أن يقال عن روائي أنه quot;شيوعيquot;، فهذا فأل سيء عند قارئ مثلي يبحث عن الفن والمتعة. فكلمة الشيوعية - في الأدب - تستتبع آلياً مصطلح quot;الواقعية الاشتراكيةquot;. وهذا المصطلح بدوره، بما له من ظلال ستالينية جهمة، أوقع الكثير منا

وفاة الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو

في خيبات أمل متتالية، تكاد تصل، بل هي وصلت بالفعل إلى حدّ الكفّ عن قراءة رواد تلك المدرسة، منذ سبعينات القرن الماضي، وربما للأبد. غير أني على يقين، بأنّ هذه المقدمة القصيرة، تظلم روائياً مُعلّماً ومَعلماً، كوخسيه سراماغو، إذا قُرنت أو رُبطت باسمه وبإنجازه الفني الخارق، مهما كان ذلك الإقران أو الربط.
فالحق أنّ سراماغو، أبعد الأدباء الشيوعيين طُرّاً عن أيّ مُقتَرب أيدولوجي، إذا تعلّق الأمر بالفنون عموماً، وبفنَي الشعر والرواية، اللذين مارسهما باقتدار فريد، خصوصاً.
خوسيه سراماغو، شيوعي موقفاً، وموقفاً فقط. ولهذا بقي إلى آخر ومضة حياة في جسده، عضواً في الحزب الشيوعي البرتغالي. أما أدباً، فشأن آخر مختلف تماماً، ولا يشبه أحداً ولا يشبهه أحد من الكتاب الشيوعيين في أربعة أركان المعمورة.

هو quot;نسيج وحدهquot; بالتعبير التراثي، ليس بين الروائيين الشيوعيين، بل بين كل روائيي ومبدعي زمانه. روائيّ فاتح سكك ومُختلق عوالم. له مثل آباء الرواية الكونية، مجرّة إبداع وتخييل خاصة به. وفي هذا السياق، لا أخاف لو قارنته بأبي الرواية دستويفسكي.

إبداعه الروائي نخبوي بامتياز، لذا فقارئه نخبوي بالضرورة. ومع أنه من أكثر روائيي عصرناً مبيعاً، فهو أيضاً، وذلك سرّ عبقريته الباذخة، كان وسيكون من أكثرهم استدامة وقراءة في المستقبل. لذا لا نبالغ لو تنبأنا له بالاستدامة، شأن مؤسس الرواية الحديثة وجَدّها: ثربانتس، وشأن أبيها: دستوفيسكي.

ومن حسن حظنا كقراء عرب، أنه مترجم ومتاح لنا، وعلى أيدي مترجمين أكفاء.
تبقى نقطة مهمة بخصوص الترجمة: سراماغو الشاعر لم يصلنا بعد. ونأمل أن يتصدى لهذه المهمة الجليلة والنبيلة، مترجمون شعراء وعن البرتغالية مباشرة - إن أمكن. أما بخصوص رواياته، فثمة ثلاث روايات مهمة، من إنتاجه الأخير، لم تُترجم بعد للعربية. وهي روايات عظيمة، كما قرأنا في الإعلام الثقافي وفي المتابعات.

إنّ لديّ حلماً عظيماً، أن يُترجم هذا المبدع العملاق كاملاً للعربية - شعراً ورواية ومقالات. فهو، إضافة إلى صفاته المعروفة والرائجة، متأمل عظيم وواحد من قلة من المتأملين على مستوى العالم، يتمتع بنفاذ روحي ومعرفي، قلما أُتيح لغيره.

إلى ذلك، لا أعرف روائياً ديموقراطياً مع قارئيه مثل سراماغو. لعلّه الوحيد الذي يترك في كل عمل فني له مساحة كبيرة لقرّائه، حتى ليبدو هذا من خصائص فنّه الروائي، ومن علاماته القارّة.

إنني حزين عليك يا سراماغو. فقد فاجأني خبر موتك في الشريط الإخباري بقناة الجزيرة، أثناء ما كنت أتابع فلماً وثائقياً عن زميلك خوان غويتيسيلو. يا للمفارقة! ظهرتْ صورتك في متن الفيلم، خلال زيارتكم لرام الله وغزة، وظهر اسمك في الشريط الدوار أسفلها مُقترناً برحيلك!
لقد عرفتكما معاً، وقابلتكما وأحببتكما، مع رفاقكم الآخرين، عندما زرتم غزة. واليوم، الجمعة 18 حزيران تموت، هناك في معتزلك بجزيرة لازاروتي، بعد قضاء ليلة هادئة.

بفقدك، خسرنا كفلسطينيين واحداً من أكبر أصدقائنا الأحرار. وضميراً ندر أن يوجد ضمير مثله إصغاءً وشرفاً ونزاهة.

كنت نحات ماس في الرواية والشعر، وصاحب مواقف لا يُبارى. لذلك فنم هادئاً مستريحاً:
لقد أتممت مهمتك على أكمل وجه، وإنّ أمثالك، أبداً .. لا يموتون.