محسن الذهبي من لندن: يبدوا ان الرحلة الابداعية قد اكتملت أركانها عند الفنان العراقي (معراج فارس) الذي بدا حياته بالعبث لينتهي منضبطا في رسم محطاته بعد أن استقرت التجربة واكتملت أركان نضجها. إنه يطرح متأنقا كل خبراته الفنية، هذا ما نتلمسه من اجواء معرضه الشخصي الأخير (محطات) والذي اقيم على قاعة مدارات للفنون التشكيلية ببغداد مؤخرا. ضم العديد من اللوحات التي رسمها في الغربة بعد سلسة من المعارض والمشاركات الفنية في العديد من دول العالم، ليعود الفنان (معراج فارس) المولود في عام 1953 بمدينة السماوة المطلة على الصحراء العراقية للوطن بعد غربة ليست بقصيرة، يعود ليجسد عوالم الرفض وهو يرصد حركة الشخصيات التي يصورها عبر الاشتغال على ديناميكية منظومة الحكي المستفز لعين المشاهد، فقد بدأ حياته عبثي المزاج مشاكسا مذ كان طالبا في معهد الفنون الجميلة ببغداد ليتخرج عام 1986 وينحاز لمرافقة جيل من صعاليك بغداد ربما يكون الشاعر (جان دمو) ممثلا لها متاثرا بتلك الاجواء والاحلام المجنونه والتي افضت لديه في النهاية إلى هذا المنجز التشكيلي الدرامي المتمثل في التكامل بين البعد الجمالي المعاصر المعتمد احيانا على الاسقاط التاريخي للبحث في الدور الاستكشافي لرواية الموروث والتي تتناص مع الصورة المتخيلة، فالمرأة مثلا يصورها الفنان هي ذاتها بملامحها السومرية الجنوبية الرافدينية لكنها معاصره وتجسد بشكل رمزي لأزمة الواقع المعاش. ان الفنان يحاول مغادرت الواقع عبر فضاء الزمن المستحدث ليصنع زمن اخر خارج حدود العالم الواقعي عبر الاستعارات السردية المفهومية التي تحاول تأسيس نظرة جديدة للغائب والمغيب والمجهول تاريخيا بل انه يحاول ان يزيل ما لحق بالصورة التاريخية من تشويه واعادتها الى صورة متخيلة معتمدا منهجية معرفية يؤطرها منظور جمالي خاص يحمل جسارة تخيلية في نقل الصورة التاريخية وربطها بصورة مواقف مبنيه على التفكير التخيلي للربط التاريخي.
فاللوحة لديه دائما ساحة للتمرد والانفلات والتأمل والاستمتاع بعطايا الفن والتخيل، ولقد حاول فى بحثه الجمالي رصد قوة وحيوية هذه الاستعارات المفهومية من خلال آليات اشتغاله على جماليات السرد وبخلق غنائية مثيرة للحواس، فيها الكثير من شبق متأصل في الذات البشرية فالأجساد التي يصورها، تتوق إلى رغبة ما والى شيئ من الحزن الموروث، شيئ من أعمق أعماق الإنسان مثل صرخة كبت داخلي صماء شرسة. ان المرأة الرمز عند (معراج فارس) توحي بسحرها الخاص القادم من أرض الأساطير ومن قلب الخيال الإنساني القديم. فالثيم مجسدة للغرائز الانسانية واشكال الحب، ليبقى المرأة إيقونة العشق الأول أبدعها بحب ومعاناة واضحة. وكأنها تتطلع للانعتاق من واقعها نحو خلاص انساني تبحث عنه، فطبيعة الفن التشكيلي ترتبط بالاسلوب للتعبير عن العمق الجوهري لمكنون الاشياء ويبقى هدف الفنان هو اعطاء تمثيل ملموس لهذا الجوهر الحقيقي للذات. ان اعمال الفنان تمحورت حول إيقاعات تعبيرية تجسد ثنائية الرجل والمرأة
فقد ركزت اهتمامه على هذه الثنائية المتجسدة في معظم لوحاته وعلى غور اسرار تلك العلاقة الأزلية، وما يكتنفها من صور متعدده وعذابات يومية، فيوجه الرمزي نحو الانسان ككيان معبر.
ان التعبيرية حاضرة في اعماله كعنصر تشكيلي أساسي متجسد بحس لوني متميز، والقيمة اللونية عند الفنان تبرز بشكل واضح ذلك الهاجس الذي يسيطر على مشاعره، حيث يعكس التضاد اللوني الحاد وألوان الصريحة بمختلف تدريجاته تلك الدهشة في معالجة المواضيع التي يخوض فيها. كي يدعم المؤول الدلالي و الغنائية المجسد لصدى التوتر الذاتي واستشعارا بعذابات الآخر الجمعي بصياغة رؤى مؤثرة تعالج قيمة الرمز والمرموز بصياغة مشهد بصري تخيلي لا يلبث أن يتحول إلى عنصر روحاني.
ولتبقى تجربة الفنان (معراج فارس ) لها طعم خاص ومتميز في المشهد التشكيلي العراقي وينتظر منها الكثير.

ناقد تشكيلي عراقي مقيم في بريطانيا

[email protected]