سلوى اللوباني من القاهرة: جذبتني رواية quot;أبناء ودماءquot; للمؤلفة quot;لمياء بنت ماجد بن سعودquot; الصادرة حديثاً عن دار الساقي جداً بمجرد أن قرأت الملخص المكتوب على خلف الرواية quot;وُجدت منال جثة هامدة بعد اغتصابها.. حفاظاً على سمعة العائلة اتفق كبارها على الإدعاء أن الوفاة جاءت نتيجة إرتطام رأسها بأحد الأحجار.. أبوها يعرف أنها قُتلت. لكنه يعض على الجرح، ويلوذ بالصمت. يعتزل الناس. ويصبح أسير غرفته، ينحت تماثيل تجسد ابنته الراحلة. شقيقتها التوأم quot;ليالquot; ساورتها الشكوك فقررت كشف ملابسات الجريمة ومعرفة الحقيقة. وكانت المفاجأة صاعقة عندما فتح البستاني العجوز قلبه، وحكى ما رآه ليلة مصرع الفتاة البريئةquot;!!
لا أخفي بأن إهتمامي بقراءة الرواية كان إنسانياً بحتاً، فقد نجحت الكاتبة أن تجذبني كإنسان إلى قضية بالغة الأهمية في مجتمعاتنا العربية.. نسمع عنها كثيراً ولكن ما بالك إذا مست أحد قريب منك.. أختك!! بالإضافة إلى فضولي لمعرفة موقف العائلة من البداية إلى النهاية بإعلان الإغتصاب لينال الفاعل عقوبته.. وهل ستكون نهاية الرواية مثل نهاية مسلسل quot;قضية رأي عامquot; التي تم فيه القبض على إبن الوزير وإنزال عقوبة الإعدام به ولكن بعد معاناة كبيرة من قبل المغتصبة د. عبلة وهي طبيبة وأستاذة جامعة، يتخلى عنها زوجها وأولادها وعائلتها في بداية الأمر فهذه فضيحة كبيرة!! ثم قرارها النهائي بان تظهر في برنامج تلفزيوني وتعلن انه تم اغتصابها من قبل ابن الوزير لتطالب بحقها ومعاقبته.
أماكن وشخصيات واقعية
الرواية واقعية بامتياز بأماكنها وشخصياتها وأحداثها.. نجحت الكاتبة في وصف الأماكن والشخصيات كأنك تعيش داخل القصر مع شخصيات الرواية. هذا القصر الذي كان أيام عزه قبلة الأنظار وملتقى وجهاء العوائل في المنطقة الشرقية بالسعودية.. نسجت المخيلات أقاويل كثيرة حوله قال بعضهم أنه بلدة صغيرة داخل بلدة كبيرة!! في الواقع إن المنزل كان مكوناً من قصرين كبيرين على الطراز الأندلسي وتقرباً من الله شاد السيد حمد الجد الأكبر للعائلة جامعاً قرب المنزل.. السيد حمد الذي تخصص في هندسة البترول في جامعة القاهرة.. وعاد للوطن ليكون من أنشط الموظفين في وزارة البترول وتسرد لنا الكاتبة كيف كان شخصية واثقة مهتمة بالتعليم وبالتطور وكان مقصداً لطالبي المشورة والنصح في مجمل الأمور ومحباً لعمل الخير ومساعدة الغريب قبل الغريب.
