خيال الشاعر وقلبه البستان وخلود الماء في الجنة الأرضية


ترجمة وتقديم سليم هاشم: لم يكن الله رمزا للصداقة إلا في قصيدة سهراب سبهري، ولم يخلَّد الماء يوماً على الأرض إلاّ في عالمه، فمن الطبيعة وشحذ مخيلة الصياد داخل الإنسان ولدت القصيدة في عالم سهراب، فهو الذي يقدس التراب،، ويصلي للشجرة، ويناجي الطير، وينظر للوجود بوصفه فراشة محاصرة معذبة بالماء والشمس.. وليس من السهل علينا ونحن نقدم هذه القصائد المترجمة اعتماد مغامرة انطباعية للدخول إلى تجربة متفردة أُقيمت على إرث شعري احتفل بالوردة والماء والشمعة والضوء لقرون عدة، من هنا ليس سهلاً أيضا تجزئة تجربة سهراب سبهري الشعرية، وتوصيفها على عجل، وليس من اليسير أيضا التطفل على منهج ما للاقتراب من عالم يضج بالحكمة والتحقق والهدوء والرؤى والتوق إلى المعرفة الإلهية.. لذا ستكون الإشارات اللاحقة التي نقدم بها مجموعة مختارة من قصائد الشاعر الإيراني سهراب سبهري بمثابة تقديم مركز للخوض في نوع من الأسرار الشعرية التي تعد انقاذاً للروح الإنسانية في أزمتها الوجودية عبر الشعر،إن فرضية امتزاج الشعر بالرؤية الصوفية عبر لغة جديدة تحتفل وتصف وتقبض من ثم على روح الشعر واحدة من المقدمات المتاحة لفهم التعقيد الظاهري في نصوص سهراب، فنصوصه مهما احتكمت لعناصر متماسكة من الحكمة النورانية وتجلت في قالب شعري، والطيران في عالم الماء واللون، فإن النظر من زواية روحية إلى تجربة شعرية معاصرة بعمق نصوص سهراب يسمح لنا بتلمس مساحة ما من الوجود الشعري والحياتي لسهراب، أو تسمح لنا أن نفهم الاخضرار المنتشر في شعره بوصفه إشارة رقيقة إلى الأحلام الإلهية التي لم يحققها الأنبياء، وعذابات الوعي البشري إزاء الجمال الأرضي، فكما أن الزرقة تشير إلى السماء في معرفتنا ومجازنا، إلا أنها أقرب للطيران في فهم سهراب.. خيالات مثل هذه تزاداد تعقيداً في حال تعاملنا مع نصوص سهراب انطلاقا من تصور مستقر ونهائي لدينا عن ماهية الشعر وجوهره، ونعني الشعر الذي يمكن أن يصمد لقرون. فسهراب سبهري على وجه التحديد قد ذهب بالشعر بعيداً، فبدلاً من سفر العارف التقليدي في داخله، والبحث المتواصل عن ظلال الحقيقة الإلهية هناك في ثنايا القلب الإنساني.. توجه سهراب نحو كل ما هو خارجه وتفحصه كي يتلمس تلك الحركة الجوهرية داخل كل ما هو حوله، فمن خلال الرقة والأناقة والجمال والتمعن في أسرار الطبيعة راح الكون يتجلى بألوانه ومكوناته وحركته في قصيدة غامضة تفيض حكمة وجمالاً، فما يبدو غامضاً في نص سهراب يتجلى بجمال مغاير يشغل العين والعقل معا،ولا يمكن قراءة مثل هذا النتاج الشعري بعيداً عن حالة عاطفية ممزوجة برؤية ما أميل لنزوع عرفاني ينحاز للجنة الأرضية ؛ لأنه نوع من الشعر أقرب إلى الوهم وانقلاب على الصورة المستقرة في وعينا عن الطبيعة والكون، فكانت مواجهة بين خيالنا وبين ما يمكن تسميته بالأسطورة المعاصرة.
الحب، الحقيقة، الله، الوحدة، الموت اهتمامات يومية ضاغطة في وعي سهراب.. يتم التعبير عنها حسب منطق العثور عليها في كل تفصيل وكل حركة وصورة على الأرض.
