رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة الثامنة والعشرون: نائب الوالي يخطب انجيليكا

عرف بانايوتي فيما بعد ان هناك مهلة مقدارها شهر واحد قبل البدء في تنفيذ التنقلات، فرأى ان يختار يوما يذهب فيه لتوديع البريجادير هيوز، وتقديم واجب الشكر له، لما ابداه من مساعدة في حمايته من حماقات السردوك، ويسعي ايضا الى الحصول على مزيد الطمانينة منه، بان السردوك لن ينتهز فرصة ما تبقى له من ايام في المنصب، في القيام بعمل بائس يائس ضده، وفعلا وجد نائب الوالي يرحب به ويسأله كما حصل في الزيارة الماضية، ان يبقى معه للغذاء في البيت، لانه يريد هذه المرة ان يتوسع في الحديث معه حول بعض الامور المهمة، وانه كان عازما على الذهاب اليه في الوكالة وهاهو ياتي اليه وكأن هناك تواصلا روحيا بينهما، وفي صالون البيت، ومع كأس الويسكي الذي استضافه عليه، حكى له كيف انتهز فرصة اللقاء مع الوالي بلاكلي في طرابلس، واخذ منه موعدا خاصا خارج اطار اللقاء الجماعي، وفي هذا اللقاء الخاص فاتحه في موضوع الرائد السردوك، وكثرة الشكاوى التي يتلقاها من المواطنين بسبب استهتاره بالقانون وسوء معاملته للناس، واقترح عليه نقله الى مقاطعة اخرى بمسئوليات اقل من مسئولية مدير الامن، وقد استجاب الوالي لطلبه، الا انه استأذنه في البقاء في طرابلس ليوم او يومين، لان هناك امرا يريد ان يستشيره فيه، وفاتحه فيما بعد، بان هناك ضابطا منقولا من برقة للعمل في طرابلس، ويقوم بتحضير بحث للجهات الاستخباراتية عن بنية القبيلة الليبية، ويرى وبعد ان درس هذه البنية في برقة، ان يدرسها في منطقة القبائل بولاية طرابلس وهي منطقة القبلة، مع الاستفادة منه في ذات الوقت في عمل تنفيذي هو نائب الوالى هناك، ولكنه لا يريد ان يفرض الامر فرضا، بل يترك لاختياره امر الانتقال من ذلك الموقع الى منصب مساعد الوالي في طرابلس، وسياتي هذا التعيين ضمن حركة تنقلات تشمل عددا من المقاطعات، فلم يشأ الاعتراض على هذا العرض، الا انه طلب مهلة للتفكير في المنصب الجديد لان هناك بدائل اخرى معروضة عليه في القطاع الخاص، وربما يجد في احداها حافزا للقبول، لانها تتيح له الاستمرار في البقاء في هذه المنطقة بعد انتهاء فترة الانتداب البريطاني للبلاد، وقد اعطاه الوالي هذه المهلة، ويتوقف الامر كما افصح لبانايوتي على رأيه هو في الموضوع، وظهرت علامات الدهشة على وجه ضيفه اليوناني، لانه كما قال لمضيفه لا يستطيع ان يتصور اية مهمة يمكن ان يتوقف قبول البريجادير هيوز لها على رايه فيها. الا ان نائب الوالي بعد ان اعد لنفسه كأسا جديدا من الويسكي، وارتشف جرعات منه، استأنف الحديث شارحا ما يقصده بذلك القول، وهو ان هناك افاقا واسعة في هذه المنطقة للعمل الحر، وهناك شركة في بريطانيا تتاجر بالفراء، عرفت ثراء هذه المنطقة من ليبيا بالثعالب، وطلبت منه باعتباره حاكم الجزء الصحراوي من ولاية طرابلس، واكثر ابناء قومه خبرة باهلها ولغتها، ان ينشيء لها محطة تكون مهمتها صيد الثعالب التي تتولى هذه الشركة الاستفادة بجلودها في صناعة الفراء، وهي تريد الاعتماد عليه في اختيار من يقود هذه المحطة، الا انه يريد ان يتفرغ بنفسه لادارة هذه المحطة، بسبب ما تتيحه من دخل كبير، وايضا لانها سوف تشبع هوايته للصيد، اما الهدف الثالث والاهم فهي انها تحقق له رغبة الاستمرار في الاقامة والعمل في هذه البلاد وهذه المنطقة بالذات، متجولا كما يحب ويشتهي في هذه الفضاءات اللامتناهية، مستمتعا بشتائها الجميل، البعيد عن شراسة الشتاء في الجزر البريطانية، ويعتزم ان يتخذ من مقر وكالة بانايوتي، مقرا لمحطة صيد الثعالب، طلبا للمؤانسة وما يتوفر من بيئة صالحة للعمل والحياة في جنائن العرعار، وسيبني لنفسه بيتا كما سيبني مرافق للمشروع الجديد، وياتي هنا الى النقطة التي يستفسر السيد بانايوتي عن معناها، وهي الاستشارة التي يتوقف عليها قبوله لهذا العرض، وهذه الاستشارة تتلخص في اسم ابنته انجيليكا، فاذا ضمن لنفسه الحصول على زوجة من اهل دينه، تكون اما لاولاده، متآلفة مثل انجيليكا مع الحياة في البيئة البدوية، مستعدة للا ستمرار في البقاء والحياة بجوار امها وابيها، شريكة له في ادارة المحطة المعنية بصيد الثعالب والمتاجرة في فروها، فسيكون اسعد انسان في العالم بقبول العرض المقدم اليه، وان لم يضمن وجود هذه الزوجة، فسيرفض العرض، مواصلا عمله الحكومي في المنصب الجديد الذي عرضه عليه الوالي كمساعد له.
