كامل الشيرازي من الجزائر: تستعدّ مدينة تلمسان الجزائرية (800 كلم غرب العاصمة) بصورة حثيثة لاحتضان quot;عرسquot; الثقافة الإسلامية الـ25 المزمع العام القادم، وتأهبا للحدث، اكتست هذه التحفة الأندلسية من زمن المرابطين والزيانيين، حلة بديعة تفور بالجماليات لتفعيل الرزنامة الثقافية الإسلامية التي تعدّ بالكثير.
بعد سنتين من التحضير الشائق، باتت تلمسان مستعدة بشكل شبه تام لاحتفالية quot;عاصمة الثقافة الإسلاميةquot; المقررّ افتتاحها بعد نحو ستة أشهر من الآن، حيث تواصل اللجان المختصة استكمال وضع ترتيبات عملية لإنجاح التظاهرة وضمان راحة الوفود المشاركة والجماهير المواكبة لهذا الحدث الثقافي الثالث من حيث الأهمية في الجزائر، بعد احتضانها تظاهرتي quot;الثقافة العربية سنة 2007quot;، وquot;المهرجان الثقافي الإفريقي الثاني سنة 2009quot;.
وانسجاما مع الخطوط العريضة لدفتر الشروط الذي اعتمدته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة والخاص بتفاصيل تنظيم تظاهرة العواصم الثقافية الإسلامية، جرى في هذا الصدد، إنجاز وتهيئة ما يربو عن 113 معلما ثقافيا وأثريا وعديد مشاريع الترميم إلى غاية الشهر الجاري، بينها إنشاء مركب ثقافي ضخم، فضلا عن مكتبة كبرى بالمقاييس الحديثة بوسط المدينة، ناهيك عن إنجاز مركز للدراسات الأندلسية، وتحويل المقر السابق لبلدية تلمسان إلى متحف للفنون والتاريخ.
كما كشفت quot;خليدة توميquot; وزيرة الثقافة الجزائرية، عن توسيع المتحف الأثري القديم لمدينة تلمسان، وفتح مركز للمخطوطات مختص في الحضارة والعلوم الإسلامية، إلى جانب تهيئة وتجهيز قاعة للسينما، مع إنجاز رواقين للمعارض ومسرح للهواء الطلق، إضافة إلى بناء القصر الملكي العتيق على أنقاض الآثار المكتشفة حديثا بضاحية quot;المشورquot;، وتراهن السلطات المحلية على تأهيل كوكبة من المواقع التاريخية المصنفة على غرار قلعة quot;المنصورةquot; وحي quot;العبادquot; ومنطقتي quot;هنينquot; وquot;ندرومةquot;.
في الشق المتعلق ببرنامج التظاهرة، سيشتمل الأخير على احتضان أسابيع ثقافية متتالية لمختلف المدائن الجزائرية، بغرض إبراز مكونات الثقافة المحلية، كما ستشكّل تلمسان قبلة لثقافات وحضارات دول إسلامية من خلال أيام ومنتديات ومهرجانات.
ويُرتقب بحسب المنظمين، أن يتمّ نشر ما لا يقل عن ألف عنوان في إطار التظاهرة وتنظيم ثماني مهرجانات ثقافية كبرى على غرار مهرجان السماع الصوفي، الإنشاد، سينما الدول الإسلامية وغيرها، في حين سيتم إنجاز 12 فيلما وثائقيا حول شخصيات تاريخية في الجزائر والعالم الإسلامي، وإسهامات الجزائر عامة وتلمسان خاصة في الإشعاع الثقافي الإسلامي.
ولن تتوقف فصول البرنامج عند هذا الحد، إذ يعتزم عرّابو الاحتفالية إنجاز فيلما طويل حول الأديب الجزائري الراحل quot;محمد ديبquot; وثلاثيته الشهيرة quot;الحريق ndash; دار سبيطارquot;، بالإضافة إلى تنظيم 12 ملتقى دولي لها صلة بالثقافة والحضارة الإسلامية، وثلة من المعارض الكبرى حول العصر الذهبي للعلوم في الدول الإسلامية، تسجيل وتدوين التراث الثقافي غير المادي، وعروض موسيقية مصحوبة بقوافل فنية متنقلة لفنانين جزائريين وعالميين، وعقد مؤتمر وزراء الثقافة للدول الإسلامية.
وترى quot;خليدة توميquot; وزيرة الثقافة الجزائرية، أنّ تنظيم تظاهرة quot;تلمسان عاصمة للثقافة الإسلاميةquot; سنة 2011، هي مناسبة إضافية لاسترجاع بلادها مكانتها الثقافية جهويا وعالميا، والتأكيد مجددا على الأبعاد الثقافية التي تنتمي إليها.
