاجتماع اذا اراد، سائلا اياه عما يجب في رأيه ان يقوله لبانايوتي، فاجابه الشرطي بانه يريد ان يسمع حديثا حازما جازما مع الرجل، يعيد اليه عقله، لكي يعرف ان للحكومة هيبة وقوة، ولها ارادة فوق ارادة أي فرد مواطنا كان او اجنبيا مثله، وان لممثليها من افراد الشرطة حق التواجد والحضور في أي تجمع سكاني لحفظ الامن وحراسة القانون. فداعبه رئيسه ضاحكا، بانه يقول هذا الكلام لانه حريص على القروش الاضافية التي يحصل عليها فوق مرتبه من وراء اقتلاع الحلفاء وبيعها، فرد بصرامة وجدية، ان ما يهمه هو سلطة الحكومة وكلمتها التي يجب فرضها على كل انسان. وقبل ان يسمع رأي رئيسه، فتح الحاجب الباب، قائلا بان السيد بانايوتي موجود بانتظار الاذن له بالدخول، فطلب منه السردوك ان يدخله ويذهب ليحضر له الشاي، وفور جلوسه على الكرسى قبالة السردوك المتربع على مكتبه، دخل بانايوتي في الموضوع، مبديا اسبابه التي تجعله يعارض وجود شرطي في الوكالة، يكون مصدر قلق وتوتر لقاطنيها اكثر مما هو مصدر راحة وامان، وانه لو عرف بان هناك ضرورة تستدعي وجود مثل هذا الشرطي لكان هو الذي ياتي مطالبا بتعيين شرطي في الوكالة، ولكن الوكالة تعيش في امان بدونه، مثلها مثل أي نجع من نجوع البادية، ويتحمل شخصيا المسئولية عن توفير هذا الامان، ثم ان رشيد لا يقوم بدور الحارس او العساس، وانما بدور الجاسوس، فلمن يقوم بمهمة هذه الجوسسة؟ ومن المقصود بها؟ واذا كان هناك في السابق شبهة وجود قاطع طريق يختبيء في الوكالة؟ فقد ثبت انها شبهة باطلة، فما السبب الذي يستدعي وجوده اذن؟ وقف يستأذن في الانصراف بسبب ارتباطه بلقاء مع البريجادير هيوز، الا ان السردوك نهض من مكتبه، وقام يعترض طريقه قائلا له، بانه لم يكمل حديثه معه، وانه سيتعتبر وجود الشرطي في الوكالة امرا عرضيا يمكن الوصول فيه الى اتفاق، بعد الانتهاء من حسم قضايا اكثر اهمية، فعاد كل منهما الى الجلوس، واستأنف السردوك حديثه الذي انقطع حول الشرطي، مطمئنا بانايوتي بالا يعتبره عينا عليه، وانما عين لصالحه، مضيفا انه يمكن ان يجعل رشيد يأخذ تعليماته منه وينقل تقاريره اليه، ويضع خدماته تحت تصرفه، فقال بانايوتي ضاحكا بانه يقبل ان يكون رشيد تحت امره ورهن تعليماته وان اول هذه التعليمات ان يبقى مقيما في مزده مع زوجته وبين اولاده، فشارك في الضحك كل من السردوك ورشيد، وترك السردوك الموضوع دون حسم منتقلا الى ما يرى انه قضية معلقة ذات اهمية قصوى بالنسبة له، وهي قضية خطبته لانجيليكا، قائلا بانه يرجو الا يكون رفض ابنته لهذه الخطبة رفضا نهائيا، ويمني نفسه بان تتراجع عن رأيها، وان يرى والدها يبذل جهدا بهذا الاتجاه، لانه على يقين بان المصاهرة بينهما ستكون مصدر خير كثير، وابلغه بان هناك مصدرا جديدا للرزق، يريد ان يكون من نصيب وكالته، فقد تأسست شركة مركزية على غرار شركة الحلفاء للتجارة في الحديد الخردة، واخرى في القماش البالي، وثالثة للتجارة في مواد متفرقة اخرى، وان الاولى ستشتري الحديد الخردة لاعادة تصنيعه وتصديره والثانية ستعمل نفس الشيء بالخرق البالية والثالثة للتحارة في متفرقات مثل العظام لطحنها وتصديرها دقيقا ليكون عنصرا في بعض الصناعات، وان ترخيصا موجودا في مكتبة للتجارة في هذه الاشياء، التي ستكون مورد ربح كبير جدا فالصحارى المجاورة لوكالته مليئة بمخلفات الحروب من الحديد، ومليئة بمخلفات السيول من الخرق البالية، ومليئة بمخلفات القوافل التالفة في الصحراء من العظام، مدفونة تحت الرمال تنتظر من يجمعها، ولديه مصدر اخر للثروة، سيبوح به له، لانه مازال سرا حكوميا لم يعلن عنه، وهو ان الدولة ضاعفت بسبب الجفاف في منطقة القبلة، من حصتها في اعلاف الحيوانات التي تقدم مجانا لانقاذ الثروة الحيوانية من الانقراض، ومعنى ذلك ان بامكانه ان يقيم في الوكالة حضيرة كبيرة ويشتري باسعار رخيصة الاف الرؤوس من الاغنام قبل الاعلان عن هذا الخبر، لان اصحاب هذه الاغنام يسعون الان للتخلص منها قبل ان تنفق، وسيتعهد له بتغذيتها من حصة المنطقة من الاعلاف، لتكون جاهزة لنقلها لمنافذ البيع في مختلف المدن خلال عيد الاضحى القادم، وهو باب لاموال طائلة لا حد لها، وسيكون هو عونا له ودعما وشريكا يتقاسم معه اثمان هذه الاغنام عند شرائها ويتقاسم معه الاموال عند بيعها.
