محمد النابلسي من الشارقة: عندما تعصف برأسك الأسئلة تجد نفسك متورطاً تماماً في مؤامرة يحكيها لك الكون ليضعك في خانة الاجابة، وفي تلك اللحظة لا تعرف ان كانت تلك الاجابة التي تريدها أم التي يريدها الكون لأجلك، اقول ما اقول بعد ما عشت من تجربة فريدة.. تعلمتها من مجموعة من الشباب والصبايا الذين يصغرونني جميعاً بالعمر على ما اعتقد..... تعملت درساً .. ولاصدق القول دروساً عديدة في الحياة والفن والحب.
هذه الدروس تعلمتها من خلال عرض مسرحية quot;لوحات حائفةquot; والتي قدمتها فرقة مسرح ديار الراقص الفلسطينية على خشبة معهد الشارقة للفنون المسرحية في الشارقة، وبدعوة من مجموعة مسارح الشارقة، إذ كان المسرح ليلتها هادئاً ساكناً منكفياً على نفسه توافد الحضور إليه ليشهد عودة الروح إليه، حتى جاءت تلك اللحظة التي عرفها كل عاشق للمسرح ومرتاد له، تلك اللحظة التي يخفق فيها قلبه حين تدب الحياة على خشبة المسرح وتبدأ الاضاءة المسرحية بالتسلل إلى الخشبة، في تلك اللحظة بدت الحركة بفيلم على شاشة من صفحات الجرائد يحملها ثلة من الراقصين والراقصات، ولاأدري إن كان مخرج محمد عواد حاول أن يصل بنا إلى هذا المعنى، فقد اعاد لي هذا المشهد محاولة الفلسطينين الدؤوبة في البقاء والاستمرار بابتكار الحلول المناسبة للحياة، خطر لي لوهلة انهم كانوا يملكون شاشة عرض ومزقها من مزقها ربما حين مر الاحتلال بهم في بيت لحم ، وريما على الجسر وهم قادمون لنا، ليصنعوا شاشتهم من اخبارهم، حتى غدت هذه الشاشة هي الشاشة النموذج، التي بات الموت فيها جزءا من نهاراتهم، ليقدموا بذلك برهاناً على رغبة ثابتة وجلية للحياة، والاستمرار في تقديم فنهم ، ولن يخفى على من يشاهد العرض أن هناك تغيبياً شبه كامل للصورة النمطية عن أي عمل ابداعي فلسطيني، فعادة تجد نفسك متورطاً في الدبكة الشعبية وتارة أخرى متورطاً بشهيد او تفجير او غارة، ولكن هذا العرض جاء مغايراً بتقديمه هوية جديدة للمسرح الفلسطيني مستمدة من هوية الانسان الفلسطيني، وليس من القضية الفلسطينية أو الصراع الفلسطيني.
البداية كانت دعوة للحياة، استمرت طوال العرض بجهد فريق متكامل مكون من 25 شاب وفتاة، 21 منهم على خشبة المسرح، يقدمون مجموعة من اللوحات بخطوات راقصة لها أثر كأثر الفراشة الذي ذكره درويش في قصيدته أثر الفراشة، ولكن أثرهم يُرى ولا يزول.

وفي لوحات تنوعت ما بين الخائفة والمتأملة والرومانسية على انغام لمقطوعات موسيقية لا شك أن اختيارها قد تم بعناية فائقة في نفس الوقت حملت بعداً شخصياً واضحاً إما للمخرج وإما لكاتب فكرة العمل رامي خضر، فالكلمات المكتوبة كانت متوافقة ومنسجمة مع موسيقاه، كأننا لم نسمع هذه الأغاني من قبل ولم نألفها سابقاً، وإنما صنعت خصيصاً لهذا العرض، فما بين دبكة العاديات ونشيد الانتفاضة لروزنا شربل روحانا وما جادته أنامل تريو جبران، جاءت هذه الأغاني والموسيقى في محاولة لتوظيف جديد لتراكم الابداع من نوع خاص.
أما ما جاء من فعل درامي مختزل ومتناسق مع تلك اللوحات الراقصة، قدم جرعة درامية تنبأ بمهارات مسرحية مميزة لدى الفريق، فمعظهم كان يعرف ما عليه القيام به على المسرح تماماً، فقد اسر لي أحد المخرجيين السوريين بأنه لو ملك فريقاً بهذا المستوى فهو في جنة المسرح الحقيقية، وكان مشهد الجريدة ومشهد أثر العود قد قدما لعبة درامية محكمة الصنعة ودقيقة الفعل.
وفي غياب كيروغراف متخصص جاء التشكيل الجسدي متفاوتاً، ويفتقر إلى بعض اللياقة عند بعض الراقصين والراقصات، ولكنه بليغ ودقيق خاصة في تلك اللوحة الأخيرة .. شجرة الحياة....
فهناك على الأرض ما يستحق الحياة فعلاً....
يذكر ان هذه الفرقة التي جاءت من بيت لحم يعرفون عن أنفسهم بأنهم تجمع شبابي فني ثقافي يهدف للتعبير عن الهوية الفلسيطينية بطرق فنية إبداعية معاصرة، ويتألف المسرح من حوالي 80 راقص وراقصة يخضعون لبرنامج تدريبي مكثف يمزج ما بين الدبكة الشعبية والرقص المعاصر بقالب مسرحي غنائي راقص، وهذه الفرقة تقدم عروضها في ظل ظروف تتختلف تسميتها من حين لآخر ما بني حصار واحتلال واجتياح، ولكننا نتفق جميعاً على انها ظروف صعبة وغير صحية للإبداع، وكافة أعضاء هذه الفرقة من الهواة فمنهم طبيب الأسنان والمعلمة والإعلاميين والموظفين، حالة نادراً ما نجدها في العالم العربي، مسرح الهواة بمستوى احترافي.
ولفرقة عمرها لم يتجاوز العامين استطيع الجزم بأن المستقبل لهذه الفرقة سيكون فريداً، ونوعياً ولا شك انه سيقدم كلمته الراسخة في خارطة المسرح الراقص العربي، وإن لم يكن عالمياً إن اجدنا لعبة التسويق، خاصة وان ما يقدمونه هو رسالة انسانية ليس بمضمون العرض فحسب بل بانسجام الفريق على خشبة المسرح وشغفهم المفضوح فيما بينهم، وقد نقلوا لنا هذا الشغف فمنا من شعر انه يعرفهم ومنهم من خرج يبحث عن شغفه بالحياة غيرة منهم.....
لوحات خائفة عرض يستحق الحياة ..
مسرح ديار الراقص... مسرح يستحق الحياة....