(1)
تبرقُ في مخيلتنا فكرة؛ التاريخ قناع مهزلة وضعناه بمتعة فوق القناع الآخر، لإغاضة بعض حراس النصوص البخلاء. حين طافت من حول الخيام أوجاعنا النثرية، كنا، بحارة أو بدو لا يرحلون، نترقب الضربات القادمة، كلها، من أمام وخلف الجدار؛ للعبة ثمنها ونحن لا ندفعه مقدماً، لكي يبارك ناظر المدرسة شهيتنا العظمى في تمزيق أزمنة الشمع الأحمر تقفلُ صفحات أسلافنا في قمقم من الرصاص والجوع الأبيض. لن نفعل ذلك أبداً، لا في لحظة الكتابة ولا في مستقبل ما زال مغطى بالغيوم. لكن من ملمحه الأول يبدو الناظر، المريض بالعضال، على أتفاق مع حراس النصوص البخلاء: في باحة مدرسة التخريف، تعلموا كيف يمقتون، منذ طفولتهم وصباهم، وفي شيخوخة عتههم، ما كانوا يبجثون عنه عبثاً في قواميس المربية العمياء، تحت مُلحقِ الإلفاظ الفارغة، العقيمة، جرس المحار يصبُ في جرن اللغات، حين سرقوا مفاتيح كتابتها وسلموها، بعجالة، في ظرف يوم أو يومين، من تلقاء أنفسهم، للأصنام الجائعة. فيما يرى العالم المصعوقِ كيف تجرنا من خصلات شعرنا الطويل وتمنع الهواء عن مناخيرنا المفتوحة كنافذة مُغيبة للبرق وعواصفه القطبيةِ. ببصر شيوخ رافقوا الطاحونة وكيف تدور، لا نحرم أرواحنا عن القول: نحن نحب، كشق يحدث فجأة في السماء، الإلفاظ وإيقاعها الفارغ، نقبل طاوعيةً، عن طيب خاطر، لكي نكون عرباً فصحاء، تهور الشق وما يقوم به من فضحٍ لرشوة الحاشية وتذرعها بالخنازير تفتكُ بحقل المعنى المحصنِ وما نبت من أدغال فوق جثته فاقدة النغم والدلالة.
(2)
هل حُرَثْ الحقل الذي تركناه خلفنا برهافةً؟ هل قَلَبَ الرفش العريض تربته على كل الوجوه حتى يطلع النمل والخشب المسوس من جوفه الثرثار؟ لا علم لدينا متى ستدق الساعة. لكن لو كان للغاوية، الحرية، من آذان، لقلنا نحن لا نأوي عن قناعةً أو حسن جوار تلك المجازات الرابضة على قلوبنا كشبح ثقيل، ما فرضته علينا قسراً أمنا القاسية، المحكيةِ، حتى في لحظة النوم؛ مع أنها تعرف هروبنا من التخت الوثير، ونبتعد كمذعورين عن تعاويذ النعاس، فما بالك بالشخير؟ مغشوشة وقذرة هي المجازات، الاستعارات وكسوة المعنى، حين تتغافل عن فتنة اللفظ الفارغ، إيقاع الرقصة أو فجيعتها في وضح النهار. لا يتزعزع حبنا لخفةِ الإلفاظ، ما دامت أنها حبلى بالشمس وتوعد بنزع الخرق البالية عن مومياء المصير، تجريد الأصنام الجائعة من سحر ثيابها المزركشة ونسيانها للعيد العظيم. نكرر: التاريخ، وما يرويه عن الأصل، هو عندنا القناع الذي لا يخشى هذياننا مواجهته في الساحة التي اختارها، بنفسه أو نيابة عن لسان الأمة وما يمور في داخلها من نسخ مرتلة ترتيلاً رغبة بالمعنى الكسير، مٌبدع الفضائح التي شاب منها الرضع قبل صناع القرار.
(3)
في ليلة وضحاها، إذا ما أشرقت وغربت الشمس، وإذا ما ظل البحارة على يقظتهم والبدو في ربوعهم الممتدد حتى إنقطاع البصر، وإذا ما واصلت أفكارنا التي شرعت مع الجورية فاتحة الشهية؛ سنضع على قارعة الطريق هجومات الناظر وحراس النصوص البخلاء، لكي نحوم ثانية، كما يدور الثور العنيد، معصب العينين، من حول نافورة حقله: الأصنام الجائعة وما خلفته من تواريخ.