ظل بانايوتي صامتا، لا يريد ان يقاطع السردوك اثناء عرضه لهذه الاغراءات، عازما الا يتورط في أي وعود له بالنظر في الموضوع من جديد، فهو الان في حماية نائب الوالي، ولن يجد فرصة افضل من هذه الفرصة لردع السردوك عن مواصلة اوهامه، فالحسم في مثل هذه القضية، اجدى من التسويف والمماطلة، ولهذا اجابه بان ليس لابنته أي موقف آخر غير الموقف الذي صارحته به، ولا يستطيع من جانبه ارغامها على تغيير موقفها، متمنيا ان يصرف السردوك جهده ووقته وموارده في البحث عن امرأة اخرى، طالما انتهت حياته مع زوجته الاولى، تتوفر له معها السعادة التي ينشدها، معتذرا في ذات الوقت عن الدخول في أي تجارة غير تجارة الحلفاء التي تخصص فيها،وارتبط مع الشركة الام التي تتعهد بتصديرها والتي تريده ان يصرف جهده ووقته في هذا العمل دون سواه.
ورغم ان السردوك ابى ان يحسم معه موضوع الشرطي، فقد وقف بانايوتي وخطا باتجاه الباب قائلا انه لا يريد ان يترك نائب الوالي ينتظر اكثر من هذا المقدار، واثقا بينه وبين نفسه بان سيجد حسما لدى نائب الوالي لموضوع الشرطي، الذي لا عمل له ولا ضرورة لوجوده في الوكالة، وفاجأه فعلا هذا الترحيب الحار الذي استقبله به البريجادير هيوز، قائلا له قبل ان يتبادل معه أي كلام، ان الحديث سيكون اكثر حميمية عند الانتقال الى بيته، لانه امر المرأة التي تعتني بطهي طعامه ان تعد مائدة لهما،فهو يريده ان يؤانسه في بيته، وعندما اشار بانايوتي الى ارتباطه بموعد سيارة الشحن التي تعبر مزده في الطريق الى الوكالة، بادره نائب الوالي بالقول، انه يستطيع ان يأخذ وقته وراحته في الغذاء، لانه سيضع سيارته الخاصة تحت امره، تنقله متى كان جاهزا الى وكالته، وهكذا لم يترك له سببا للاعتذار عن قبول هذه الضيافة، والذهاب معه الى بيته والجلوس في الصالون، ليبدأ في مشاركته كاسا من الكحول لفتح الشهية، قبل الانتقال الى المائدة لشرب نوع من النبيذ، يملك نائب الوالي بعض الزجاجات المعتقة منه، مهداة من اصدقاء في طرابلس لهم اتصال بقساوسة الكنائس الايطالية ممن يتبعون تقليدا كنسيا في اعداد النبيذ والاحتفاظ به لسنوات عديدة، وعلى كاس فتح الشهية بدأ الحديث الذي استهله البريجادير هيوز بالاستفسار عن اللقاء بينه وبين السردوك، لانه يعرف ان زميله مدير الامن ما زال يملك موجدة في قلبه ازاء بانايوتي، وهذه الموجدة تملأ راسه بالافكار السوداء التي لا تليق برجل يحتل منصبا عاما، ويسعى لاستغلاله في تحقيق اغراض شخصية، ساعيا الى طمأنة