أحمد شرجي: يشهد الموسم المسرحي المغربي سنويا تقديم عشرات المسرحيات، التي تخضع لسياسة الدعم والترويج التي تتبعها وزارة الثقافة. لكن كم عمل من هذه الاعمال يشكل حضورا في المسرح المغربي؟ أو إنه يستحق ان يحضى بمبالغ الوزارة؟
لا يتعدى عدد الاعمال التي تبقى في الذاكرة أصابع اليد الواحدة، مما يشكل ذلك ترهلا واضحا في المسرح المغربي. ويبقى السؤال: كيف أجيزت تلك الاعمال؟
ومن الاعمال التي شكلت حضورا ملفتا ومهما في الموسم المسرحي المغربي الحالي، (مسرحية أمر- لفرقة المحترف للفنون) لمؤلفها (أحمد السبياع) ومخرجها (خالد جنبي)، والذي حضي بعاصفة من التصفيق وقوفا لفترة ليست بالقصيرة، وهم يستحقون ذلك فعلا، لأنهم قدموا عرضا مشاكسا، مختلفا، إن كان على مستوى النص، السينغرافيا، والتمثيل الذي شهد تألقا ملفتا لشخوص العرض (آمال بن حدو وسعيد ايات باجا). عرض أمسك بتلابيب المتفرج منذ دقائقه الاولى. الاحتفاء بالعمل جاء كرد فعل بعد أن مل الجمهور من مشاهدة عروض مسرحية تكرر بعضها بعضا، ما يشبه عربة لاتحمل غير المكرر والعادي.

آنفي طويل، لا اريد الخروج من المنزل!!!!!
أعتمد المؤلف مرجعية عبثية لنصه، الفكرة الدائرية، عدم توفر الحكاية، مسرحية فكرة / أفكار، أستند إليها المؤلف لإيصال خطابه الفكري. ثتائية القبح والجمال التي يعالجها المؤلف، ماهي إلا فكرة يتستر خلفها الكثير من الأفكار، فنحن امام قضية شائكة لاتتعلق بشكلنا الخارجي، بل شكلنا الداخلي وكيف ومن ماذا يتشكل؟ فمن خلال المظهر الخارجي نتحرك حياتيا داخل مجرات حيواتنا المختلفة.
الزوج(سعيد ايات باجا) وزوجته (امال بن حدو)، يملكان آنوفا طويلة، وهذه مشكلتهم الوحيدة، مما يشكل ذلك عائقا كبيرا امام خروجهما الى الشارع. حياة لايوجد بها اصدقاء، لايوجد من يتقبلهم هكذا (كما يزعمان).
زوج وزوجته يعيشان في بيت، لا يحبان الخروج منه، بسبب معاناتهما النفسية، من (قبح) مظهرهم الخارجي، فهم اصحاب انوف طويلة، وهذا ما يسبب مصدر قلقهما من الاخر خارج البيت. يفضلان البقاء في البيت على الذهاب الى الخارج، تارة يتحدثان عن تاريخهما من خلال الصور، وتارة اخرى يكسران جمود حياتهم بارسال الهدايا لبعضهما البعض عن طريق ساعي البريد، لكن تبقى الهدايا مجهولة المصدر لكلاهما، لأنها بدون مرسل. يتلقى الزوج هدية، يفتحها فيجد بداخلها انفا طويلا، يزداد خوفا من الاخر، والزوجة تتلقى الشيء نفسه، في كل مرة هدية. لكن في هذه المرة يفتح الزوج العلبة يجد بداخلها مرآة ويخفيها عن زوجته، بل يحاول ان يضعها بجانب الهدايا التي تتلقاها زوجته، فكل واحد منهم يتخذ زاويته من البيت لوضع هداياه. الزوجة تتلقى ايضا مرآة. تستمر هذه اللعبة الدائرية، بلا حدث يذكر. تحين لحظة كشف المستور، عندما يتلقى الزوج بطاقة بكلمات حب تفوح منها رائحة الغزل، وعندما يبالغ بعبارات الغزل، تكذبه زوجته، لأنها تعرف الكلمات التي كتبتها له، تعترف له بأنها من ترسل الهدايا، وهو يعترف بالشيء نفسه، اذن العملية متبادلة، لتحفيز احدها الاخر للخروج والتعايش مع الاخرين.
يخافون الاخر الذي ينظر فقط للشكل الخارجي، لأننا نعيش بعالم تسوده فكرة المظاهر الخارجية الشكلية ويكون التعامل مع الاخرين وفق ذلك. يمتلك صاحب المظهر الجميل حظوة حين يتعامل مع الاخرين، حتى لو كان هذا الجمال يخبأ عفونة تفوح رائحتها النتنة،لكننا لانشمها طالما تغلف باطيب العطور.