فالنص الشعري في كثير من مراحل تجربة سهراب وقوف في قلب العدم.. احتفال بالألوان.. نظرة بريئة لكل ما تشاركنا به الطبيعة.. حوار مع الخارج بكل أشكاله، إعادة رسم مسار خطواتنا ونحن نواجه الموت والوحدة والطبيعة والصباح والشمس والوردة والماء.. يعطينا مبرّراً للتواصل مع توحدنا وموتنا عبر تجليات الطبيعة المادية التي تتحصن بأسرارها وغموضها وجمالها، وهي تعذبنا بعجزنا عن الإمساك بجوهرها الذي لا نراه إلاّ في صورة، وهي الفكرة التي أقدم سهراب على صياغتها في موقف شعري ملفت.
فهو ينطعف بحواسنا إلى حقيقة أن الجمال الكامن في الأشكال التي حولنا أهم من مقدساتنا الظاهرية.. كيف يمكن الاستدلال على وجود جمال روحي ما في الكعبة مثلا ازاء علاقة مذهلة بين وردة حمراء وفراشة ملونة، أو موجة ما تكتب حركتها في عقولنا.. واحدة من متع نصوص سهراب هي التدريب على استعارة موقف الإله الشعري، والنظر من جديد في كيفية الإصغاء إلى الصوت الالهي الكامن في الشجرة، أو ملامسة أحلام ملائكية تتخفى في جناحي طائر يمر في الأفق سريعا. فالقصيدة تستنهض يقظتنا.. وتحرّض خيالنا لمعاودة مصالحة الطبيعة التي عجزت الروح الانسانية عن التواصل مع حقيقتها.
هذه ملاحظات ذات نزعة شعرية نجد أنها أكثر فائدة من البحث في بنية قصيدة سهراب، أو مراجعة النقودات الهائلة التي خلَّفتها نصوصه الشعرية، لأن تجربة سهراب الشعرية بالنسبة للقارئ العربي قد اختزلت للأسف بنماذج شعرية محدودة مثل : وقع خطوات الماء، في وقت لم يكتب فيه هذا العدد الهائل من الدراسات والمقالات كما كتب عن قصيدة : المسافر.
لقد أذهب سهراب بقلوب وعقول أجيال من القراء الإيرانيين وهو يقودهم إلى بستانه الشعري، إلى عالمه المخلوق من الماء والرائحة والتراب والشجرة والشمس، فبعد أن يمرّ القارئ على البساطة الكامنة في نصوصه، ويُلهم بوضوح الرؤية، يجد مخيلته وذائقته أمام اختبار نعمة الجمال المنثور في غموض وتجريد كبيرين. وهي واحدة من الزوايا المعقدة في تجربة سهراب سبهري. الذي يعدّ حسب نقاد الشعر واحداً من أكثر الشعراء رقة وسمواً في السنوات المئة الماضية من تاريخ الشعر الإيراني، وخلَّفت تجربته وأسلوبه الشعريين،فضلا عن رؤيته الروحية آثارها على أجيال من الشعراء، وانسجم شعريا مع ما يعتقده في الحياة من أفكار ومبادئ التزم بها، وظهر في صورة الملهم للأجيال عبر نصوصه وتحولاته الشعرية، وكان أقرب للمرايا أمام أبصارهم وهم يتأكدون عبر انعاكساتها من صورهم في خلاص الشعر لدى سهراب الذي تجسد بكل وضوح في نصوصه وحياته وسلوكه.
لقد أذهلت تجربة هذا القادم من كاشان القراء الايرانيين، وكانت لمخيلته تأثيرها المباشر على الذائقة الايرانية، تلك الذائقة وريثة حافظ والرومي وسعدي وفريد الدين ونظامي وغيرهم. لقد تمثل لهم جلال الدين وحافظ وسعدي وعشرات الشعراء في نتاج مخيلة سهراب، واستحضرت براءة التجربة الروحية في تجربة معاصرة،جعلت منه شاعراً كبيراً انعطف بالشعر الإيراني انعطافة كبرى أسست لتجربة فريدة سيكون من الصعب تقليدها.