خطوة أخرى تبعدنا عن المنشأ أو الولادة.
بعد تمغطها هناك، في شبه الجزيرة العربية، وما حفلت به من مظاهر تمجيد ولكن أيضاً بعض الإنكسارات، أتخذت الأصنام الجائعة قرارها الشهير بالتوسع فيما وراء التخوم المعروفة للكون.
من مأرب، وسدها الثرثار تلقت أولى إشارات الترحيب، ذُبحت الضحايا وتعالت زغاريد النسوة في اعقاب خطواتها وإيقاعها الثقيل. بيد أن سكان المدينة سرعان ما حدسوا كارثة الأصنام: لا يكفي ما عندهم من دواب، ماعز وخرفان، بقر وديوك رومية، لسد نهم جوعها ولا غزارة المياه في آبارهم الإستوائية سيبل عطشها السحيق. هل خُيبتْ الأصنام الجائعة من ضيافة كهذه أو من الشكوك التي لا ترقى إلى مصاف ما توقعته من سكان البادية؟ كلا، كان ردها القطعي.
من هناك، عبَرتْ البحر الأبيض ثم الأحمر، تلاهما بحر قزوين وبلاد المغول. لم تظل القارة العجوز محصنة حيال شهية الأصنام الجائعة من إغواء. أفريقيا، من جابنها، قدمت القرابين، الموز وفاكهة المونغا وشلالات أثوبيا البيضاء والزرقاء.
بابل وحدها، ربما الأهرامات معها، كما يروي الشيخ العجوز في الصعيد، ظلت صماء، وكأن عادة التقليد لم تمسها طواعية ومن تلقاء نفسها، أو أن الرهط المرافق للأصنام لم يفزعها. بابل، كما يظهر ذلك في لوحات الواسطي ومن قبله، أحتفظت بنياشين وألقاب أوثانها، كرموز مزدوجة للأكل الذي يمس المعدة، وللأكل الآخر الذي يلامس الأعضاء.
ظلت بابل تحتفظ بتماثيلها في متحف بغداد. جانب الكرخ. حتى مطرت السماء فوق سطوح منازلها قنابل عنقودية بيضاء، وأكتسح اللصوص عتبات الكنز العظيم. سرقوا ما سرقوا من متحف الكرخ وعصمته التليدة وكسروا ما كسروا من أذرعتها وبطونها الناعمة.
لم تقاوم الأوثان لا السراق ولا المولعين بكسر الفخار.
(4)
حزن شامل في الوهلة الأولى هبط على العالم بعد خراب تلك الإيقونات الوديعة. لكن سرعان ما تلاشى كما أوعزت به، في مؤتمراتها المعقودة في كل مكان، الأصنام الجائعة. لا خشية الإتهام أن تكون هي ذاتها وراء ذلك الخراب، ولا لأنها تتوجس عقاب يأتي بعد بضعة قرون. كلا. حب بربح الوقت، مثلما يُقال اليوم في زماننا عن الحروب، وحتى لا يظل تخريف كهذا يُشغل بالها.
وها أنها تجوب وتتجول مع رهطها، فاتحة للقارات وقلاعها العتيقة، كما يغزو علماؤها بقية الأفلاك. الرحلة القادمة، اخبركم من الآن، يا أخوتي البحارة ويا أصحابي من البدو الذين لا يغادرون؛ الرحلة القادمة لن تكون نحو المريخ الأحمر، أو المذنب الأصفر الحيران، بل نحو مراكبنا العبثية وما فيها من معونة للأطفال. ولن تنسى، الأصنام الجاعة، إذا ما زحفت بنيران أقوى، التهام كل خيم البدو وما غطوا به الباحة من فرش بهية، من نسج النساء، لكي يطمأن المسافر على ليلته ويقضيها، المعدة ممتلئية، الريق وقد أبتل ونطفأ حريق الظمأ القديم، وفي حضنه عروسة من عليه القوم. صاحبة الأمر والنهي في ساحات الوغى، وما يرشد بدلعٍ بوصلة القبطان.
التعليقات