حميد مشهداني من لندن: في نهايات القرن القرن السابع عشر بدأت في ldquo;فينيسياrdquo; ظاهرة ما نسميه اليوم ldquo;السياحةrdquo; تلك المدينة التي نهضت من مياه المتوسط كانت قبلة الاثرياء والارستقراطيين، كانت من المدن القليلة التي يحرص الأغنياء في أوروبا على إرسال أبنائهم المتخرجين من المدارس العليا لقضاء اجازة ممتعة كمكافأة، وباريس كانت الثانية، خصوصا من قبل الارسقراطية الانكليزية.
وهناك اخترعت كلمة ldquo;السوفينييرrdquo; التي تعني التذكار او الهدية، فظهرت في المدينة العديد من النشاطات التجارية حول زيادة عدد الزوار الاثرياء لهذه المدينة التأريخية، فمنهم من كان يبيع تصاميم منحوتة بشكل مصغر لاهم معالم المدينة من بنايات عريقة وجسور وكنائس وحتى الزوارق ldquo;الجندولrdquo; المشهورة، وrdquo;قصر الدوقrdquo; في ساحة ldquo;سان ماركوrdquo; والكنيسة القديمة ldquo;عذراء الصحة ldquo;وكأنها تنهض من مياه القنال العظيم. والاجمل من هذا كله هو دخول الرسامين الفينيسين هذا السوق، وهؤلاء سميوا ب ldquo;فيدوتاسrdquo; وهذه كلمة أيطالية صعبة الترجمة وتعني رسامي المنظر ldquo;المدينيrdquo; وليس ما كان يسمى برسم المنظر الطبيعي الذي اعتاد رسمه فناني ذالك العصر ومن سبقهم، أي رسم الطبيعة بغاباتها وانهارها وجبالها ف ldquo;البندقيةrdquo; بقنواتها وبناياتها الفخمة، وجسورها كانت تعكس ماضيا حضاريا جميلا ومترفا خصوصا في فن العمارة ldquo;الباروكيةrdquo; ذات التفاصيل غير المتناهية وهي ما تزال الى يومنا هذا تحتفظ برونقها الساحر.
وكلما تكاثر عدد السواح كان يتكاثر عدد الرسامين rdquo;فيدوتاسrdquo; ومن هنا ياتي عنوان المعرض المقام في ldquo;لندنrdquo; حيث سمي ldquo;كاناليتو ومنافسوهrdquo; والذي يبدأ من منتصف هذا الشهر الى منتصف شهر ldquo;ينايرrdquo; حيث سينتقل بعدها الى واشنطن، ويقام في جناح ldquo;سينزبريrdquo; في ldquo;الغاليري الوطني البريطانيrdquo; بساحة ldquo;الطرف الاغرrdquo; في قلب ldquo;لندنrdquo; مقابل نصب الادميرال نيلسون.
فزبادة الطلب على هذا النوع من الرسومات ضاعف روح المنافسة بين الفنانين، وكل واحد منهم كان يبذل جهدا خارقا في البحث التكنيكي المقارب للصور الفوتوغرافية، والبحث ايضا عن زوايا ldquo;فينيسياrdquo; الرومانتيكية وهذا الاسلوب تطور يوما بعد يوم، اي الرسم بدقة كل تفاصيل ldquo;المنظر المدينيrdquo; رغم بعدها في اطار اللوحة، على عكس ما اعتاد عليه رسامو النهضة الذين كثيرا ما كانو يركزون على ldquo;الفيكاراتrdquo; الرئيسية في العمل ويرسمون الrdquo;الخلفيةrdquo; بتفاصيل مضببة وغير دقيقة، وحتى رسامو ما بعد النهضة مثل ldquo;رمبرانتrdquo; وrdquo;روبنزrdquo; والاسبان مثل ldquo;فيلاسكيزrdquo; وrdquo;موريللوrdquo; rdquo;وrdquo;ريفيراrdquo; سارو على هذا النهج، فمعظم لوحاتهم كانت بتكليف شخصي من قبل ملوك، وأمراء وارستقراطيين.
كاناليتو، فاق كل معاصريه بدقة تكنيكه في رسمه مئات العناصر في كل واحدة من لوحاته بصبر وتأن لم يعتاد عليه رسامي تلك الفترة. فهو يرسم على بعد زورق بنفس دقة رسمه لشخص قريب منه مستخدما انواعا من فرش الرسم الصغيرة جدا في حجمها، فأعماله تشبه كثيرا ما نراه اليوم في ldquo;البوستكاردrdquo; السياحي التذكاري، ورسم بالوان زاهية ومدهشة كل معالم ldquo;فينيسياrdquo; الرومانتيكية من ldquo;القنال العظيمrdquo; الى ldquo;القصر الوقيrdquo; في ساحة ldquo;سان ماركوrdquo; وجسرrdquo;الحسراتrdquo; وجسر ldquo;ريالتوrdquo; والعديد من الكنائس التاريخية.
