الى اخي الاكبر المرحوم ldquo;محمدrdquo; الذي ملأ دارنا بكتب الشعر

حميد مشهداني من برشلونة: في بغداد، وفي بداية السبعينات كان ldquo;فيديريكو غارثيا لوركاrdquo; واحدا من رموز أحلامنا الشابة، فبين 1970 و1976 قدمت معظم مسرحياته على قاعات معهد و أكاديمية الفنون الجميلة، أتذكر منها مسرحية ldquo;ماريانا بينيداrdquo; التي أخرجها ولحن أغانيها ldquo;فيصل المقداديrdquo; وأخرى قدمها كمونولج ldquo;أسماعيل عبد الزهرةrdquo; على قاعة مسرح معهد الفنون، وهي ldquo;بيت بيرناندا الباrdquo; بالاظافة الى العديد من طلاب هذين المؤسستين من المسرحيين الذين اختاروا مسرحيات ldquo;لوركاrdquo; كأطروحات لتخرجهم ولا تحضرني أسمائهم الان للاسف.
كان ldquo;لوركاrdquo;من أول ضحايا الفاشية التى كانت في صعود بداية الثلاثينيات، فهو اغتيل بعد اقل شهر من العصيان العسكري الذي قاده ldquo;الجنرال فرانكوrdquo; من المغرب ضد الجمهورية الديموقراطية الاسبانية، فبعد الاشاعات و الاشارات الى قرب الانقلاب وعودة الديكتاتورية كانت الحياة السياسية والاجتماعية في العاصمة ldquo;مدريدrdquo; كانت مرتبكة جدا، فذكرى ديكتاتورية الجنرال rdquo;بريمو دي ريفيراrdquo; كانت ما زالت طرية في أذهان الديموقراطيين الاسبان، الذين دحروها في انتخابات شرعية قبل 6 سنوات.
هنا ارتكب ldquo;لوركاrdquo; خطأ تراجيديا كما في العديد من قصائده، فهو تصور ان سقوط ldquo;مدريدrdquo; كان وشيكا، فقرر مسرعا العودة الى ldquo;غرناطةrdquo; حيث عائلته، وأصدقاؤه وشهرته، متخيلا بأنه سيكون أكثر أمانا. ولكنه لم يكن ليعرف ولا أحد كان يعرف ان اول مدينة أسبانية حوصرت وسقطت في أيدي الفاشيين خلال أيام كانت ldquo;غرناطةrdquo; هو الذي كان يحلم بحمايتها، هو الذي كان من أشهر شعرائها في اسبانيا وفي العالم كله، كان على رأس القائمة السوداء التي اصدرها الحاكم العسكري الجديد والتي تأمر بالفاء القبض على كل من تعاونوا مع الجمهورية وأول بيت اقتحم في ldquo;غرناطةrdquo; كان بيته في بستان ldquo;سان فسنتهrdquo; في مشارف المدينة، ولكنه تمكن من الهرب ولجأ في بيت الشاعر الشاعر الشاب ldquo;لويس روساليسrdquo; الذي كان ldquo;لوركاrdquo; قد ساعده كثيرا في نشر فصائده الاولى في في مجلة شعرية كان يصدرها لوركا في غرناطة لويس روساليس، 1910-1992 حصل على جائزة سيرفانتيس في عام 1982rdquo;وهذا كان ينتمي الى عائلة ذات مستوى اجتماعي رفيع معروفة بتدينها الكاثوليكي تعيش في منزل كبير وسط ldquo;غرناطةrdquo;، والاخ الاكبر كان واحدا من كبار قادة حزب ldquo;الكتائب