عالج احمد السبياع ثنائية القبح والجمال، بطريقة ساخرة، كاريكاتورية، كوميديا سوداء، لا تُخرج ضحكة، بل ابتسامة بعلامة استفهام كبيرة، لفنطازية الفكرة بشكل عام. لأن المظاهر مخادعة، فليس كل ما يلمع ذهبا، فكرة السبياع تذهب الى عمق المشكلة التي نعيشها وخاصة في عالمنا العربي، لأنها تضع اليد على جرح غائر في العقلية العربية للاسف، ونظرته القاصرة للمظهر دون النظر الى الجوهر.

العرض
قسم المخرج فضاء العرض إلى مستويين، الاول خشبة المسرح الاصلية والثاني فوقها منصة لها فتحتان على جانبيها، تستخدم لدخول وخروج الممثلين، وكانهما يعيشان داخل مستودع او ملجا داخل البيت، وهو علامة دالة لانعزالية الشخصيات، وهروبها من الاخر الذي لايرغبان بالتعايش معه، طالما إنه يتعامل معهم من خلال شكلهم الخارجي فقط. توزعت علب الهدايا على جانبي الخشبة والتي تزداد بتقادم زمن العرض عن طريق ساعي البريد الذي يطرق الباب بين الحين والاخر، وكل جانب تعود ملكيته مع الهدايا لأحدهم. لم نر غير لونين على الخشبة الابيض والاسود وهذا ما اراده مصمم السينغرافيا (رشيد الخطابي)، علب الهدايا بيضاء، والمنصتين سوداء، وكإنها إحالة الصراع الازلي بين الخير والشر، حتى إن الممثلين لهما نفس الدلالة اللونية مع بعض القطع ذات الالوان الداكنة.
ضيق المخرج مساحة اللعب على المنصتين، وهذه ايضا علامة لانعزالية الشخصيات، بدا العرض باخراج اجزاء الجسد عبر الفتحتين ترافقه شدة ضوئية، وكأن الشخصيات تخاف رؤية العالم، لا تريد الكشف عن مظهرها الخارجي.
خوفا من الاخر الذي لاينظر الى جوهر الانسان، بل الى شكله الخارجي. اذن نحن امام ثنائية رسمها المؤلف وعمقها الإخراج لشخوص تجتر ذكرياتها إيغالا بعزلتها، حتى يتحول العمل بمجمله إلى ثنائيات متشابكة:
الأنا ndash; الآخر
الأنا ndash; هو
الداخل ndash; الخارج
القبح ndash; الجمال
الماضي ndash; الحاضر
الأنا ndash; الآخر: تتشكل داخل العرض من خلال الزوجين، خوفهما من الاخر الذي يجهلهما داخليا، لكنه ينظر الى شكليهما فقط، وهذا يشكل عائقا كبيرا لاستمرارية حيواتهم الاخرى بعيدا عن البيت.
الأنا ndash; الهو: التي حددها سيجموند فرويد، تتجسد سلبيا داخل الزوجين، من خلال اختيارهما للعزلة والعيش بعيدا عن الاخر، دون معرفته والتحاور معه.
الداخل ndash; الخارج: هو الغرفة/ القبو حيث يعيشان مع علب هداياهم، والخارج بالنسبة لهم، هو ساعي البريد الذي يطرق الباب بالاتفاق معهم كل على إنفراد.
القبح ndash; الجمال: نظرة الكثير من البشر النسبية والقاصرة لمفهوم القبح والجمال، وهنا نستعير طروحات (كريماس) ومربعه السيميائي، والمسافة الوسطية للصفة الواحدة،quot; جميلquot;، quot;قبيحquot;، quot;غيرجميلquot;، quot;غير قبيحquot;، لأن (ما ليس جميلا ليس بالضرورة قبيحاً، وما ليس جميلا ليس بالضرورة قبيحاً).