ولغرض قراءة سهراب يمكن تتبعه على مراحل ثلاث، الأولى : وهي التي تندرج فيها تجربة موت اللون، وحطام الشمس، وشرق الحزن، والثانية تجربة قصيدة مسافر وخطى الماء و فضاء أخضر وهي المرحلة التي جعلت سهراب في مصاف كبار شعراء ايران، والثالثة تجربة نضج مكتملة برؤيتها ولغتها تندرج فيها الكثير من كتبه الشعرية حيث عبر سهراب إلى عوالم تجربة قل نظيرها في الشعر الإيراني.
وعبر روح سهراب الهادئة التي تركت بصماتها على تجربته الشعرية اندفعت مميزات عالم الشرق ومزاجه،روحانيته ولانهائيته فوضاه وعجائبه تتدفق في لغة شعرية أقل ما توصف به أنها لغة مخميلة ناعمة تواصل معها أجيال من القراء العاديين والشعراء، وعدّت الشكل الأكثر تعبيراً عن الروح الإيرانية شعريا، حيث ترسخ الخيال في مواجهة الواقع بكل تفاصيله المادية. خيال سهراب الذي تجلى كنوع من البراءة أخذ قراء شعره إلى عالم من الاسئلة والجمال والغرابة التي تظهر بهدوء وتتسلل إلى عقولهم وأرواحهم، حتى غدا اسم سهراب سبهري يساوي القصيدة، يساوي الشعر، يساوي الطبيعة بل يزاحم في بعض الاحيان ابتكارات الخالق، وهو ما تسلل إلى مشاعر وعقول الايرانيين المتحمسين لتأليه الخيال البشري.
لم يهمل سهراب بطبيعة الحال قضايا مجمتعه السياسية والاجتماعية، لكنه ترسخ في الوجدان الايراني بوصفه أحد شعراء الأبدية الكبار، ولم يكن من اليسير أن يقلد أحدا تجربة سهراب لتفرده ومساحته الشعرية البكر النادرة، ولعمق تجربته ولغته ومتصوراته الشعرية، حيث لم يكن الإشكال في تقليد هذه التجربة أو في استعارة لغة سهراب وحدها انما في مشاعر سهراب وحساسيته وتعقيدات خياله الشعري ولغته وأبنيته وقدرته على دمج عالم الغيب السماوي بيومنا الأرضي.
ليس من الملح والضروري تناول سيرة حياة سهراب سبهري فهي متداولة في أكثر من عشرين لغة، واهتم الكثير من نقاد الغرب والشرق بتفاصيل حياته ونهايتها.. لذا تركزت ملاحظتنا في فكرة إيجاد مدخل مختصر قد يسمح بالدخول إلى عالم سهراب شعرياً من خلال المرور سريعاً على خلاصات عامة للتعامل مع السمات الفريدة الخاصة به، والنظر في صناعة نصوص سهراب التي ظهرت كمحاولة للتغلب على الخيال المطلق، الخيال الذي ظل في نصوص سهراب أكثر حرية وأوسع آفاقا في سياق ردود الأفعال الإنسانية عليه.
إنه في النهاية قفزة كبيرة لجعل الشعر مركزا للظواهر والأشياء، لجعل الشعر كل شيء على قيد الحياة، لقد اقترح سهراب كيفيات عدة لرسم اليوم شعريا، فالنظر إلى الأرض فكرة قصيدة يمكن أن تخلق حديقة تتخذ من الزهور إيقاعها ومناخها ووجودها، الإصغاء إلى الأصوات فيها عبادة ما، وتأمل حركة الماء والريح فيها افتضاض للذات بكر، استماع لصوت الإيمان حين يهطل المطر، تعاطف مقدس مع الحس البشري العاري، كان سهراب يعطي الروح الإيرانية هذه المساحة من الرقة، يعطيها القدرة التأملية المتعالية، عبر صوته ومخيلته، لنكتشف كم كان قلب سهراب مثيراً للجدل وكم كانت روحه غامضة.

