جورية أولاً لفتح شهيتي. لَفَتتُ، في الماضي والبلاد النائيةِ، مليون سيجارة محشوةِ حتى الإختناق بالصمت؛ في الحجرةِ التي أقطنها تحت السلّم تخلت عني النافذة، أو أنا منْ حطم قضبانها الحديدية، الضيقةِ. غير أن أذني التي لم تفقد طبلتها بعد تُرهَفْ سمعها للرياح العابثة بوقار القارات القديمة. أجلسُ على كرسي مضعضعٍ كانت جارتي المحبة للسلام قد التقطته لأجلي من نفايات المصانع. أجلس لا لكي أصف أرجل الاخطبوط وما أنجب من ذرية مُحسنة تحت أشعة الليزر فوق البنفسجية؛ تلك ليست شيمتي، ولكن لكي أشهر بطاقتي الشخصية لحراس الرقابة. ضاحكٌ في عبي تارة، وفي عبهم تارة أخرى، طقوس أو بروتكول الكتابة الشعرية.

أخوتي البحارة أظنُ أن عيونكم، الخالية من القذى، لا تخطأ أبداً في معرفة البوصلة التي تمسكُ يدي الراعشة على معدنها، قراءة خطوط توجهها في المحيطات العاتية. لا شيء يدفعني للإبحار سوى المدفون في قلبي من حب لطلعاتكم البهية، تحت أقواس السماء الملونة أو في عنق الزجاجة.

قبل أن يدق الجرس ونلتم من البرد كاللصوص الملائيكة، أخبرتكم بما يجول اليوم داخل أمعائي من طعام وشهية، ما يوتر أعصابي ويجعل منها تختاً يعزف عليه العازف: لن يتحدث أيّ منا عن أسماك القرش، الحيتان الراقدة، جيل بعد آخر، تحت شجيرات النبق في البحر الميت.

أنا أقترحُ، أو أحضر الخامة وأنتم تفصلون. سنتحدث عن البراري، التلال، مدن الصفيح إذا ما طاوعتكم القلوب، عن صحارى وطننا الشاسع وأصنامه الجائعة. لا عن البحار وما يجوب سواحلها من قراصنة. أقتراح كالماء الرقراق، يقبل المداولة، السجال، الاحتجاج، الضوضاء، المشجارة؛ لدينا ساعات لا تدق عقاربها ولا تنتهي الفاظها الجليلة، لنا كل الأزمنة، لكن حين يقترب الرغيف الساخن وعطره المحببِ من الفم ووردة الشم، لن نقبل، ضمن قواعد اللعبة، بمنْ يضع الكبريت والسم في اطباقنا النظيفة. قرار.

كيف يمكن للأصنام أن تكون جائعة؟ هنا، يا أخوتي ثانية، ينام ويشخرُ أول الطلاسم. لتفحصوه عن قرب، تحت شعاع المجهر أو بدونه.

نحن لا نجيد فك الطلاسم. لا نعرف الضرب بالرمل، لا قراءة خطوط اليد، لا شمرة الغجر البارعين للودعِ ولا حتى فنجان القهوة المقلوب على وجهه في المقاهي العصرية. لا ندرك، كأسلافنا، شيئاً عن التأويل.

لدينا النهار المطروح كالجثة في العالم. عوننا الأكبر. آملين، إذا ما شرعنا بنزع خرق المومياء، الواحدة تلو الأخرى، أو أقنعة الأصنام الجائعة، أن لا يأخذنا أحد بجريرة أفكاره، ثم يلصق بنا عيوباً يستعيرها من قبيلته، حتى وإن أغضبنا الأرض وما يدور في صومعتها من ذرات كواكب.

حالتنا، لكي تكون دقة الدف صحيحة وتضبط الإيقاع، تتماثل مع حالة المرأة العاقر-الحامل.

مهدٌ الأصنام، كما يعرف عالم الآثار وتشاركه جارتي نفس المعرفة، هو شبه الجزيرة العربية. ما كان لدى الإغريق الأوائل وساكني أورالعزيزة، ما بين الرافدين، لم يكن أصناماً، لا جائعة ولا مُجَوعةٌ. كانت تماثيل لا تفقه بفن المطبخِ، أو علمه الذي ولدَ وما زال مع الفقه والبلاغة. طلسم آخر، قد يفوق بوقاحته الأول.

حذارٌ: من البدء، قبل شم الجورية فاتحة الشهية، لم نخف أوارقنا تحت طاولة خبيثة، مربعة أو مستديرة، كما يخفي لاعبو القمار أوراقهم السياسية الخاسرة. من البدء، حذرنا من مشقة العمل وتعقيده. يشهد على ما نقول الاشرعة، البحارة، فقدان النافذة، ولهجة مخاطبة منْ لا نعرفهم بالأخوة. لا تُسلَمُ الأصنام الجائعة مفاتيح لغزها لكل عابر سبيل، على الأقل في الظاهر. بعنادنا، بقلوبنا الخافقة، برؤوسنا المتخمة، ننوي نزع الإلغام، دون تأويلها. لتدخلوا معنا، بلا رجاء، في المشهد الساحر لشبه الجزيرة العربية وأصنامها الجائعة؛ لا تخشوا شيئاً، لكن تحصنوا ببتسامات العشاق الجرئية.