الاسبانيةrdquo; الذي دعم الانقلاب الفاشي، ولكن حب ldquo;لويسrdquo; لشاعرنا جعله يغامر في اخبائه ببيت العائلة مما وضع الاخ الكتائبي في حيرة من أمره، فهو الذي كان يقود فرق الموت كل فجر ليصطاد الجمهوريين، ولكن العلاقة بين عائلة ldquo;لوركاldquo; وعائلته كانت قديمة وحميمة، مما اضطره أخفاء هذا السر القاتل، وفي بيت روساليس كانت العائلة هذه تعتبره ابنا اخر بجانب ابنائها المتعددين حيث شعر ldquo;لوركاrdquo; بالامان وكان يعزف على البيانو أخر الحانه، وكتب أخر قصائده التي أحتفظ بها ldquo;لويسrdquo; والتي نشرت بعد عقود من اغتياله.
قبل مغادرته ldquo;مدريدrdquo; بأيام كان هاجس يؤرقه وكأنما شعر بقرب نهايته، وقرر زيارة كل اصدقائه، فهو حضر أحتفالا تكريميا لrdquo;رافائيل البرتيrdquo; و الشاعر ldquo;لويس ثيرنوداrdquo; و المسرحي المعروف ldquo;فايي دي انكلانrdquo; وقرأ مسرحيته rdquo;بيت بيرناندا الباrdquo; وفي يوم 11 تموز يحضر حفلة عشاء في ldquo;منزل الازهارrdquo; مع ldquo;بابلو نيروداrdquo; مع العديد من الشعراء والفنانين. وبعد يومين ازداد قلقه فزار أستاذه القديم ldquo;رودريغز أسبينوزاrdquo; طالبا النصح، وهذا أكتفى بشراء بطاقة سفر الى ldquo;غرناطةrdquo; معتقدا انه الصواب، وأخر من زاره ldquo;لوركاrdquo; كان ldquo;خوسيه بيرجامينrdquo; أحد أعمدة جيل ال27 الذي تصور ان لوركا في قراره هذا أختار طريق الامان، ولكنه كان مخطئا ايضا. فبعد اقل من ثلاثة أسابيع، وبسبب الوشايات أعتقل الشاعر وقيد الى مقر الحكومة المدنية في يوم 16 اب، وبعد يومين وفي فجر ردئ اعدم بشكل عنيف وألقي في حفرة، أو مقبرة جماعية. خلال يومي أعتقاله حاول الموسيقار الغرناطي، العالمي ldquo;مانويل دي فاياrdquo; إنقاذه لانه كان من أكثر شخصيات المدينة احتراما بسبب شهرته العالمية، وكذالك شخصيات أخرى من المتعاونين مع الانقلاب حاولت التوسط لانقاذه، لكن اللعنة حلت على الشاعر، وهذا كان قدره، قتل غدرا حتى قبل أن تعلن الحرب الاهلية وحتى قبل وصول ldquo;فرانكوrdquo; من المغرب، فصار من اول شهداء ذالك الزحف الفاشي الذي زرع القارة الاوربية بالوحشية والقسوة.
من الصعب جدا تحليل عالم الشاعر المعقد في بضعة سطور، أو صفحات، فهناك عنصر أضافي وهو شعبيته، لا أعني فقط على مستوى المثقفين وفقهاء الشعر فلوركا كان معروفا ومحبوبا حتى من قبل الاسبان الاميين في ذالك الوقت، فهو في شعره الطليعي والمعقد امتطى الاسطورة الشعبية وجعل منها مادة اساسية في إبداعه، وكتب العديد من القصائد التي كتبت ولحنت كقصائد شعبية ما زالت تغنى الى يومنا هذا.