شخصيات الرواية مستقلة تماماً لا تشعر بتدخل الكاتبة.. تتحرك بحريتها وتصنع الحدث. تتطور بتطور أحداث الرواية. تصف الكاتبة شخصيات الرواية بدقة متناهية ومؤثرة، تركيبتها للشخصية رائعة، تشعر فعلا بأنها حيية تتحرك حولك تشعر بنبضها بطباعهم وهواياتهم بدءا من الجد الأكبر حمد المتخصص في إقتناء الخيل وتربية الصقور فهو من قبيلة نجدية عريقة في المنطقة الوسطى إلى ممارسة طقسه الصباحي في الخضوع للتأمل والإسترخاء وذوقه الفني، لتنتقل بنا إلى وصف شخصية ولديه عادل وتركي وموافقة الأب حمد على زواج ابنه عادل من امرأة سورية لأنها متعلمة وهو أمر يشجعه الجد كثيراً ثم تنتقل بنا إلى أبناء عادل ومنهم أحمد الذي رزق بالتوأم منال وليال. أحمد الرجل المحب للخير، متعلم مجتهد في عمله مهذب حنون يحترم نفسه والآخرين محل تقدير لدى عارفيه وأصدقائه وزوجته نواره متعلمة مثقفة تقرأ في علم النفس وتربية الأطفال وغيرها. تركي كان بعكس أخوه عادل حتى ابناؤه تطبعوا بطباعه منهم زياد الذي رزق صبيا أطلق عليه اسم جاسر ولكن زياد توفي في حادث سير فيتولى الجد تركي تربية جاسر بعد أن قررت والدته الزواج. كان أطفال القصر يلهون معا في الحديقة ولكنهم لم يحبوا جاسر كثيرا إذ كان لا يختلف في علو صوته وعصبيته وقلة احترامه للآخرين صغاراً وكباراً عن جده تركي، كان عنيفا متهوراً ووقعت حوادث متتالية من قبله في أذية الأطفال مما اضطر جده لعرضه على طبيب أقر بحاجته للعلاج النفسي. كان جاسر في الثالثة عشرة من عمره عندما اغتصب منال في حديقة القصر.. منال ذات الأحد عشر ربيعاً!! وهو المشهد الذي أبدعت الكاتبة بوصفه دون مبالغة أو ابتذال!!
ما هو المستقبل؟
بدأت الكاتبة معنا من الماضي بدايات الجد الأكبر السيد حمد إلى الحاضر لتترك لنا توقع المستقبل مفتوحاً بعد أن أطلقت ليال شقيقة منال رصاصتها.. فعلى من أطلقتها.. على والدها أم تركي أم على جاسر؟ بنظرها أختها قتلت أربع مرات مرة عندما اغتصبها جاسر، ومرة عندما حاول عمها تركي قتلها بعد أن علم أن جاسر اغتصبها ليداري فعلته ويحميه، ومرة عندما أكمل الجد عادل ما بدأه الأول والثاني خوفاً وحزناً عليها من العار الذي لحق بها، ومرة عندما ارتضى والدها السكوت والانكفاء ولم يأخذ بالثأر! دخلت إلى غرفة والدها في المستشفى.. الغرفة التي يوجد بها تركي وجاسر ايضا... وأطلقت رصاصتها.. دوت رصاصة واحدة فهوى شخص واحد!!
لم يتوقف قلم الكاتبة عن طرح الأسباب التي أدت إلى اغتصاب جاسر لمنال ولكن دون أن تشير إلى ذلك مباشرة بل تتركها تتراكم في عقل القارئ وأيضا لم يتوقف قلمها وهي تخط للقارئ خلفية هذه العائلة المتعلمة المنفتحة المحبة للخير ولكن مع ذلك عندما حدث الاغتصاب كانت العادات والتقاليد سيد الموقف ولم تترك مكانا للعلم والتعليم والتفكير السليم مكانا للتعاطي مع هذه القضية! فلم تشفع للأب دراسته في لندن وانفتاحه على العديد من الأفكار المتطورة.. وأيضا والدتها القارئة والمثقفة.. وحتى جدها المتعلم الذي قتلها بيده!!
لن أقول كما يذكر عن أي رواية سعودية تتناول قضية محلية بأنها كشفت المسكوت عنه في المجتمع السعودي، بالرغم من تحديد الكاتبة لجنسية شخصيات الرواية إلا انه بالإمكان إسقاط أي جنسية على الشخصيات الواردة في الرواية فقضية الاغتصاب موجودة في أي مجتمع عربي إضافة إلى الازدواجية في الشخصية من سمات مجتمعاتنا التي بالرغم من التعليم تواصل التخلف والتعتيم!!!
ذكرتني رواية أبناء ودماء بعبارة لساراماجو في روايته العمى quot;أنتم لا تعرفون ماذا يعني أن نكون مبصرين في عالم كل من فيه عميان.. لا أعتقد أننا عمينا بل أعتقد أننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرونquot;!!
salwalubani@hotmail. com
التعليقات