ماجدة داغر من بيروت: مساحة للتأمّل والذوبان الصوفي يقدمها دراويش في دورانهم العائم في فضاء روحي، تهليلاً وتسبيحاً فإنشاداً، فتتسع البقعة البيضاء كأنها تنشر طاقةً تتعاظم مع راقصين يرسمون، بحركة لا تتوقف، دائرةً تنشد الاكتمال. ومع المنشدين والموسيقيين تُحبس الأنفاس وتُخطف في تهاليل تكاد تجاور السماء.
فرقة quot;تهليلةquot; للإنشاد الصوفي والتعابير الروحية قدمت على مسرح كركلا في بيروت شطحاتها الصوفيّة المفعمة بالصفاء والتجلّي، في لقاء مع الصحافة والإعلام تمهيداً للقاء آخر وعرض مكتمل على المسرح العائم في quot;معرض رشيد كرامي الدوليquot; في عاصمة الشمال، السبت المقبل بدعوة من مهرجانات طرابلس الدولية في اختتام مهرجانات السنة. والباقة المختارة من الفرقة كشفت أداء ساحرا جاذباً لمحبّي هذا اللون الصوفي إلى عاصمة الشمال، حيث ستقدّم الفرقة برنامجاً كثيفا من القصائد الصوفيّة لابن الفارض والحلاج وابن عربي، ولآخرين معاصرين مثل عمر البطش وسعيد فرحات. ومع المنشدين والموسيقيين يرافقهم الدراويش، تستعيد quot;تهليلةquot; تراثاً إسلامياً عريقاً لمنشدي بني أميّة، لكأنها تستحضر في إنشادها الآذان الجماعي الوحيد في العالم الذي ينشده مؤذّنو مسجد بني أميّة في دمشق.
عرضت الفرقة الأصيلة بعضاً من عناصر الإدهاش في عملها فكانت بمثابة اختطاف إلى سلامٍ وصفاء وسكون صعب العثور عليه في زمن الصخب والضجيج. احتلت الخشبة المشهديّة الصوفيّة المسرفة في الوجد والبَوح والعشق الإلهي، في أقانيمها الثلاثة من منشدين وموسيقيين ودراويش، تنبئ بانخطافٍ حتميّ يتلبّس المؤدّي والناظر على حدّ سواء. ومع تلك الأثواب البيضاء الدالّة على صفاء أكيد يصيره الراقص، والفضفاضة لالتقاط أكبر قدر ممكن من الكون، يغيب الراقص في لولبية مذهلة تصل إلى أقصى الانخطاف وتأخذ المُشاهد إلى مكان عشقي إلهي لا يتسنى له إلا نادراً.
وفي حكاية الوجد رقصاً كان المسرح لغة الحياة والموت، يكتبونها بحركاتهم ويعبرون عنها باتساع أيديهم وتقلّصها في حركة رئيسية تناجي الخالق بارتفاع اليد اليمنى للدعاء واليسرى في اتجاه الأرض. والحركات الأخرى فيها التواضع الصوفي وفيها الذوبان في الله والكون في انحناءة تلازم الدراويش مع حركات الرأس المتغيرة بحسب إيقاع المنشد والموسيقى.
اختارت quot;تهليلةquot; الرفاعيّة والشاذليّة من الطرق الصوفيّة الأربع وفيها الفاتحة الجماعية والتلاوة القرآنية والموشّح والتقاسيم والتغريد وسماع الرصد، مع مُنشدها عمر الزهوري بإشراف هشام الخطيب وتعمل الفرقة من خلال مؤسسة quot;تهليلة للإنتاج الصوفي والأندلسيquot; التي تتبع منهج كبير المنشدين في دمشق الشيخ حمزة شكور. وتحرص الفرقة على رفع مستوى الإنشاد الديني في العالم الإسلامي في سبيل إرساء المحبة والإنسانية وتعميق الإخاء الإسلامي المسيحي، عبر تقديمها الحفلات والمهرجانات التي تعنى بالطقوس الصوفيّة، مثل عروض الدراويش المولوية بطابعها الصوفي، والاهتمام بالموسيقى العربية والأندلسية.
جالت quot;تهليلةquot; عواصم عربية وعالمية قدّمت فيها فنّها الراقي، فحلّت ضيفة على أعرق المسارح في العالم مثل quot;تياتر دو لا فيلquot; في باريس وquot;مسرح كوين إليزابيتquot; في لندن وquot;مسرح ثقافات العالمquot; في أمستردام و مسرح quot;غراند هولquot; في نيويورك، ومسارح عربية كبيرة في الأردن والدار البيضاء ومراكش وبعلبك وغيرها.
إرث عربي يحمل الكثير من الثراء تصونه فرقة quot;تهليلةquot; ناقلة حنيناً ملحّاً إلى الأصالة وعَودة إلى تاريخ يعبق بصوَر باتت نادرة.