ودون تردد مد بانايوتي يده الى البريجاير هيوز، يعاهده بالوقوف الى جانبه في انجاح مشروعه وتحقيق هدفه في الزواج من ابنته، ويبلغه موافقته على هذا الزواج دون تحفظ، ودون شروط، واعتباره شرفا له ولابنته واسرته، طالما اختار الاقامة والعمل بجواره في هذه المناطق الصحراوية، الا ان هذه الموافقة من طرفه، لا تلزم احدا غيره، ولا تعني انه سيرغم ابنته على القبول به زوجا دون رغبتها، فانجيليكا هي صاحبة الحق الاول في الرفض والقبول، ويعاهده انه سيدعم لديها طلبه ويشجعها على قبوله.
نهض البريجادير هيوز واقفا، فوقف بانايوتي مجاراة له، وبتأثر تقدم يعانق بانايوتي عناقا حارا، معبرا عن عمق امتنانه وشكره لانه بهذه الموافقة يكون قد اقترب من تحقيق امنبة العمر بالزواج من امرأة تكمل له شرطا من شروط الاستقرار والهناء، ويرجوه ان يتكتم على هذه الخطبة، حتي ينتهي الشهر الذي تبدا فيه عمليات الاستلام والتسلم بين القيادات القديمة والجديدة، لانه لا يريد استفزاز السردوك في ايامه الاخيرة، رغم علمه انه لم يعد يشكل تهديدا ولا خطرا، ولم تعد له الا صلاحيات شكلية، حتى وان بقى منها شيء حقيقي، فهو مازال والى آخر يوم يقضيه في هذا العمل رئيسه الذي يستطيع ابطال كلمته وايقافه عند حده،
اما بعد ان ينتهي الشهر، فلتقم عندئد الافراح في كل اركان البادية، ويسمع بالخبر القاصي والداني واهل الارض والسماء، وسيقوم باعلان الخطبة في حفل كبير، متزامنا مع المباشرة في بناء البيت الذي سيكون عش الزوجية لهما في جنائن العرعار.