بانايوتي، بانه مهما كان السبب لاستدعائه، فانه لن يستطيع ان يفعل شيئا له، طالما ان نائب الوالي موجود في هذا المنصب، ولديه سلطات تعلو سلطاته وتقدر على نقضها وايقافه عن تنفيذ نزواته، وبعد ان استعرض بانايوتي في ايجاز ما دار بينه وبين السردوك حول الشرطي الذي يريده ان يكون عميلا سريا في الوكالة، ورفض بانايوتي لهذا الاسلوب في التعامل مع الوكالة، مبديا قلقه لان السردوك ترك الموضوع معلقا دون حسم، افاده نائب الوالي بانه يستطيع اعتبار الموضع محسوما، وان السردوك لن يستطيع ان يخالف تعليماته اذا ابلغه بها، وهي انه لا حاجة ولا ضرورة لوجود هذا المندوب السري في الوكالة، ثم افصح لبانايوتي عن احساسه قائلا بان ما يقلقه هو ما سيؤول اليه الامر بعد انتهاء عمله، فهو يتبع سلطة انتداب سوف يرحل مع رحيلها، بعد عامين او اكثر قليلا، بينما السردوك باق لانه ينتمي لهذا البلد، وعندها سيكون المجال فسيحا امامه للانتقام، خاصة وان الوكالة ليست خيمة يمكن نصبها اليوم وتقويضها غدا وانما مشروع اقتصادي كبير، واستثمار على مدى طويل، وعمل يتركز فيه مسقبل بانايوتي واسرته، وهنا وجد ضيفه الفرصة متاحة ليسأل هذا الصديق الذي استضافه في بيته، عن سر القوة التي يملكها السردوك، وتمنع عزله او نقله من هذا المنصب، طالما هو مقتنع بعدم صلاحيته، فاجابه بان وجود السردوك سابق لوجوده في هذه المنطقة، وجاءها في اوج انشغال كل الاطراف بالحرب، ووجود فراغ في السلطة المركزية في ليبيا، مما اطلق العنان لقوى النهب والسلب تسيطر على مناطق كثيرة في البلاد، بما في ذلك منطقة القبلة، وصحراء الحمادة الحمراء، حيت بلغت الجريمة فيها معدلات قياسية، وقد اكتسب السردوك سمعة في مكافحة الجريمة من خلال الحرب التي شنها على عصابات الصحراء، وتحت قيادته الشخصية الميدانية، الى حد يعترف فيه الجميع بانه صاحب الفضل في انقاذ المنطقة من تلك العصابات وعودة الامن والسلام الى مسالك الصحراء وتامين تجارة القوافل عبرها، ونجا باعجوبة من اكثر من كمين نصبته له تلك العصابات، اصيب في احداها بجراح شفي منها بعد علاج في طرابلس، الا انه يعرف الان ان عمله لم يكن كله صافيا لوجه الامن والقانون، وانه تربح من بعض هذه العمليات الامنية، ومع ذلك ظل سجله لدى الدوائر العليا في حكومة الانتداب مقرونا بذلك النجاح مما يجعل أي اقتراح بتغييره يقابل بنوع من الخوف لدى تلك الدوائر من انهيار الامن في المنطقة وصعوبة تعويض السردوك برجل تكون له نفس الخبرة بامن المنطقة.