أغنية الفارس

في القمر الاسود
لقطاع الطرق
تغني المهاميز
اه، حصانا أسود
الى أين تحمل فارسك ميتا؟
المهاميز الصلبة
لص الطرق الساكن
الذي فقد الجمته
حصانا باردا
كما عطر وردة السكين
في القمر الاسود
تقطر دما جوانبها
جبال ldquo;موريناrdquo;،
اه، حصانا أسودا
الى أين تحمل فارسك ميتا؟

لوركا وبونويل ودالي وآخرون

بعد مقتل الشاعر والمنع البات حتى بذكر أسمه خلال النظام الفاشي، صار ldquo;لوركاrdquo; اسطورة حتى بين اعدائه وفي كل جهات الارض ترجمت قصائده وقدمت مسرحياته رغم ان إنتاجه الابداعي لم يكن ليغطي الا سنوات قليلة، فهو أغتيل قبل ان يكمل الاربعين من عمره، لكن أنتاجه كان غزيرا بين الشعر والمسرح والموسيقى، والرسم ايضا.
كتبت في مقال سابق حول الذكرى المئوية للشاعر ldquo;ميغيل ايرنانديثrdquo; عن لقائي الصدفي مع ldquo;رافائيل البرتيrdquo; في عام 1978 في مساء جمعة في ldquo;مدريدrdquo;المزدحمة، في ذالك المقال أشرت فقط الى ما تحدث به عن ldquo;ايرنانديثrdquo; شهيد الفاشية الاخر. ولكن في الواقع كان الحديث عن ldquo;لوركاrdquo; في اكثره، وذكر لي كيف انه كان واحدا من اخر من رأى لوركا قبل اغتياله، وكان يعرف الخطأ القاتل الذي ارتبكه الشاعر مستعجلا سفره الى ldquo;غرناطةrdquo; اول يوم الانقلاب العسكري على الجمهورية وقال ldquo;لم يكن في ذهن احد منا ان غرناطة ستسقط بيد الانقلابيين بعد أيام قليلة فهي سقطت ببيان اذاعي بسيط، حينها ارعبتني فكرة وجود ldquo;لوركاrdquo; في غرناطة، وخشيت الاسأ وهذا ما حدثquot;. هذا ذكرني بالانقلابات العسكرية العربية التي دائما ما كانت تبدأ بrdquo;بيان رقم واحد...و الخrdquo;.
بينما كنت اقود سيارتي المكشوفة وشعر ldquo;البرتيrdquo; الفضي يتطاير، غنينا معا قصيدته التي لحنها الموسيقي الرائع ldquo;باكو ابانييثrdquo; وكانت شائعة جدا في ذالك الحين وهي،

أغنية الذي لم أذهب الى ldquo;غرناطةrdquo; أبدا

أي بعد بين بحار، جبال وحقول
الان، شموس أخرى تنظر رأسي المشيب
أبدا لم أر غرناطة
أبدا لم أر غرناطة
رأسي المشيب، والسنوات الضائعة
أريد لمس، الدروب الممسوحة
أبدا لم اذهب غرناطة
أبدا لم اذهب غرناطة
أعطوا يدي غصنا اخضر الضوء
ولجاما قصيرا، وحصانا طويل العدو
أبدا لم ار غرناطة.