من الماء وبعد

يوم كانت المعرفة تعيش على حافة الماء
كان الإنسان يرعى في كسل لطيف
فرِحاً بالفلسفات اللازوردية
يفكر في جهة الطيور
ويضرب نبض الشجرة
وتهزمه شروط الشقائق
وفي عمق كلامه يتخبط مفهوم الكلمة الفظة
ينام الإنسان في محتوى العناصر
ويصحو عند طلوع الخوف
ولكن أحيانا يدوي صوت النمو الغريب في مفصل اللذة الهشة
وتغدو ركبة العروج ترابية
حينها فقط كانت تظل أصابع التكامل
في هندسة الحزن الدقيقة وحيدة.

يا مثيراً.. يا قديماً

في الصباح
إثارة فضاء العيد
أطلت بظلالها على الذائقة
وعلى مساحة التقويم كانت صورتي تسقط
في منحنى الطفولة المائلة
فوق انحدار فسحة العيد
صرخت:
أي هواء
كان في رئتي جناح طيور العالم بهذا التجلي
كم كان الماء رطباً
ذلك اليوم
وكم كانت الريح متوارية معاندة
فرصصت واجباتي الهندسية
على الأرض،
ذلك اليوم
أغرقت عدداً من المثلثات في الماء
حائرة أصبحت
بحثت فوق الجبل الذي في خريطة الجغرافيا
يا طائرة النجدة
أيها الأسف
الطرح تبعثر في عبور الريح
يا هبوب أشد الأشكال الهائجة
كن دليلا على عطش هذه الحقيقة المتلاشية.

موت اللون

ميتة بالصمت
الليلة الملونة هذه
ومن الطرق البعيدة وصل الطائر الأسود
ينشد من قمة السطح ليلة الخيبة
ثملاً جاء فاتحاً الطريق
الطائر حزين الطراز هذا،
في هذا اللون الخائب
قطعة من تتابع الأغنيات
الصوت الوحيد للطائر الشجاع
يزين أذن الصمت ببساطة
مع صدى القرط
وصل من الطرق البعيدة الطائر الأسود
جالسا على قمة عالية من ليلة الخيبة
كصخرة وبلا حركة
تنزلق نظراته
على أشكال تصوره الملتبس
يجرحه النوم الرائع ويؤذيه
بينما نبتت زهور اللون في تراب ليلي،
في طريق العطر
توقف النسيم عن الميلان
بخدعة كان يرسم كل لحظة
هذا الطائر حزين الطراز صورة بمنقاره
الحبل المنقطع
والنوم المكسور
وحلم الأرض الأسطوري نسي تفتح أزهار اللون
يجب العبور من انحناءة هذه الطريق دونما كلام
لوناً ميتاً كان في ركن هذا الليل اللا محدود.

صوت اللقاء

كانت الفواكه تغني
حين ذهبتُ بالسلة إلى ساحة السوق صباحاً
تغني الفاكهة في الشمس
والحياة تُرى في الأطباق
على كمال قشور النوم الأبدي
وقلق البساتين يلمع في ظل الثمار كلها
والمجهول يعوم فوق بريق السفرجل
كل رمانة كانت تمدّ لونها لتصل أرض الأتقياء
وا حسرتاه على المارة
وعلى فضاء البرتقال المزدهر
في ظلال الزاوية
رجعت إلى المنزل، سألتني أمي
: هل اشتريت شيئاً من الفواكه؟
ـ كيف يمكن وضع فواكه الأبدية في هذه السلة؟
: قلتُ لك أن تشتري من الساحة رماناً رائعاً
ـ تذوقت الرمان
فاستيقظ مرحه من جانب السلة
عجباً ماذا حدث لنهاية وجبة الظهيرة
ذهبت الظهيرة، والسفرجل من مرايا التصوير إلى الأقاصي النائية في الحياة.

نبض إلى الصباح الندي

آه.. كم هو جليل الإيثار على الأسطح
يا سرطان شريف العزلة
سطحي هذا هبة لك
جاء أحدهم
مدّ يدي حتى عضلات الجنة
أحدهم جاء
بينما نور فجر المذاهب بين أزرار ملابسه يزهر
ومن العلف الجاف القديم كان يصنع النافذة
كما لو كان مثل فكر الأمس الفتي
تمتلئ حنجرته بصفات الشطآن الزرقاء
جاء أحدهم وأخذ كتبي
راسماً فوق رأسي سقفاً من هندسة الزهور
وعصراً جعلني واسعة
كالنوافذ المكررة
الطاولة وضعتني تحت حماسة المطر
ثم جلسنا
وتحدثنا عن دقائق التوريق
وعن الكلمات التي كانت تتحرك في حياتهم وسط الماء
وتحت غيوم مناسبة كانت فرصتنا
كجسد حمامة حائرة
بحجم جميل
في منتنصف الليل من تلاطم الثمار
صارت خطة الأشجار غريبة
وذهب خيط أحلامنا هباء
وجاء الصباح
عند بداية الاستحمام
في أحشاء حديقة الدردار الرطبة.

