عبد الجبار العتابي من بغداد: كان عليّ صباح يوم الثلاثاء الثالث من شهر آب / اغسطس، أن أبحث في الصحف العراقية عن الشاعر عبد الوهاب البياتي، عن خبر يتضمن اقامة اصبوحة او احتفالية لمناسبة رحيله الثالثة عشرة، ولكن.. لم أجد اي ذكر له، وخلت الصحف الثقافية من اي شيء عنه، فخاب ظني وقلت: انه النسيان، وبالتأكيد كان النسيان، ولكن لا اعرف اذا كان متعمدا او غير متعمد، ولكن اشير الى المؤسسات الرسمية بالنسيان المتعمد كون الامر من شأنها واختصاصها، وخاصة ان صاحب الذكرى شاعر كبير مثل عبد الوهاب البياتي الذي طبقت شهرته افاقا بعيدة من العالم، ولا اعتقد ان اشعاره لم تدخل بلدا من البلدان، عتبت كثيرا على ما انتهيت اليه من تقصير واهمال، فلم اجد غير ان اردد: ان وزارة الثقافة نائمة في عسل الاسابيع الثقافية الخارجية، وان ذاكرة اتحاد الادباء لا تحفظ هذا التاريخ وليس له مكان في (روزنامتها) !!، بل انني قسوت في عتبي حينما ذهبت اسأل واتلقى اسئلة دهشة واستفهام وكيف يمكنني ان أتذكر وهم لا يتذكرون، وهناك من أكد لي انني مخطئ فليس الثالث من آب / اغسطس هو يوم رحيله، ولانني متأكد، فقد عدت أبحث عن البياتي، فقرأت اخبارا سارة وهي: ان الهيئة المصرية العامة للكتاب اصدر لمناسبة رحيله ديوانا بعنوان (المختار من شعر عبد الوهاب البياتي)، ولا بد من شكر الاخوان المصريين على هذا الاستذكار الذي لم يفعله العراقيون.

ولا اخفي انني طوال النهار وحتى منتصف الليل كنت ابحث في الصحف والفضائيات عن مستذكر للبياتي فلم أجد، ولست ابالغ في هذا، ولكنه مما يحزن، ومن ثم ابحث محاولا ايجاد اراء تبرر لي هذا النسيان او التناسي لشاعر كبير مثل البياتي عسى ان اقتنع بالمبررات وأسحب عتابي وقسوتي.
فالشاعر جليل خزعل ابتسم ساخرا ثم هز رأسه مشيرا الى ان نسيان مثل هذه الذكرى ادانة للوسط الثقافي حيث قال: هذ الرجل حظه سيئ، في زمن النظام السابق كان محسوبا على المعارضة والان الدولة الحديثة لا تحتفل به، شاعر لم يأخذ حقه من الشهرة والاهتمام، ويكفي انه مات في المنفى وحياته انا كنت شاهدا على وضعه الصحي والمعاشي الصعب جدا رغم انه قامة عالية في الثقافة العراقية والعربية والعالمية، لا اعرف ما ذنب هذا الرجل، ما الجريمة التي ارتكبها كي يعاقب بهذه الطريقة وينسى، هذه الحقيقة ادانة لنا لاننا لا نعرف كيف نحتفي برموزنا، وهذا ان دل على شيء فأنه يدل على مدى تخلفنا ومدى الانانية التي نمتلكها، الان لو ان اي شخص يتبوأ مركزا او ينتمي الى حزب معين تسلط عليه الاضواء، ولكن شاعرا كبيرا مثل البياتي يحتفي العالم به، تحتفي به اسبانيا، شعوب كثيرة من العالم لانه شاعر عالمي وليس عراقيا فحسب.
واضاف: من المفارقات الطريفة قبل سقوط النظام بأيام جاءت فرقة من اسبانيا وجاء وفد ثقافي، واحدى السيدات ممثلة كبيرة في اسبانيا قالت لي بالنص، وكنت مكلفا بمرافقة هذا الوفد والتنسيق معه ثقافيا: انا احمل قصائد عبد الوهاب البياتي ومترجمة الى الاسبانية، وأريد شاعرة او ممثلة عراقية تقرأ القصائد باللغة العربية وانا اقرأها بالاسبانية، وكنت في موقف محرج جدا وحاولت ان اعتذر، لكنها قالت قل لي الحقيقة، قلت لها سأقول لك الحقيقة وسأدفع الثمن: هذا الرجل غير مرغوب فيه، لان النظام السابق كان يضع عليه علامة !!، فاستغربت، فقلت لها: انه شاعر كبير ولكن اخشى ان تقدمي نصوصه، فاكتفينا بأن نقدم نصوص السياب، اذن.. الرجل محارب في حياته ومحارب في موته كما يبدو، وما يحدث نسيان متعمد وتقصير واهمال وهذا ديدن الوسط الثقافي والمؤسسات الثقافية على الرغم من ان البياتي قامة كبيرة.