لا احد يدري كيف عرف السردوك بامر ما اسره البريجادير هيوز اثناء وجبة الغذاء في بيته للسيد بانايوتي، عن رغبته في الزواج بابنته، لانه جاء الى مقر العمل غاضبا، واقتحم مكتب رئيسه بوجه يحتقن بالدماء السوداء، مستفسرا عن حقيقة ما يقال من انه تقدم لخطبة ابنة بانايوتي. لم يكن هيوز مستعدا لمثل هذه المباغتة من زميله في العمل، وقد ظهرت على وجهه علامات الاندهاش مما سمع، لا لان ما تناهى الى سمعه كان غريبا، ولكن ما رآه حقا غريبا هو كيف وصل الخبر، ومن أي مصدر، الى اسماع آخر رجل يريده ان يصل اليه، ولكنه الان في مواجهة ما حدث وعليه ان يتصرف، وكسبا للوقت سأل السردوك عن مصدر معلوماته حول هذا الخبر، فقد فكر ان السردوك يقول له ذلك على سبيل الظن والتخمين، اكثر منه على سبيل العلم واليقين، الا ان السردوك لم يترك لنائب الوالي فرصة ان يتفادى الاجابة، قائلا انه لن يعطي اهمية لاي مصدر يأتيه بمثل هذا الخبر، غير صاحب الخبر نفسه، ولذلك جاء لكي يتأكد منه شخصيا هل فعل ذلك ام لم يفعل، واراد هيوز ان يكون ديبلوماسيا، فقال بان ماحدث لم يكن خطبة صريحة، وانما مجرد كلمة وردت على لسانه عندما جاء ذكر الحياة التي يحياها دون عائلة في هذه البلاد، فقال لبانايوتي انه لو وجد ان هناك ظروفا تحتم عليه البقاء في هذه البلاد، واراد ان يبحث عن امرأة يبني بها، لما فكر الا في امرأة تكون على دينه، وتنتمي لجزء من العالم الغربي الذي ينتمي اليه، مثل ابنته انجيليكا. وجاء الدور على هيوز يسأل هذه المرة السردوك ان كان مثل هذا الموضوع يستفزه او يجد فيه ما يخالف الذوق والاخلاق والناموس، فاجابه السردوك بصوت يتهدج انفعالا، ووجه ما زالت تغطيه سحب الغضب، انه لا يريد ان تكون هذه المرأة سببا في أي عراك ينشب بينهما، واذا كان نائب الوالي ما زال يريد نصيبه من الصفقة، فهو لن يتخلى عن ذلك الاتفاق الذي ابرمه معه، وسيكون راضيا ان يفي بالتزامه نحوه، بعد ان قضى وطره منها لمدة عام واحد، وانه لن يقبل الهزيمة في هذا الموضوع ابدا، مدركا ان لكل شيئا ثمنه، وان رفض ابنة بانايوتي له، ومن خلفها والدها، ليس الا من اجل تقوية الثمن، وسيعرف كيف يصل بالثمن الى الحد الذي يرضيهما، وتدخل البريجادير هيوز لتنبيه زميله بما حدث من تطورات لم يعد ممكنا اهمالها، اثناء النظر والتفكير في هذا الموضوع، اولها حقيقة ان رفض انجيليكا للزواج منه ليست مسألة مهر بعد ان قدم مهرا يعجز عن تقديمه أي رجل آخر في هذا الجزء من العالم، ثم انهما الان وقد صدر قرار نقلهما لم يعد لهما قوة يضغطان لضمان الاستجابة لاي طلب منهما لدى عائلة بانايوتي او اية عائلة اخرى في منطقة نفوذهما سابقا، وانه شخصيا لو تقدم لطلب يد انجيليكا ورفضت طلبه، فلا وسيلة لديه يمارس بها أي نوع من الضغط عليها، ولا مجال الا ان ياتي هذا القبول سواء له او للسردوك، الا بالرضا والقبول، وبناء على كل ما طرأ من مستجدات فان رفض انجيلكا له، يعني ان الاتفاق بينهما قد سقط، وكلاهما حر في ان يسعى لتحقيق هدفه بالاسلوب التي يراه.
نهض السردوك واقفا، وقال تعليقا على ما سمعه من صاحبه، بصوت يلونه الانفعال:
ــ اذن فانت تريدها مباراة حرة للفوز بها، اليس كذلك؟ لا مانع عندي اطلاقا سيادة البريجادير، وعلى بركة الله نبدأ المباراة.
خرج مغضبا، وانتبه الى ان السردوك لاول مرة يتصرف امامه بهذه الطريقة، ويكلمه باسلوب يحمل معنى من معاني التحدي، ويخرج دون ان يقدم له التحية العسكرية، وتوقع ان تكون غضبته هذه بداية المتاعب. لقد صدر قرار انتقاله الى نقطة ابو نجيم، ضابط نقطة هناك، وليس مديرا لامن المقاطعة، كما هو منصبه الحالي، ولاشك انه تكهن بان نقله الى هذه المنطقة المتاخمة للحدود مع برقة، وضآلة الموقع المنقول اليه، ليس بالمسألة البعيدة عن تخطيط رئيسه في العمل، ولعل حقيقة ان النقل يشمله بمثل ما جاء يشمل رئيسه قد خففت قليلا من غلواء الغضب ضده، ولكنه بالتأكيد لن يستطيع ان يتخلص تماما من حقده، وهاقد جاء اليوم ليتزود بمزيد من الوقود لمحرك الحقد لديه، فهو يراه الان بمثابة الرجل الذي سيختطف انجيليكا منه، رغم علمه ان انجيليكا لم تكن له، وترفض ان تكون له، لو جاءها بجبل من ذهب، الا ان الجنون الذي يمنع الانسان من ان يرى الواقع علي حقيقته، قد تمكن منه، فهو مجنون بها، ولعله لا يتصور امكانية الحياة دون ان تكون هذه المرأة في حوزته، وها هو قرار النقل الذي صدر بشأنه، يرمي به الى نقطة تبعد مئات الاميل عن مكان اقامتها، وتبعده مسافة اعوام ضوئية عن مناطق نفوذه وسلطته، هذا النفوذ الذي صار محدودا ضئيلا، فماذا بامكانه ان يفعل بكل هذا الجنون؟
لقد كان حذرا وهو يدعو بانايوتي الى ان يتكتم على امر خطوبته لابنته، ومن جانبه سوف لن يخبر احدا بهذه الخطوبة، ولن يحتفي بها اذا وجدت القبول من صاحبة الشأن، الا بعد ان يختفي صالح السردوك في ثقبه الاسود في صحراء سرت.