لم يكن ldquo;كاناليتوrdquo; من اخترع هذ الاسلوب، فقد سبقه في هذا الرسام الهولندي rdquo;غاسبار فان ويتيلrdquo; rdquo;1652-1736. وهذا كان واحدا من الابناء الضائعين من ldquo;المدرسة الفلامينكيةrdquo; العريقة، حيث وجد في تصوير ldquo;فينيسياrdquo; مصدر ربح أكيد ماديا فاق ما كان يربحه كرسام حسب الطلب،، رغم ان ldquo;كارباجييوrdquo; كان قد سبقهم بزمن حيث رسم قليلا من اللوحات اشهرها ldquo;معجزة اثار الصليب المقدسrdquo; ولكن هذا كانت له اهتمامات أخرى.
حينما زرت ldquo;لندنrdquo; لاول مرة في 1978 كنت امشي شارع ldquo;توتنهام كورت رودrdquo; باتجاه ldquo;الغاليري الوطنيrdquo; وجدتني اقترب من المركز الثقافي العراقي، وتذكرت نصيحة أحد الاصدقاء فعبرت الرصيف المقابل لتجنب الاقتراب من ما سماه صديقي rdquo;عش حرامية، ومخابرات البعث الصداميrdquo; و واصلت السير الى ساحة ldquo;الطرف الاغرrdquo; حيث كان المتحف. وفي الغاليري أكتشفت لاول مرة في حياتي هذا الرسام المدهش، وأستغربت اختفاءه في مادة تأريخ الفن وأنا حامل شهادة يكلوريوس في الفن من ldquo;أكاديمية الفنون الجميلةrdquo; في يغداد، وتأسفت لجهلي به، ومنذ ذالك الحين وأنا أزور ldquo;لندنrdquo; مرتين او ثلاثة كل سنة، وفي كل زيارة كنت أحرص على زبارة الغاليري لمشاهدة لوحات ldquo;كناليتوrdquo; الست او السبع المعروضة بشكل دائم، وفي كل مرة كنت اكتشف فيه قيما جديدة وتفاصيلا رائعة، فأعماله الان توازي فوتوغراف الديجيتال الحديث، فأمام اي لوحة تقف لترى فلما متحركا بأضواء طبيعية وترى ldquo;بانوراماrdquo; البندقية سكانها وتجارها وقنواتها المزدحمة بالزوارق وجسورها وبناياتها كلها مرسومة بدقة من اقل عناصرها صغرا وأهمية الى اكبرها، في واحدة من لوحاته الرائعة يرسم يعيد رسم لوحاته بنفس الدقة في سوق لبيع الاعمال الفنية للسواح.
في الربع الاول من القرن الثامن عشر، وفي ثلاثينياته يلغ ldquo;كاناليتو درجة الكمال كرسام ل ldquo;المنظر المدينيrdquo;، وهذا در عليه ارباح مادية غير عادية بفضل وكيله التجاري ldquo;جوزيف سمثrdquo; الذي باع مجموعته الخاصة الى ملك أنكلترا ldquo;جورج الثالثrdquo; وها تكاثر عدد رسامين ال ldquo;فيدوستاrdquo; كما العشب والذي اغاض ldquo;كاناليتوrdquo; الذي شعر بخطورة هذه المنافسة، فبعد اقامة طويلة في لندن عاد الى فينيسيا ليجدها تكتظ بالرسامين وأسواقهم الشعبية فأشتعل غضبا، وهذا يذكرني ما قاله لي أحد أصدقائي من الرسامين الاسبان، rdquo;أكبر الاعداء لرسام هو رسام اخرrdquo; وهذا ما حدث فعلا في تلك الفترة. ففي ثلاثينيات ذالك القرن ظهر واحدا من أكثر منافسيه ldquo;ميشيل مارياسجيrdquo;، رغم ان هذا الاخير كان ينافسه في مواضيع أخرى مثل الاحتفالات المسرحية والاستقبالات الشعبية والذي تميزت ألوانه بنوع من الدراماتيكية وخصوصية في ldquo;البعد النظريrdquo; الذي نرى فيه نوعا من التلقائية السريعة. ثم ظهر ابن أخيه الفتى العبقري ldquo;بيرناردو بيلوتي ldquo; وهذا أستحق لقب ldquo;كاناليتو الشابrdquo; ولكنه سرعان ما ضاق بثقل ظل عمه ولم ينتظر طويلا كي يغادر ldquo;فينيسياrdquo; الى الشمال ليرسم لوحات بألوان أكثر برودة، وهذا ما كان يناسبه لانه كان متضايقا من عمه ومن بريق الضوء المتوسطي في البندقية المشمسة.
كل هؤلاء احتواهم المعرض الذي يكون مركزه ldquo;جيوفاني أنطونبو كانالrdquo; الذي كان يعرف ب ldquo;كاناليتوrdquo; وهم على مدى قرن تقريبا في تنافسهم هذا خلدوا مدينتهم وأوقفوا الزمن فيها كما في ldquo;بوستكاردrdquo; تذكاري.
على مدى السنين يختلف العديد من نقاد وهواة الفن في تقييم أعمال هؤلاء فقسم منهم يعتبرهم فنانين تجاريين عاثوا في العمل الفني فسادا، وآخرون أعتبروا هذا الحدث الفريد في تاريخ الفن جديرا بالاحترام والتقييم، فهم وضعوا عاليا مستوى التكنيك في الرسم الواقعي. وانا من هؤلاء.