فيما استغربت الشاعرة فليحة حسن هذا النسيان مشيرة الى انه تقصير واضح، فقالت: اعتقد ان تغيب مثل هكذا مناسبة عن اتحاد الادباء وعن ذهن العاملين في اتحاد الادباء والمسؤولين بشكل عام عن وزارة الثقافة، اعتقد ان هذا تقصير كبير جدا، لان عبد الوهاب البياتي واحد من اهم رواد الشعر الحر والذي كتب اسمه على خارطة الوطن العربي بشكل عام وحتى في العالم، اعتقد ان هذا الامر يأتي كون المثقف العراقي الان منشغل بالسياسة اكثر مما اصيب بانشغالاته الابداعية والثقافية، فلو كان المبدع مغيبا في منفاه وفي موته ومغيبا حتى في ذكرى هذه الوفاة، اذن من سيقوم بتذكره ؟ من سيقوم بالكتابة حول هذه المناسبة الكبيرة جدا، عبد الوهاب البياتي اشعر اننا جميعا مقصرون تجاهه لاننا لم نجد مهرجانا شعريا مهما باسم عبد الوهاب البياتي، بينما العرب يحتفون بمبدعيهم دوما سواء كانوا احياء او امواتا.
واضافت: لا اعتقد ان نغفل مثل هذه المناسبة وليس من الصحيح ان نقول إن هذه غفلة او سهوة وانما هذا امر لابد نحن كمثقفين ان نشير اليه وأن نقف ضد هكذا نسيان لان عبد الوهاب البياتي شاعر مهم جدا.

اما الشاعر حسام السراي فلم يستغرب عدم استذكار البياتي معللا ذلك بسيادة العلاقات والاخوانيات، فهو يقول: ربما ستحتفي مؤسسة او اكثر من مؤسسة خلال الايام المقبلة بالبياتي لكن السؤال الاهم: هل هناك روح حقيقية للعمل الثقافي ؟ الجواب: لا طبعا، فالعشوائية والارتجال هما السائدان في مجمل الفعاليات الثقافية، ويمكن ان نستثني بعض الفعاليات التي هي في صلب العمل الثقافي لذا يبدو ان ننسى الشاعر عبد الوهاب البياتي امرا غير مستغرب في واقع كهذا، واقع تسود فيه العلاقات والاخوانيات بحيث يغدو الشاعر كبيرا بمجرد ان لديه الكثير من العلاقات والصداقات التي يقيمها ليعلي من شأن منجزه وان كان بسيطا، وبالتالي البعيد عن الاضواء والذي لايحب ان يقدم نفسه بشكل مجاني سيكون مهملا ومنسيا، مؤسف ان يستمر هذا الارتجال والعشوائية، قبل ايام تحدثت مع صديق قلت له: لماذا ستستضيف المؤسسة الفلانية فلانا ولا تستضيف فلانا الذي هو أهم في الاطار الذي تحتفي به هذه المؤسسة ؟، قال: للاسف لم نحصل على هاتفه !!، تصور ان رقم الجوال يكون مانعا من ان تحتفي مؤسسة بمبدع اهم وتأخذ مبدعا اخر ربما اقل شأنا، هذه هي العشوائية بعينها وهذا هو سوء الادارة والتخطيط في تقديمنا للمبدعين، وبالتالي فإن عدم الاحتفاء بالشاعر البياتي هو أمر طبيعي في هذه الاجواء.
واضاف: القضية لا تتعلق من هذا الشاعر او ذاك، ولكن يبدو اننا بحاجة دائما الى من ينوه لمن ويشير ويذكرنا، فنحن ليست لدينا اجندة او تخطيط او خطة بسيطة للمنهاج الثقافي لاية مؤسسة سواء كانت رسمية او أهلية او منظمة مجتمع مدني، الموضوع حسب اعتقادي لا يتعلق بالاشخاص او الموقف من هذا الشاعر او ذاك،ـ الموضوع يتعلق بأننا نرتجل الاشياء اليوم ولا نتذكر الا حين يذكرنا الاخرون، وربما حين تنشر موضوعك هذا سيتذكر الكثيرون ويذهبون لإقامة اصبوحات متأخرة عن موعد المناسبة.
