عبد الله كرمون من باريس: هل الحديث الذي سوف أسوقه فيما يلي عن الترجمة الفرنسية لرواية الكاتبة الايسلاندية أودير أفا أولافسدوتير، والتي نشرتها دار زيلما الباريسية قبل أيام، صادر عن انطباعية ذاتية فحسب؟ وهل اختياري لها بالذات، ضاربا صفحا عن مئات الروايات الصادرة حاليا بفرنسا، مجرد اتفاق متأت هو أيضا من طينة الانطباع نفسه والذي وضعته موضع الاستفهام؟ وهل الكتابة في عالم الأدب تظل كتابة في الأدب وعنه متى غادرت مرابع الذات؟
تلكم أسئلة استنكارية جعلتها مفتتحا قلقا يساعدنا على تصفح هذه الرواية الآتية من الأصقاع الباردة. فإن كانت القصة وحبكتها ليستا ما يهمني في الرواية، بالرغم من غرابتها، فإنني سوف أحاول الحديث عن تلك العناصر التي جذبتني إلى قراءة هذا النص، مع العلم بأنه مثقل بالهنات، كما تراكبت بينه وبين الكمال، دون أن يضيره ذلك كثيرا، أميال وأميال.
يحمل النص اسم وردة، أو بالأحرى هو بالتحديد quot;وردة ذات ثماني بتلاتquot; أي وردة نادرة. ثم أنه يتنكر تماما للبناء الكلاسيكي لما يسمى بالفن الروائي. ما يعني بكل بساطة انحيازه إلى الحرية التي تشكل أول شروط الإبداع الحق. يبدو من هنا أننا لم نتحدث بعد عما يسمى بالمحتوى أو المضمون، لأن مضمون هذه الرواية مجبول هو أيضا من لدائن الحرية؛ أي ما ليس رصينا أو رزينا للغاية بمعنى ما؛ إذ يجانب تلك الرايات التي أراد لها نوع من النقد أن يلطخها كلُّ أديب بدماء.
فَكرت بأن هذه الرواية تنضوي بشكل غريب تحت يافطة ما قد نطلق عليه روايات الشخوص، إذا ما سايرنا القراءات المدرسية للروايات. ولَكَمْ أدهشني أن أتفق، ولو لمرة، مع ذلك النوع من المقاربات، في فكرة السعي إلى فهم النص انطلاقا من تناول شخوصه، لكن ليس، خلاف ذلك، في التأويل أو في طبيعة التناول اللتين لا أسعى إلى حذو حذوهم في شأنهما.
فإذا كانت الشخصية المركزية التي تضطلع كذلك بمهمة السرد مبهمة؛ بمعنى أنها ملتقى تقاطع البله الذي لا تفسير له والذكاء الخارق الذي يمضي عميقا في سبر الأشياء، فإن الشخوص الآخرين لا يمكننا نسيانهم، ولا إهمال أي واحد منهم. هل فقط لأنهم خارجون من قوة إزميل باريهم الغريب ذاك، أم لأنهم فوق ذلك محاطون بنعمة وصفه الجوفي لهم، أو على أقصى تقدير، قوله عن الصورة التي يريدنا أن نراهم عليها. بله تفجيره، عبرهم، لقلقه المعرفي الذي لا يقر له قرار. إنهم يؤسسون لشروط وجوده، ولشرط وجود قلقه المؤسس.
هل يكفي القول للإحاطة بفضاء نصنا بأن أرنولجوتير هذا الشاب الذي لم يتجاوز العشرين بعد إلا بقليل، غير أنه، وبالرغم من يفاعته، قد صار، بمحض الصدفة، أبا. في الوقت الذي فقد فيه أمه الحبيبة، واتفق أن يكون محبا مهووسا للنباتات، ودارسا لها، ومسافرا إلى بلد بعيد للعناية بحديقة دير قديمة ومهملة كانتصار آخر لها.
ليس هذا هو ما يهمني في الرواية، وإن كان يلخص أهم العناصر التي تدور حولها، سواء تعلق الأمر بموت الأم، وهو موت فجائي، مثقل بالفجيعة والمباغتة اللتين تمنحان له وجها رهيبا. أي أن غيابها يتحول إلى حضور مفلسف يمتزج فيه التذكر بالألم. وكذا تلك الأبوة المرغمة، أو خيط النسل الذي يلاحقه، ثم غرابة أحوال الذرية وما يحيط بها.
إذا كنا نستطيع أن نتتبع الشخوص وبياناتهم في الرواية كمفتاح ممكن لقراءتها وفهمها، فإن الأهم لدي، على ما قد يكمن في إتيان ما أسلف من متعة، هو تلك التأملات التي يصوغها البطل في علاقاته مع هؤلاء الشخوص جميعهم، وذلك كلما همّ السرد بواحد منهم.