تناولا طعاما من اللحوم المشوية، مع زجاجة النبيذ الذي تعتق لتلاثين عاما، وعادا الى الجلوس في الصالون يختمان الجلسة بنفجان القهوة، وقد انطلقت شهية نائب الوالي في الافصاح عن مشاعره، دون ان يفقد السيطرة الى حد الكشف بحقيقة نواياه فيما يتصل بخططه الخاصة بابنة بانايوتي، واكتفى بان تحدث عن رغبته في ان يستمر في العمل في هذه البلاد، لانه بعد سنوات الخدمة الطويلة في هذا المناخ، لم يعد بمقدوره الانسجام مع مناخ مدن الشمال في بريطانيا، ولن يكره ان يجد عرضا للعمل في ليبيا عقب انتهاء الانتداب البريطاني بها، فالادارة الليبية سوف تحتاج لخبراء اجانب يساعدون في تاسيسها، وهو علي يقين بانهم سيرحبون باستمراره في العمل مستشارا للعناصر الوطنية، الا ان قبوله لهذه المهمة يتوقف على شيء واحد، هو الزواج، فهو لن يستطيع ان يستمر وحيدا في حياته بعد ان بلغ هذه المرحلة من العمر، وهذه المراة التي ستشاركه حياته، لن يستطيع جلبها من بريطانيا، لانه لن يكون واردا وجود امراة تستطيع القبول بشروط الحياة هنا، ومن ناحية ثانية فانه لن يستطيع اطلاقا ولا يتصور ابدا ان تكون شريكة حياته امرأة بدوية، خاصة وان شروط الزواج في هذه البيئة، وهذه البلاد، يتطلب من الزوج الاجنبي تغيير دينه الى الاسلام، وهو شديد الارتباط بدينه المسيحي ولن يرضي تغييره او يقبل الزواج بغير امراة من اهل دينه، ولن يفكر في الزواج الا بامرأة مثل ابنته انجيليكا، وسيتصل بكل من يعرف من عائلات صديقة تعينه على وجود مثل هذه الرفيقة، التي ستجعل من استمرار بقائه في هذه البلاد امرا ممكنا ويسيرا، وفي هذه الحالة يستطيع بانايوتي ان يطمئن الى ان السردوك لن يستطيع، مهما طال المدى، ان يمد اليه اصبعا.

في ختام اللقاء ذكر البريجادير هيوز لضيفه كلمة اعتبرها قيلت لكي تطمئنه الى انه مهتم بما قاله عن ضرورة ان يتنحى السردوك عن هذا المنصب الذي اساء استخدامه، عندما قال له بان هناك اجتماعا للوالي مع نوابه العشرة، سيحين بعد ايام، وسيرى ان كان باستطاعته ان يفعل شيئا لتأكيد الشعار الذي رفعته ادارة الانتداب وهو الرجل المناسب في المكان المناسب.
وهو انطباع خرج به بانايوتي من كلمات نائب الوالي التي تركها غامضة دون افصاح عن طبيعة هذا الذي يمكن ان يفعله عند لقائه بالوالى، وراى انه لا يحتمل تفسيرا غير هذا التفسير، الا انه عندما عاد الى الوكالة لم يكن يشغل نفسه بهذا الشيء الذي سيفعله نائب الوالي في طرابلس، بعد ما استحوذت على تفكيره تلك الجملة التي اشار فيها الى ابنته انجيليكا، والتي يقول نصها الحرفي quot;امرأة مثل انجيليكاquot; وكانه قول جاء بطريقة عفوية، واخذ مكانه وسط الكلام عرضا، من وحي اللحظة، ليضرب المثل على المرأة التي يريد الارتباط بها. الا ان بانايوتي كان على يقين بان الرجل قالها عن قصد وتصميم، وبعد سابق تدبير وتفكير، لانه لم يكن يستيطع ان يطلبها صراحة منه، وهو الذي جاء منذ ايام يتوسط في طلب يدها لزميله السردوك، وفي وقت مازال فيه هذا السردوك، يكاكي، مهددا متوعدا، يريد ان يحقق طلبه بالباطل والمكيدة والرشوة. انه واثق بان الرجل لم يقل كلمته من فراغ، ولن تنتهي الى فراغ، فهي بذرة يزرعها، ويرقب ليرى ثمرتها فيما بعد، هي كلمة، ستكون لها تداعيات وتوابع، فهي القطرة، التي تنبيء بقدوم وابل المطر. لن يفتح الموضوع مع زوجته، ولن يفتحه مع ابنته، فهو الان يشبه عبور الجسر قبل الوصول اليه كما يقول المثل، سيفعل ذلك عند الوصول الى الجسر، اما الان فلا حاجة للتكهن بما لم يحدث بعد. البريجادير هيوز، زوج لابنته انجيليكا، امر لم يكن قد خطر له على بال، لعل هناك نقاطا لصالح هذا الرجل، اذا تمت مقارنته بالسردوك، فهو رجل اعزب، وهو حاكم يحتل المركز الاول في هذه المنطقة، وهو في حالة اغتراب في هذه البلاد مثله مثل اسرته، وهي رابطة تتعزز برابطة الانتماء لدين السيد المسيح، بغض النظر عن نوع الكنيسة بروتستانتية او كاثوليكية او مثله كنيسة الروم الارثودكس، ثم انه لم يبلغ من العمر ما يجعل زواجه من ابنته امرا مثيرا للسخرية والاحتجاج، نعم هناك فارق في السن، ولكنه فارق موجود لدى اغلب الازواج، انه فارق معقول ومقبول، هناك نقطة شديدة الاهمية ضده، هو انه ليس مغتربا مقيما كما في حالته، فهو عسكري بريطاني، عرضة للانتقال من بلد الى اخر او عودته الى بلاده بعد انتهاء الانتداب، ومعنى ذلك انه سيأخذ انجيليكا معه، وهو امر لا تريده انجيليكا ولا ترضى به امها، ولا يعتقد ان رفضه ستترتب عليه اية مشاكل كما هو الحال الان مع السردوك، سياخذ الامر بروح الرجل الاوروبي الذي لن يعاود عرضه لامراة قالت له لا، اما القبول به فهو بالتأكيد امر سابق كثيرا لاوانه، يكفي انه عاد من زيارته الى عاصمة القبلة، وقد زال ما يراوده من قلق بشأن ما كان يمثله السردوك من تهديد له.