وراى ان اللياقة تقتضي توديع بعض نجوع الصحراء وشيوخها، وهو يغادر منصبه، فنظم رحلة من رحلات الصيد التي يقوم بها في الصحراء، تتيح له ايضا فرصة المرور ببعض التجمعات السكانية في بعض مناطق الحمادة الحمراء، وبناء على قرار كان قد اصدره بالمحافظة على الغزلان وحضر صيدها، فقد منع نفسه، كما منع كل مرافقيه من تصويب بنادقهم الى أي ظباء او غزلان او وعول ممن يسميها اهل الحمادة بقر الوحش، مكتفيا بصيد الطيور والارانب والقطط البرية، واستباقا لمهنة صيد الثعالب التي قد تصبح عملا رسميا له، قام اثناء الرحلة بتوجيه رفاقه لامكانية اصطياد اثنين او ثلاثة منها، وهو ما حدث فعلا، فقد استطاع صيد ثعلب واحد اصابه في مقتل، واحتفظ بجلده، وهو ما فعله رفيق شرطي ممن كانوا في ركبه الذي كان عبارة عن سيارتين عسكريتين تجر احدهما الكارفان الذي يستخدمه للنوم، وجعل المرور على وكالة بانايوتي جزءا من هذه الجولة، ولم يكن السبب هذه المرة توديعا، لانه يعرف ان ثمة رابطة من المرجح ان تجدد الصلة بهذه الوكالة، وانما ليعرف في كلمات هامسة يتبادلها على انفراد مع بانايوتي، ماهو رد انجيليكا على طلبه، وعرف منه انها توافق اذا كان واثقا من انه يستطيع تامين اقامتها مع اسرتها في الوكالة، وعلى اسوأ الفروض الاقامة في طرابلس، اذا حدث ظرف يمنع استمراره في العمل في الصحراء، وان يكون قد فك ارتباطه باي عمل يحتم عليه الانتقال خارج هذه البلاد، وعاد فرحا الى مزده، يعد الايام التي سوف تنقضى على انهاء مهمته الرسمية مع الحكومة، ليباشر بعد ذلك عمله الجديد، ويدخل لاول مرة في حياته دنيا الرجال المتزوجين.
فاجأ السردوك الجميع، الحكومة والاهالي، باعلان رفضه الانتقال الى نقطة ابو نجيم، وكتب مذكرة الى الوالي يرفض فيها تنفيذ قرار النقل، مبديا اسبابا عائلية لهذا الرفض، محتجا على الهبوط بمركزه من مدير المنطقة الامنية في اكبر مقاطعات طرابلس، الى رئيس نقطة حدودية، ملتمسا من الوالي الجنرال بلاكلي ان يعيد النظر في قراره، الناتج عن دسيسة دسها عليه خصومه، في حين ان سجله يشهد له بجليل الاعمال التي قام بها في سبيل استتباب الامن ونشر السلام والطمأنينة في الصحراء، التي كانت قبل استلامه لهذا المنصب ارضا مستباحة من قبل اللصوص وقطاع الطرق، وجاء الرد سريعا بان الاعراف العسكرية تنكر هذا الاسلوب في الاحتجاج، وان الوالي يعطيه انذارا اخيرا لكي يختار بين الاستجابة لقرار النقل او التعرض لمحاكمة عسكرية قد يترتب عليه تنزيل رتبته وربما طرده من الخدمة، وجاء رد السردوك حاسما قويا، ارساله الى الوالي عن طريق البريد، وقبل ان يصل رده الى طرابلس، كان هو قد غادر البلدة ليلا، متجها الى عمق الحمادة الحمراء، بعد ان اخلى مركز الشرطة من كل قطعة سلاح وذخيرة، واخلى الخزانة من كل قرش بما في ذلك المرتبات الموجودة فيها على ذمة الصرف لافراد الشرطة، وقال في رده على الوالي انه يستقيل من سلطة الحماية البريطانية ويعلن رفضها والانخراط في خدمة حكومتها لانها حكومة غير شرعية، ووجود الوالي نفسه لا شرعية له، وانه سيقود حركة تمرد وعصيات تجبرقوات الاحتلال البريطاني على الجلاء.