شكلت الثنائيات العلاماتية، إن كانت لغوية او بصرية، جوهر العرض المسرحي، والتي طغى عليها الاستعارية والاستبدال، استعار المخرج فضاء مغايرا لفضاء النص واستبدله بفضاء فنطازي. حتى على مستوى الازياء المنفلته زمنيا داخل العرض، انتماؤها للفضاء الاستبدالي، لا تنتمي لثقافة معينة، إلا ثقافة العرض، ثقافة عائمة، يحيلها المتلقي حسب قراءته لزمن العرض. واللانتماء لايتجسد بالموسيقى التي كانت تتنقل بين ثقافتين، عربية/ مغربية، غربية، وهذا ما لايتفق بشكل العرض الفنطازي، وكذلك يتقاطع علاماتيا مع علامات العرض المسرحي الاخرى وقد يكون ذلك راجعا للاستسهال باختيار الموسيقى التصويرية للعروض المسرحية، وكذلك عدم معرفة باهمية الموسيقى كفعل وشريك درامي على الخشبة.
----
سار العرض بخطوط افقية بعيدا عن التوتر الدرامي وهذا ما سعى إليه النص، مما شكل طغيانا لخطاب المؤلف والذي كان بطلا حقيقيا لـ (أمر). ويحسب للمخرج سيطرته على ادواته الاخراجية، فقد ضبط الايقاع، لم يترك الملل يتسرب الى الجمهور، فكل شيء يسير وفق ما حدده مسبقا.
لم يسع المخرج الى تعقيد حلوله الاخراجية، فجاء العرض سلسلا بدون تكلف، عرضا واعيا لمخيلة مثقفة سعت الى رسم الابتسامة على خراب الروح والنفس البشرية. رغم صعوبة الحلول الاخراجية التي ضمها النص، خاصة وان العرض يتكون من شخصيتين فقط، وهذا يحد من جمالية الصورة على الخشبة، بحيث يوقعها بالتكرار.
ظلت السينغرافيا(تصميم رشيد خطاب) معطلة في الكثير من الاحيان، واذا استثينا الفتحتين، لم نشاهد شيئا يذكر لاستنطاقها، واشتغال الفتحتين فرضه النص، لأنه يشير الى دخول وخروج الممثلين. وكذلك عُلب الهدايا عملت كشفرات حياتية ايقونية وهذه وظيفتها داخل العرض، باستثناء مرة واحدة عندما تحولت العلبة الى مسرح دمى بيد الزوج.

التمثيل:
يعتمد نجاح الكثير من العروض المسرحية على مهارة الممثلين، لأن الممثل البارع، الخلاق، وحده يملك السحر على الخشبة. لايمكن لعرض quot;أمرquot; ان يحقق هذا النجاح دون الاشارة الى جهود الرائعين (سعيد ايات باجا، والمتألقة امال بن حدو). أتسم اداء سعيد ايات باجا بشيء من المبالغة، وتكرار الحركات التي ضحك عليها الجمهور اكثر من مرة، حتى بات تكراراها غير مبرر، ولكن هذا لايلغي اداءه الاخاذ في الكثير من المشاهد التي تطلبت جهدا نفسيا وعضليا. وما يحسب لسعيد مرونته الجسدية العالية في تأدية الاشتغال الحركي داخل العرض، رغم بعض الهنات هنا وهناك بالتطبيق، وهذا نتيجة قلة التمارين للوصول الى الدقة العالية بالتنفيذ.
امتاز أداء الممثلة المبدعة امال بن حدو بالكثير من الاستقرار على الخشبة، حيث توافقت حركاتها الجسدية مع الكاركتر الكاريكاتوري الذي رسمته للشخصية. مما انعكس على تقبل الجمهور الذي صفق لها اكثر من مرة. تنقلت بمهارة عالية وفق تقلبات الشخصية السايكلوجية، لم يسحبها الجمهور للتكرار كما هو الحال مع زميلها، بل ظلت وفية للشخصية التي رسمتها، وأمينة للخريطة الأدائية التي خطتها لتطور الشخصية في زمن العرض. وهذه قدرة عالية يجب ان يمتاز بها الممثل بشكل عام.
لعل من المنصف القول بإن نجاح مسرحية (امر)، اركتز بقوة للجهد التمثيلي لـ (سعيد وامال)، لأنهما استطاعا بحرفية عالية الإمساك بروحية العرض الكاريكاتورية، من خلال اجادتهم الانتقال من مشهد الى اخر. ونسجل عليهما عدم ضبط الحركات الجسدية المشتركة، مما شوه هارمونية ادائهم العالية.
امتاز العرض بحرفية عالية، صناعة فرجة مسرحية مدهشة افتقدتها مسارح المغرب في السنوات الاخيرة، وذلك للاستعجال بتقديم العروض واللحاق بمواسم الدعم والترويج، والتي نطالب بحب باعادة النظر باستراتيجتها، لأنه ذو قصد نبيل.

فنان مسرحي عراقي مقيم بهولندا. *
ahmadsharji@hotmail. com