في الاخير.. كان لا بد من الذهاب الى اتحاد الادباء في العراق لمعرفة رأيه في ذلك، فتحدث لنا الاديب علي الفواز عضو الهيئة الادارية للاتحاد الذي ابتدأ حديثه بالقول: لا يمكن لاحد أن يتجاوز عبد الوهاب البياتي، وعبد الوهاب البياتي سيحظى في احتفاء سيقيمه الاتحاد العام للادباء والكتاب العراقيين وتسليط الضوء على الملامح التجديدية التي حملتها تجربة عبد الوهاب البياتي.
ثم ذهب ليتحدث عن تجربة الشاعر قائلا: فهو ظاهرة مهمة في الشعر العربي وفي الشعر العراقي وربما الملامح التجريبية التي استغرقتها تجربته تدل او تؤكد ان البياتي اسم راسخ في التجربة الشعرية وعلامة مهمة ضمن فضاء شعري عراقي وعربي واجه تحديات التجديد الشعري العربي وحمل مخاضات السؤال الشعري لتكون هذه التجديدية مفتوحة على عوامل صراعية مثلما هي تستقبل فتوحات الحداثة التجديدية، ربما البعض يقول ان البياتي ارتبط بتجربة سياسية معينة وان هذه التجربة السياسية المؤدلجة بشكل ادق هي التي خلقت من ظاهرة البياتي او هي التي اعطت للبياتي هذا الزخم الكبير مقايسة مع شعر لرواد اخرين حملوا الهم التجديدي ذاته كالسياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري، لكننا نعتقد جدا ان البياتي رغم كل ما يقال يظل علامة مهمة وان التجديدات الشعرية المبكرة للبياتي وضعته في الخارطة الشعرية كعلامة مهمة وكمحرك مهم وكعلم من اعلام التجديد الشعري واعتقد ان الكثير من الدراسات التي تعاطت مع التميزات الفنية في تجربة البياتي تؤكد خصوصية هذه التجربة ولكن كما قلت للاسف النقد العربي والنقد العراقي في كثير منعطفاته ما زال نقدا فيه هذه الشفرات الايديولوجية التي كثيرا ما تغمط حق البياتي كعلامة مهمة وكصانع من صناع التجديد الشعري.
وفي الختام قال مستدركا: اعتقد ان استذكار البياتي قبل مدة نظمت جلسة عن ظاهرة القناع في تجربة البياتي الشعرية في اتحاد الادباء كما اننا اشتركنا في ندوة تلفزيونية للحديث عن تجربة البياتي التجديدية في الشعر العراقي وربما سننظم خلال الايام المقبلة ندوة تسلط الضوء على التجديدات المهمة في تجربة الشاعر.

* * وهكذا.. مضت مناسبة الذكرى الثالثة عشرة لرحيل الشاعر عبد الوهاب البياتي غريبة، وكأنه لا يمتلك في بلده حتى الاستذكار وان كان يستحق الكثير، مع املنا ان تكون ذكرى هذا العام محطة انتظار للسنة المقبلة عسى ان يتم تعويضه فيها باستذكار يليق به !!.
ولمن لا يعرف البياتي فهو من مواليد بغداد عام 1926، تخرج بشهادة اللغة العربية وآدابها 1950 م، واشتغل مدرسا من عام 1950-1953م، مارس الصحافة عام 1954م مع مجلة الثقافة الجديدة لكنها أغلقت، وفصل عن وظيفته، واعتقل بسبب مواقفه الوطنية. فسافر إلى سورية ثم بيروت ثم القاهرة. وزار الاتحاد السوفييتي ما بين عامي 1959 و 1964 م، واشتغل أستاذاً في جامعة موسكو، ثم باحثاً علمياً في معهد شعوب آسيا، وزار معظم أقطار أوروبا الشرقية والغربية، وفي سنة 1963 م أسقطت عنه الجنسية العراقية، ورجع إلى القاهرة 1964 م وأقام فيها إلى عام 1970 م. وفي الفترة (1970-1980) أقام في إسبانيا، وهذه المدة اطلقت عليها تسميته ( المرحلة الأسبانية في شعره)، صار وكأنه أحد الأدباء الإسبان البارزين، إذ أصبح معروفا على مستوى رسمي وشعبي واسع، وترجمت دواوينه إلى الإسبانية، وبعد حرب الخليج 1991م توجه إلى الأردن واقام في عمان مدة من الزمن شارك فيها بعدد من الامسيات والمؤتمرات ثم سافر الى بغداد حيث أقام فيه 3 أشهر ثم غادرها إلى دمشق التي مات فيها ودفن حسب وصيته في ضريح الشيخ مُحيي الدين بن عربي، وذلك في 3 آب / أغسطس 1999.