هكذا راى نائب الوالي كيف البس السردوك استقالته وعملية النهب والسطو التي قام بها لمركز الشرطة، لباسا وطنيا، واسدل هذا الغطاء الشريف فوق ما سيقوم به من اجرام ولصوصية وقطع للطرق، فاي اجبار هذا الذي سيقوم به لقوات الاحتلال على الجلاء، وهم يعلنون ان انتدابهم على وشك الانتهاء، وتسليم البلاد لحكومة من اهلها، ان لم يكن تدجيلا وكذبا وادعاء.
في اليوم الثاني لهروب السردوك تلقى نائب الوالي استدعاء الى طرابلس للتشاور مع الوالي، الذي طلب شرحا لهذا الموقف الذي اسفر عنه السردوك، فافهمه ان هروبه يأتي تاكيدا للشبهات التي دارت حول تعاونه مع بعض العصابات، كما ياتي تصديقا لما قاله له عن السردوك عندما طالب بنقله واعفائه من تولي المسئوليات القيادية،فهو برغم حقيقة الدور الذي قام به في القضاء على عصابات الصحراء، الا انه ابقى بعض الخطوط في يديه توصله بافراد من تلك العصابات، وهو يذهب الان ليستأنف علاقة قوية ووطيدة ربطته ببعض اهل المهنة، بل ان واحدا من اعضاء هذه العصابات، واسمه رشيد، جاء به ليكون عسكريا معه، وقد كان واحدا من الذين فروا معه الى الحمادة الحمراء ليكون فردا من افراد عصابته، وسيشكل السردوك في مرحلته الجديدة خطرا حقيقيا على الامن، بسبب الخبرات التي اكتسبها كمدير للامن، عارفا بوسائل المقاومة وامكانيات السلطة واساليبها، ولكي تحقق الحكومة احراز النصر عليه، فلابد من حشد قوة كبيرة، والاستعانة بخبير من خبراء الامن الليبيين، يحتل المنصب الذي كان يشغله، ليتولى ادارة حملة للقضاء عليه، والا فستشهد طرق الصحراء علي يديه عودة للفوضى وانهيارا للامن يصعب السيطرة عليه.

كان هبوز قد مهد الطريق مع الوالي، لفكرة انسحابه من العمل الحكومي، متفرغا للعمل الخاص، وشرح له كيف ان هذا العمل الخاص هو صيد الثعالب لحساب شركة بريطانية تعمل بصناعة وتجارة الفراء، مؤكدا له كيف ان منطقة الحمادة الحمراء تضم مستوطنات من الثعالب ستكون مصدرا من المصادر الكبيرة لمادة الفراء الثمينة، وموردا للعملة الصعبة للبلاد، وباعتبار ان الثعالب لن تنفد من الصحراء، مهما كثر اصطيادها، فهو يتوقع ان يستمر في هذا العمل سنوات كثيرة بعد انتهاء حكومة الانتداب، واجدا في مناخ اصحراء طقسا يلائم صحته، اكثر مما تلائمه المناطق البارده بسبب ما يعانيه من حساسية في عموده الفقري للبرد والرطوبة. وقد وافقه الوالي على وجاهة الفكرة متمنيا له النجاح في العمل والحياة، الا انه، كما قال له، لم يكن ممكنا ان يتركه يمضى دون ان يجد طريقة للاستفادة من خبرته في التعامل مع المنطقة التي عرف خريطتها الاجتماعية والطوبغرافية، ولذلك فهو سيعرض عليه ان يرتبط بعلاقة عمل ذات طبيعة استشارية مع نائب الوالي للمنطقة جون تاور، وهو عمل لن يأخذ منه غير ساعة واحدة في الاسبوع، يلتقي فيها به ليعطيه خلاصة رايه فيما يعرض للوالي من قضايا، واثقا ان خبرته ستكون مطلوبة بالحاح في مرحلة المواجهة القادمة مع السردوك، واقترح عليه الوالي ان يمر على مكتبه في الغد، عند الساعة العاشرة صباحا، ليجد لديه الكولونيل جون تاور، فيتعرف عليه. واعجبته فكرة ان يبقى على صلة بالعمل الرسمي، فهو يحتاج لهذه الصلة التي ستكون ذات فائدة عملية بالنسبة لمحطة صيد الثعالب،كما ستكون ذات فائدة لتعزيز حماية الوكالة، خاصة وان السردوك في وضعه الجديد كرئيس عصابة تجوب الصحراء، لن يكون صعبا عليه استهداف وكالة بانايوتي بارهابه واجرامه وانتقامه.