غبارالابتسامة

في السهول الرطبة رأيتها
الشمس التي كانت تتخلل الشجيرات
تراقب معشوقاً حزيناً ثملاً
شعرها المنثور، خدودها المبللة بالندى
وابتسامة الزنبق للحقول رأيتها
في شعاع ضوء المياه تتعاكس
في الريح المخدوشة كان يسكب صوته
وبرائحة التراب كانت تمتزج جلوته
النهر
كان النهر مضيئا، موجة من الصوت
وأعيننا في نهر الوهم تحدق
رآه مظلما بينما كان الستار مضيئا
مأسورة كانت الهندسة في قبضة الوهم والدخان
وعلى جسده كانت تنهمر نظراته وهو يقول :
آفة الاكتئاب قربي
ونبض أغنية النور، سهل البحر هذا
يظلل ضحكته المظلمة.

قرب البعيد

السيده عند العتبة
بجسد مصاب بجروح دائمة
اقتربت
صارت العين تفصيلا
استبدل الحرف بالجناح، بالإثارة، بالإشراقٍ
والشمس استبدلت بالظل
ذهبتُ أتمشى في الشمس قليلا
ابتعدتُ في الإشارات السارّة
إلى الطفولة والرمال ذهبتُ
إلى قلب الأخطاء المفرحة
إلى كل تلك الأشياء المحضة
ذهبت إلى المياه المصورة
إلى أزهار شجرة الكمثرى،
مع جذع من الحضور
كان النبض يمتزج بالحقائق الرطبة
وحيرتي تختلط بالشجرة
رأيت بضع أمتار من ملكوتي
ضيقة كانت
عندما يضيق قلب الإنسان
يبحث عن خلاص ما
ذهبتُ أيضا
إلى الطاولة
لتذوق نضارة الخضار واللبن
حيث كان الخبز والاستكان والتجرّع
والحنجرة تحترق
عندما عدتُ
كانت السيدة في طريقي
بجسد مصاب بجروح دائمة،
العلبة المعدنية الفارغة
تجرح حنجرة جدول الماء

اطلالة على اللون

أشك في الليل وهو يترك نظرة
أين تذهب مع موجة الصمت؟
وقد أكل الماء جذوري
من التعقّل
أين أنا، وأين هي تربة النسيان
بعيداً كان عن ألوان المرج
وفوق موج النوم زورق السرير كان
وامتلأ الزجاج بشعاعه
وخطتي التي من الشمس تلوَّثت
وخيم الأسى فوق شاطئ النور
وفي الماء تراني عيني
وانزلق ظل الخوف ومضى
ساقية النوم تراني
أنزلق ماشياً في النسيم
نسي والطريق نسيت صورة قدمي
ولم تغدو قصتي على الألسن
حينما أخذت العاصفة الرملية مشرداً معها.

الزمن اللطيف للرمال

المطر
يغسل أضلاع الفسحة
بينما ألعب مع الرمال الرطبة
وأحلم بالأسفار المنقوشة
أمتزجُ بحرية الرمال
وكان قلبي يضيق
وفي الحديقة سفرة مفروشة
ووسطها ما يشبه
عنقود عنب
غطى الشوائب كلها
دوَّخني الصمت المهيأ
وجدتُ الشجرة
وحينما تكون الشجرة لابد من الوجود
لابد من الوجود.

كان الطائر هنا

يا عبوراً ظريفاً
تصاغر معنى الجناح
كي يحترق جناح ذكائي من الحسد،
أيتها الحياة القاسية
جذورك تشرب الماء
من الضوء
والإنسان بهذا الحزن الهائل
يحلم بيوم الحوض المملوء
بدلا من السطل الذي يغسل قدمه فيه
يا من ارتفعت قليلا عن الواقع
مع اهتزاز الغريزة اللطيفة
تتساقط منك الأشكال الموروثة المظلمة، من أجنحتك تتساقط،
العصمة حائرة بالطيران
مثل خط مغلق
أرش الرمز في مسار الفضاء
أنا
أنا وريثة الزخرفة في فرش السجاد
وكل انحناءات هذا الحوض البيتي
والصحن الذي شكله من النحاس
كان رفيق رحلتي
من الأراضي الخام الطبيعية
إلى محو وجدان اليوم
يا نظرة التحرك
حجم الأصبع المتكرر
أغلق شق اشتعالي،
قبل هذا في شفاه التفاح
اشتعلت أصابعي
قبل هذا
حينما كان الإنسان فرعاً من الأسرة البشرية
في الزمن الذي في ظل ورق الإدراك
فوق الأجفان الكبيرة
تذهب بشارة النوم اللذيذ من الرأس
من مراقبة جهة النجوم
كان دم الإنسان يمتلئ بسبائك الاشراق،
يا حضور الأمس البدوي
يا من ترمي إلى الأرض قدسية الحياة
وانت تقفز من الغصن إلى التراب
بعد ذهابك إلى الشاطئ
كنت أسمع صوت أقدام العطش السريعة
وجناحك الحاضر يسبق جوابك
من سؤال الفضاء
بني آدم هم طومار طويل من الانتظار
يا أيها الطائر
أنت الخال، النقطة التي في صفحة ارتجال الحياة.