وصفتُ الساردَ مسبقا بشيء يشبه البله أو التأخر الذهني في أخذنا، مقارنة، بما نريده بquot;العقلquot; في مفهوم فلسفي ضيق، أو بطيبة تفوق الحد، ما يجعلها تؤخذ على أنها بلادة أو سوء ترتيب. لكن طبعه لا يعدو أن يكون حقا سوى لامبالاة بكل صرامة منطقية أو مجرد عبثية ذكية، وكل ذلك بتلقائية لا تحسب أدنى حسبان لما نحن الآن بصدد التكهن بكونه هو الصواب.
إن لحداثة سنه دورا كبيرا في كونه ما يزال غرا. ثم إن تدافع المجريات والأحداث ووقوعها عليه لم يتح له ما من مرة أن يستجمع أفكاره كي يتأملها ليكون له الوضوح الذي ليس يحوزه بتاتا من اختلط عليه الحابل بالنابل.
لا أريد أن أستحضر تصميم الرواية بأحداثها ومنحنيات هذه الأخيرة، لكنني أشير فقط إلى أن مركزية الأم جوهري فيها، بالرغم من غيابها، أو بسببه: ألم تكن هي الروح المرفرفة حول كل ما هو نبات وطبخ؟ أساس كل نمو واقتيات!
غير أنه إن غابت الأم فإن أُمًّا أخرى قد حلت محلها، وهي في واقع الأمر تلك التي ستمنح امتدادا من دم لسلالة الراحلة، أي البنت التي حبلت من بطلنا لدن لقاء عابر داخل مستنبت الأم الموعود بنباتات وورود نادرة. ثم بالطفلة الوديعة التي خرجت بالتالي من صلبهما.
نعود إلى أمر آخر لا يخلو من أهمية، ألا وهو كون الرواية قد كتبتها امرأة. ثم أنها جعلت شخصيتها المركزية أو ساردها متكلما مذكرا. وجعلت بذلك من يستكنه مجاهل الأنوثة المخفية رجلا. إنه أمر مسل حقا. بل انه لا يخلو من مهارات. ذلك أن الكاتبة تعير صوتا ذكوريا لشخصية نصها، ليست تعبر بالضرورة عن مجموع أفكارها حول المرأة. إذ الرجل هنا هو الذي يتجشم مشاق فهمه للمرأة. أولم تبطن بذلك الهواجس المفترضة لدى الرجل بهذا الشكل؟ أم ألم تستبق مخاوفه مستعينة بتجارب حية؟ أو ألم تضع نفسها مكان امرأة النص، أو نسائه القليلات في مواجهة تلقي الرجل أو الرجال لخصوصية أسئلة هشاشتهن؟
واضح إذن أن النص منشغل بتعقب حياة وردةٍ بكل المعاني، ويتفتق من خلال مساره، على طوله، وعي البطل الساعي إلى فهم بعض القيم المستعصية، منها: الحب، الزواج، الموت، ثم علاقته بجسده، بل بالجسد عموما، بما فيه جسد الآخرين. كما ترصعه ملاحظات لا يستهان بفنيتها حول عالم النبات الجميل. وتعكس فصوله القصيرة والمرقمة انسيابية مطاردة معنى فريدٍ، ما يشكل هشاشة الرواية ورقتها في آن. ودون أن يمسك بهذا المعنى وتكتمل شروط علمه بما أشكل عليه، تتألق شكوكه وتساؤلاته في عبارات مدهشة.
تعمدت ألا أفشي الكثير حول علاقة بطلنا البستاني الفتي المولع بالخضرة ونماء الحدائق، سواء بأبيه، أو بشقيقه التوأم الأبكم، أو بالأب توما المولع بالسينما والمشروبات الروحية، ثم بما دار بينه وبين تلك البنت التي تدرس التمثيل والتي أقلّها بسيارته لتلتحق بمدرستها، ناهيكم عن علاقته المعقدة بأم ابنته. لأن أهم ما في الرواية يكمن أساسا في هذه المفاصل كلها، وفي ما يرشح من محكها من شذرات جميلة. وتكون الرواية بهذا المعنى قد حققت الشيق فيها في هذه الأركان البسيطة التي شيدتها تفاصيل عميقة على هامش قصة لا تستمد قوتها سوى من غرابتها ومن الصارخ الإشكالي في تلافيف العادي واليومي فيها.
إنها رواية مصنوعة من مزيج من الفقدان الممض، لذة الطعام وإعداده، ميتافيزيقا النبات، وغير ذلك من الأسئلة الحرجة التي لا تكفي رواية بل ولا حياة واحدة لفك شفراتها كلها.

[email protected]