وتريد الجزائر من خلال تنظيم هذه التظاهرة الكبرى، رفع التحدي والتسويق لما تحتوي عليه مدينة تلمسان، حيث أنّ الأخيرة تستقطب ما يربو عن 75 بالمائة من التراث الإسلامي الموجود بالجزائر، وهو إرث يُضاف إلى ذلك الذي تمتلكه الحواضر الجزائرية الأخرى كقسنطينة وبجاية وتيارت والجزائر العاصمة.
يُشار إلى أنّ تلمسان تمتاز بملامحها الساحلية الجميلة، في صورة عشرات المعالم التي تحتويها من قلعة المنصورة، إلى مغارة بني عاد مرورا بقصر سيدي بومدين وغيرهما من المعالم الأثرية النفيسة، وتبعا لجمال وعراقة هذه المنطقة، تغنى بها الشعراء الكبار، ومجدها المؤرخون، واشتهرت كعاصمة للدولة الزيانية، مثلما انفردت بكونها إحدى أكبر مفاخر المرابطين في المغرب الأوسط، وتتمتع تلمسان بعراقة لافتة في صورة احتضانها لعديد المرافق الأثرية، واحتضانها لزهاء 60 مسجدا، بينهم المسجد الجامع الذي بناه المرابطون قبل 855 سنة خلت، على يد quot;علي بن يوسف بن تاشفينquot;(1106ه/1142 م).
وتذكر مصادر تاريخية، إنّ أصل تسمية تلمسان يعود إلى قبيلة جزائرية كانت تحمل الاسم ذاته، وكانت في أوج عزها أثناء قيام دولة الأدارسة في المغرب العربي وكانت لها هيبتها إلا أنها تراجعت بعد حروب عديدة، بيد أنّ quot;أبا الحسن المرينيquot; أعاد بناء تلمسان، عندما أراد الاستحواذ على المدينة عام 1337هجرية، وشهدت على مدار تاريخها الحافل تعاقب عوائل كاملة من العلماء الكبار على الإمامة وإلقاء الدروس على غرار: عائلة المرازقة، عائلة العقبانيين، ابنا الإمام، ابن زاغو، ابن العباس، السنوسي، ابن زكري، المغيلي، المازوني، الونشريسي، الحوضي، التنسي، وغيرهم.
وقد استمد سكان المدينة من هذه الخاصية التلقينية والدعوية الاستثنائية التي انفرد بها المسجد الجامع، قوة جعلتهم يقفون بضراوة أمام موجة التغريب والمسخ ومحاولات مسح الشخصية المسلمة واللغة العربية أيام الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830 م/1962 م).
ويذكر الباحثان أبو عبيد البكري وجورج مارسيه، أنّ تلمسان بتلالها وبساتينها المثمرة الممتدّة، ظلت زاخرة بمدارس كبرى منذ القرن قبل الماضي، كما كانت حافلة بمجالس مختلف العلوم، وكانت تدرس فيها أمهات الكتب والدواوين، بدءا من القرآن والحديث وعلومهما، إلى العقائد وأصول الدين، والفقه وأصوله، واللغة وعلومها، والتصوف، والمنطق، والفلسفة، والطب، والهندسة، والفلك وعلوم الزراعة، ما جعلها تضاهي مدن فاس والقيروان والقاهرة.
والزائر لتلمسان كما المقيم فيها يلفت نظره دونما شك، معالمها الإسلامية المتشامخة التي تحيط بالمدينة من الغرب، وتطلّ على خلفه، وهذه ليست كلَّ شيء في معالم المدينة التي لا تزال تنتظر أن تأخذ نصيبها الذي يستحق من البحث والدراسة والاهتمام، طالما أنّ كثيرا من جوانب تلمسان تبقى تسيل لعاب المولوعين.
وخلف أسوارها وأبراجها وكهوفها، تظلّ آثار باطنية كثيرة مخبوءة في تلمسان، وتنتظر رياح التنقيبات الأثرية، ما قد يميط اللثام عن عديد الكنوز المجهولة، علما إنّ مؤرخين مشاهير من قامة عبد الرحمن بن خلدون وابن أبي زرع، أبدوا انبهارهم بحاضرة تلمسان التي كانت في وقت ما لؤلؤة المنطقة المغاربية، ويريد أبناؤها اليوم استعادة إحياء ماضيها الذهبي.