محتوى الليل القديم

من بين الأحاديث الخضراء الفلكية
أوراق تين الظلام
تجلب عفة الصخور
يحترق ثدي المياه من حسرة صورة البستان،
التفاحة اليومية
لها طعم الوهم في الفم
يا خوفاً قديماً
خطابك أصاب أصابعي بالاغماء،
هذه الليلة
لا نهاية لأصابعي
الليلة تُقطف الثمار
من الأغصان الأسطورية،
الليلة هذه
كل شجرة لها أوراق بحجم خوفي
ذابت جرأة الكلام في سخونة اللقاء
يا أيتها البدايات الملوّنة
احفظي عيوني من هبوب السحر
ما زلت
أحلم بمواهب الليل المجهولة
ما زلت
عطشى لمياه المشباك
أزرار ملابسي
بلون أوراد الإعصار
في المرج الخصب قبل تفشي الكلام
كانت حفلتنا الجسمانية الأخيرة قائمة
كنت أسمع فيها
موسيقى الكواكب من جوف الخزف
وكانت عيناي مليئة برحيل السحرة
يا أقدم صورة للنرجس في مرآة الحزن
أخذتني جذبتك
إلى هواء التكامل،
ربما
نشرب في سخونة الحرف ماء البصيرة
إذ أن موروث الليل مشتت،
عار الطهارة هي رواية الروح
في زمن قبل طلوع أحرف الهجاء
كان محشراً من كل الأحياء
من بين جميع المعارضين
تشقق فكّي من غرور الكلام
ومن بعد
أنا التي أغرق لركبتي في نقاء الصمت النباتي
غسلت يدي ووجهي من مراقبة الأشكال،
وفي موسم آخر
تبللت أحذيتي من لفظ الندى
وعندما جلست على الصخرة
كنت أسمع هجرة الصخرة بجانب قدميَّ
ثم شاهدت كيف تتجنبني الأغصان
في موسم يدي،
يا ليلة ارتجالية
كان منديلي مليئا بعنقود التدبير الخام
وراء الجدار كان نومي ثقيلا
جاء الطائر القادم من أنس الظلام
وأخذ منديلي
سمعت صوت أول حصاة إلهام تحت قدمي
صار دمي مضيفا رقيقا للفضاء
وراح نبضي يعوم بين العناصر
يا ليل
ماذا أقول
ذاب الجسم المخاطب البارد في إشراق النافذة الدافئة
صارت أصابعي مشرقة.

الخط أيضا أبيض

وقت الصباح
يغرد العصفور
والخريف يغدو أوراقا
على وحدة الجدار،
سلوك الشمس المبهج
يوقظ حجم الفساد من النوم
تفاحة واحدة تفسد في الزنبيل
كإحساس غربة الأشياء
يمرّ على الجفن
بين الشجرة والثانية اخضرار
تكرار اللازورد يمتزج بحسرة الكلام
لكن يا حسرة على بياض الورقة،
نبض حروفنا
يغدو صعباً في غياب الحبر
وفي ذهن الحال تفقد جاذبية الشكل
يجب أن يغلق الكتاب
وننهض
للمشي على الأقدام كل الوقت
والنظر إلى الزهور
والاستماع إلى الغموض
والجري حتى العمق
والفناء في رائحة التراب
يجب الوصول إلى ملتقى الشجرة، وإلى الله
يجب الجلوس
قرب الانبساط في مكان بين العبث والكشف.

شاعر ومترجم عراقي
[email protected]