لوركا، ونيرودا
في مذكراته يكتب ldquo;نيروداrdquo; عن لقائه مع ldquo;لوركاrdquo; فالشاعر الشيلي وصل عاصمة الارجنتين ldquo;بوينوس ايريسrdquo; في شهر اب 1933 وفي نفس الوقت تقريبا وصلها الشاعر الاسباني ليقدم واحدة من اروع مسرحياته rdquo;أعراس الدمrdquo; ويشرح كيف التقى به والتعرف عليه شخصيا لاول مرة. وهنا اتذكر اخر جملة يقولها ldquo;همفري بوغارتrdquo; للظابط الفرنسي في فيلم ldquo;كازابلانكاrdquo; وصارت تعبيرا شعبيا خلال الستين السنة الاخيرة وهي ldquo;لوي، أشعر ان هذا سيكون بداية لصداقة رائعةrdquo; وهذا ما حدث بين الشاعرين فصداقتهما أستمرت بشكل وثيق الى حين موت الشاعر. وحينما دعيا الاثنان الى حفل عشاء تكريمي نظمه ldquo;نادي القلمrdquo; في فندق ldquo;بلاثاrdquo; هنا فاجأ ldquo;لوركا ldquo; الشاعر الشيلي بفكرة استغلال هذه المناسبة الفريدة لتقديم خطابا مشتركا لاحياء ذكرى شاعرهما المفضل النيكاراغوي ldquo;روبين داريوrdquo; على الليمون وهذا تعبير صعب الترجمة وحتى ldquo;نيروداrdquo; لم يكن يعرف معناه، ، فقال الشاعر الاسباني ldquo;مصارعان أثنان يصارعا ثورا في نفس الوقت وقماش احمر واحد بين الاثنين، وهذا من اخطر التجارب في مصارعة الثيران، لذالك لايحدث الا مرتين أو ثلاثة كل قرن، ولا يستطيعه الا اذا كان المصارعان أخوين، أو في شراينهما يجري نفس الدم، هذا يسمى المصارعة على ldquo;الليمونrdquo; وهذا ما سنقوم به هذه الليلةrdquo; وهذا ما صار، فأمام أكثر من 100 من الشعراء والكتاب نهض ldquo;نيروداrdquo; من طرف القاعة ليقول، rdquo;سيداتيrdquo; من الطرف الاخر نهض ldquo;لوركاrdquo; ويقولrdquo;سادتي..rdquo; و هكذا تقاسما الخطاب الذي كتباه معا وكأنه عمل مسرحي ارتجالي، ولكنه كان في جوهره تخليدا لشاعر عظيم مثل ldquo;روبين داريوrdquo; الذي اعتبر اب الشعر الحديث في اللغة الاسبانية.
ولد ldquo;فيديريكوrdquo; في عام 1899 في قرية ldquo;فوينتي باكيروسrdquo; وهي قرية تقع في ضواحي غرناطة، وعانى موتا عنيفا في 19 اب 1936 بعد ايام من الانقلاب العسكري وسقوط ldquo;غرناطةrdquo; نشر اول ديوان له في 1921 سماه ldquo;كتاب القصائدrdquo;، درس الفلسفة والادب، والحقوق، ومنذ 1919 انتقل الى ldquo;مدريدrdquo; ليسكن ldquo;دار أقامة الطلابrdquo; الشهيرة في نموذجيتا التقدمية حيث تعرف على ldquo;سلفادور داليrdquo; و المخرج السينمائي العالمي ldquo;لويس بونويلrdquo; هذه الدار كانت واحدة من اهم مراكز التنوير والثقافة في بداية القرن العشرين، وملتقى كل مثقفي اسبانيا.
في عام 1930 كان في قمة الشهرة كشاعر ومسرحي وسافر الى العديد من بلدان اميركا اللاتينية مقدما مسرحياته بنجاح ساحق. وبعد اعلان ldquo;الجمهورية الاسبانيةrdquo; وسقوط الملكية في صناديق الاقتراع ديموقراطيا، أسس فرقته المسرحية ldquo;لاباراكاrdquo; الجامعية حيث قدم العديد من اعمال المسرح الكلاسيكي الاسباني في ابعد وأعمق زوايا اسبانيا، في تلك الاثناء كتب أجمل قصائده في ديوان ldquo;رومانس الغجرrdquo; الذي جعله في قمة الشعر، وصار من أكبر الشعراء الغنائيين الاسبان على مدى القرن الماضي، فهو استخدم التراث والتقاليد الشعبية كأداة أساسية لشعره الطليعي ذو الرمزية الكثيفة، مستفيدا من معرفته العميقة بالحياة الاندلسية الغنية بالتراث الشعبي من احتفالات دينية الى ثقافة الغجر، وغناء موسيقى الrdquo;فلامينكوrdquo; الذي عشقه الشاعر، وهو كان من اول الشعراء الاسبان الذين أغنوا قصائدهم من التراث الشعري العربي الاندلسي. ولكن ما توجه فعلا كشاعر مسرحي هو كتابته مسرحية ldquo;أعراس الدمrdquo; التي ساهم فيها أعظم الممثلين المسرحيين في تلك الفترة مثل ldquo;مارغاريتا شيرغوrdquo; الكتلانية، وهذه الاخيرة قدمت معظم مسرحياته مثل ldquo;يرماrdquo; وrdquo;دونيا روسيتا العازبةrdquo; وrdquo;بيت بيرناندا الباrdquo; وهذه كانت الاخيرة حيث قدمت في الارجنتين بعد وفاته.
رغم المنع الرسمي لذكر أسمه خلال 4 عقود كان لوركا وشعره على شفاه الاسبان سرا، وخارج اسبانيا كان أسم الشاعر يتألق يوما بعد يوم. فهو ترجم وقدم وكتب عنه في كل لغات العالم.