رأى اوسادن ياتيه مع اول الليل، يسأله عن نتيجة زيارته الى مزده، مبديا استعداده مرة اخرى لمباشرة قراءة الاوراد، وقيام الليل، صلاة وتسبيحا، للاستعانة بمارد من الجن، يردع شر السردوك بشر اقوى منه، ربما مرض يتركه طريح الفراش، فقال بانايوتي، بعد ان شكر اوسادن على استعداده:
ـــ سندع امره لواحد من مردة الانس، يتولى امره، بدل ان نعطيه شرف الصراع مع ملوك الجن.

23

شملت التنقلات عددا من المناصب القيادية في المقاطعات التابعة لولاية طرابلس الغرب، وضمن هؤلاء القادة المحليين المنقولين من منطقة القبلة البريجادير جوناتين هيوز، والرائد شرطة صالح السردوك، هكذا جاء الفونسو يحمل الاخبار لصاحب الوكالة، الذي قام بنقلها لرفاقه من شيوخ النجع، دون ان يخبره الفونسو الى اين تم نقل كل منهما، ولو انه سمع ان الضابط الجديد الذي صدر قرار تعيينه مكان البريجادير هيوز، هو ضابط انجليزي اخر برتبة كولونيل اسمه جون تاور،وسبب تعيينه انه باحث في العلاقات العشائرية، وسيستغل فرصة وجوده في منصب نائب الوالي في منطقة القبلة، لدراسة العلاقات العشائرية والتقسيم القبلي واليات صنع القرار وبنية السلطة في مجتمع القبيلة ونجوع البادية، ولم يتضح لدى الفونسو بعد ان كان لهذه التحولات تأثير على عمله الجديد كصاحب وكالة الحلفاء في وادي الخيل،لانه فعلا استلم الرخصة وينتظر الانتهاء من بناء المرافق لمباشرة العمل، ويتمنى الا ينتهز المنافسون له في الرخصة التي فاز بها عنهم، فرصة تنحية السردوك، للطعن في الطريقة التي اخذ بها الرخصة، باعتبارها تمت بطريقة استثنائية،بحسب ما يدعون، كما انه لا يعلم بعد ان كانت هناك اسباب وراء الاطاحة بهذا العدد الكبير من القيادات المحلية في المناطق، ام انها مجرد حركة تنقلات روتينية، وما يراه الفونسو مهما بالنسبة له، وبالنسبة لاونكل بانايوتي هو ان السردوك قد تمت ازاحته من الطريق، ولم يعد يمثل تهديدا لاحد في هذه المنطقة، ويرى انه كان ضحية لضغوط وتهديداته بحيث استطاع ارغامه على تطليق زوجته، وهو يأتي الان بعد تنحية السردوك، متوسلا لاونكل بانايوتي ان يتيح له فرصة تصحيح ما حدث من طلاق بينه وبين انجيليكا، ويعودا كما كانا زوجين يحب احدهما الاخر، الا ان الاب، الذي رحب به ضيفا في الوكالة، شكر له ما تجشم من تعب الحضور لنقل هذه الاخبار المهمة، رد عليه بصراحة راجيا منه الا يعود الى موضوع زواجه من انجيليكا، لانه ملف تم قفله وانتهى امره ولا سبيل الى فتحه من جديد، لقد اختار هو هذا الطريق، وهو الذي اراد الطلاق ودخل في صفقة مهينة لا يريد ان يعود الى موضوعها، ولا ان يوقظ ذكراها، فقد وطن نفسه على نسيانها، واهلا باي تعاون بينهما يتم في اطار العمل وتنسيق المواقف وتبادل المعلومات فيما يتصل بعمل الوكالتين.