عندما حان موعد اللقاء في اليوم التالي، وقام الجنرال بلاكلي بتعريفه بالكولونيل تاور، وجد رجلا يرتدي الملابس المدنية، له ملامح عذبة رقيقة، لا توحي بالانتماء لمهنة العسكرية، وعرف ان مبعث ذلك جذوره الاوروستقراطية وانتمائه الى عائلة من نبلاء الارض الزراعية في منطقة كينت، جنوب شرق بريطانيا، قريبا من كانتربري حيث مركز رئاسة الكنيسة الانجليكية، وقد احس بالارتياح والالفة معه، ووجد ترحيبا منه للعمل المشترك بينهما في مستقبل الايام.

عاد هيوز الى مزده ليواصل عمله الذي تنتهي مهلته بعد اسبوعين، ووجد ان عليه ان يتولى بجوار مسئولياته في الادارة، المسئولية الامنية التي ظل مركزها شاغرا بعد هروب السردوك، وقد تزامن مع وصوله وصول شحنة من الاسلحة ارسلها الوالي من طرابلس تعويضا للسلاح الذي سطى عليه السردوك، كما جاءت الاخبار بعد يومين من عودته الى مزده، عن عملية سطو في الصحراء قامت بها عصابة السردوك، مستخدما اسلوبا تمويهيا جديدا، يدعي ان ما يقوم به من سطو انما هو لصالح الفقراء دون ان يسبب الا الضرر القليل للاغنياء من اصحاب القوافل، فقد هاجم قافلة كانت في طريق العودة من مرزق في اقصى الجنوب الى مصراته الساحلية في الشمال، ولم يأخذ من اهلها الا نقودهم وحلي نسائهم، وترك لهم احمالهم من التمر والقمح والشعير، عدا نسبة قليلة من هذه الاحمال اعطاها لواحد من النجوع، تابعا لقبيلة المطري، وهي قبيلة فقيرة قليلة العدد، ليشيع بين الناس انه نصير الفقراء ولا يأخذ الا حق الله في هذه القوافل، وطبعا كان البريجادير هيوز عارفا بالاعيب السردوك، وارسل تقريرا الى طرابلس، لتنبيه الوالي الى هذه الحيلة التي يريد السردوك من ورائها كسب الحرب الدعائية لصالحه، لاستقطاب قلوب السدج والمساكين من اهل الصحراء، مبلغا اياه بحجم القوة التي سيرسلها من مزدة لملاحقة هذا المجرم الهارب، طالبا منه سرعة ارسال التعزيزات، وكان قد وضع على رأس القوة ضابطا ارسله له نائب الوالي في غريان، لا يعرف السردوك ولم يكن يتعامل تحت امرته كما هو حال بقية العساكر والضباط الموجودين في مركز مزده، وزوده بتعليماته المشددة بان يكون حازما مع اعضاء فرقته لئلا يكون باحدهم ضعف او ميل للسردوك لطول عشرته لهم، وان يجتهد في محاصرة السردوك وملاحقته والقبض عليه وتفادي قتله قدر الامكان، وارسل القوة في ثلاثة سيارات صحراوية، املا ان تاتي التعزيزات لارسال قوات اكبر في الايام القادمة،وقد جاءت المعلومات ان السردوك يتحرك الان بقوة قوامها عشرة انفار يستخدمون الجياد، وهناك احتمال انه يستطيع بهذه الجياد ان يختفي في شعاب وعرة قد لا تصلها سيارت الامن، الا ان المهم، كما اتفق مع قائد القوة، انهم حتى وان فشلوا في القبض عليهم، فلا يريد فشلا في محاصرته ومنعه من الحركة، معزولا في الخروم الجبلية التي لجأ اليها لا يستطيع مغادرتها لمهاجمة المعابر وما يمر بها من قوافل