اللاه والعزتي وغيرها من اللحى المُذهبة كانت ذريعة الأقوام، زعماء القبائل، البدو الراسخين كجذور الأشجار الضخمة في تربتها؛ ليس هناك من بدو رحل يبحثون عن الماء والكلأ، خرافة تليق بأخرق لم يسمع يوماً غناء البادية؛ هنا تمر ذاكرتي بالشعر عرضاً، ذريعتهم، هم، حتى يأكلوا بعد سهارات ماجنة التمر الذهبي اللاهث والحليب الفائر، كحليب الأمهات وحلمات نهودهن النافرة.

اللاه والعزتي وغيرها من اللحى المُذهبة لم تكن تعرف، هي، الجوع ولا تقر قوانيه البائرة. من قبل أحمدٍ، كانوا أسلافنا،، هم، منْ يزدرد ويلتذُ بلحومها الطريةِ، بطينها الحر والباذخ كرمز لشهوتهم الجنسية.

اللاه والعزتي وغيرها من اللحى المُذهبة كانت تبارك لعبة الأكل المزدوجة: الأكل العادي، عند الغروب للتمر والحليب الفائر بطبعه، كما الأكل الخارق للشهوة الجنسية.

التماثيل العظيمةِ تلك، هي، بنفسها من وضعَ قواعد اللعبة. رأفة باولادها الضعفاء، أو لأنها لا يمكن أن تكون إلا سخية.

للتو، يا أخوتي، غيرنا ومحينا عن جدارة، بلا هوس، صفحة بملايين الأوراق المختومةِ بالشمع الأحمر من تواريخ أسلافنا الباهية. تلك التفاتتنا الباكرة. لا تغفلوا كل ساعة عن حقل الحراثة أمامنا. فأنا لا أملك بوقاً أنفخ فيه، من على هذه المسافة، عند أوتاد خيامكم الوبرية.

سيكون أنشادنا، أيها البحارة، أخوتي لا في الولادة ولا في الرضاعة، من الآن فصاعداً عن متى ولدت، إذاَ، إذا ما تحملنا إذاَ المنطفية وإذا الشرطية، الأصنام الجائعة؟

ربما، أقول ربما، حين كانت القصائد في الجاهلية تُسمعنا هذيانها المُقدسْ في سوق عكاظ، أو تُعلق كالؤلؤ الملائكي، النادر حتى تزين الحجر الأسود وتجلب القبائل من أطراف المعمورة، كانت التماثيل الوديعة تكتفي بالمراقبة البريئة، في زاوية مظلمة من جوانب المعبد. أو المحراب. لم يكن المسجد بعد قد خط وبنى باحته المفتوحة والواسعة.

لتجهدوا، بحجم ملمتر، فطنتكم: تماثيل الجاهلية لم تكن أصناماً، بل زينة في البيوت، كما هي اليوم في المتاحف الراقية، أو ما يمسك المرآة بقوة لكي لا تنام الذاكرة، تنزلق أقدام التاريخ في حفرة التيه القاسية.

منْ حطم التماثيل المرئية، لذة البصر، أيقونة الحجر الأسود، وما تشتهيه النسوة من قامتها السحرية، ثم اقام بمكانها الجليل، دون درايته ربما، أصنام لا مرئية وجائعة، هو من يتحمل الخطيئة. لا تظنوا، يا أحبتي البحارة، أننا نطلق القول على عواهنه، حتى يسقط رجل واحد تحت معاولنا الجنونية، الشعرية. لا نوجه أصبع الأتهام نحوه.

في ساعة قلق لا توصف، آثرنا عشق السرد، الصعود باتجاه المنبع الذي غسلتنا في مياهه أمنا الأولى، اللغة المحكية، لكي يرى من رافقنا الرحلة والعابر كيف شفطت الأصنام الجائعة مياه ذلك المنبع الجوفية، الثرية. لا تكتفي تلك الاصنام، كما تعلمنا الشمس، بالجوع وحده، بيد أنها، بنزوة قد يقول عنها غيري نذلةً، تضيف إليه العطش. لإرباك الصورة قد. كل صنم جائع، للحومنا ربما، عطش، في ذات الوليمة، أكرر القول، لدمائنا الساخنة. جوع وعطش الأصنام اللامرئية، تلك هي مرآتنا، أو شظاياها المعتمة، منْ يخولنا فتح الصفحة، أوراقها
المليارية، وشمعها المختوم بالأحمر، عسى ولعل أحفادنا يقومون بالخطوة القادمة، لا لكي يُساءلوا الأصنام عن جوعها وعطشها، فهي كانت منذ الزمن السحيق وحتى الأبدية حريصة
على الجوع والعطش، رأس مالها وبورصتها الناعمة، الضاجة، ولكن لكي يأخذوا بجرأة أكبر من شهيتي الخطوة القادمة نحو النهار، عوننا الأكبر كما أسلفنا في القصيدة السابقة، ويفتحوا النافذة الغائبة، أو يحطموا مثلي، دون أن أعطي مشورة لأي منهم، قضبانها الحديدية، الضيقة.