لدي شبه يقين بأن حسني مبارك [الطيّار الذي عاش في مصر 83 سنة] لا يعرف الشعب المصري. ولا يعرف العقل الجمعي لهذا الشعب، ولا عمقه الحضاري. كما لا يعرف شيفرة التخاطب معه ولا يفهم مشاعره ولا يُقدّر ظروفه. ليس لأنّ مبارك جاء من كوكب آخر، بل لأنه ببساطة معزول عن شعب مصر، خصوصاً في السنوات ال 25 الأخيرة من حكمه الفارط.
فلو كان يعرف شعبه، تلك المعرفة العميقة، بالمعنى الجيولوجي للكلمة، لما تصرّف بهذا الشكل الفظّ والوقح مع مطالب ومشاعر ملايين الثوار الذين هم الشعب المصري بجميع فئاته وأطيافه.
إننا أمام طيّار أخفق في قراءة quot;الصندوق الأسودquot; لشعبه. بل فشل فشلاً مدويّاً في حدس ولمس أسرار ومحتويات هذا الصندوق.
من هنا، شعرنا نحن العرب المتابعين للحدث من خارج جغرافيا مصر، بما شعر به المصريون الأصلاء، من استعلاء رئيسهم عليهم واحتقاره وإهانته لهم، في المرّات الثلاث التي خرج فيها وتكلّم. ويا ليته لم يتكلّم!
ففي كل مرة خطب فيها بلغته الخشبية الاستعلائية، كان يجرح أعمق نقطة في شعورهم. ما أجّج الغضب، وزاد في عدد الغاضبين، حتى وصلت مصر كلها لبداية عصيان مدني مليوني.
والسؤال الواجب الآن، بعد انتصار الثورة العظمى، هو : لمَ تصرّف مبارك على هذا النحو؟
ثمة عشرات الإجابات. منها ما هو سياسي مباشر، ومنها ما هو نفسي، ومنها ما هو ثقافي. وسأسمح لنفسي أن أحاول، في الحقليْن الأخيريْن أكثر.
أظنّ، أنّ أيّ طاغية قَدمَ عليه العهد وهو في كرسي الحكم [أو العرش]، تصبح له، بمرور العقود، نفسية إله أو مُتألّه. بمعنى أنه إن لم يكن من البشر، فهو على الأقلّ فوقهم. [والهُم تعود على شعبه]. وهذا المآل في التفكير يصل إليه الطاغية بفضل صلاحياته المطلقة، وملق ونفاق بطانته الأقربين، ثم تتسع الدائرة لتشمل جميع من لهم مصالح عنده.
وبهذا المعنى المتضخّم يوماً بعد يوم، يصبح من الطبيعي أن ينظر الطاغية للذين حوله على أنهم عبيده أو رهائنه. ثم تكبر الحكاية في رأسه، فينظر النظرة عينها لشعبه. ذلك أنّ الشعب كله بحاجة إليه لا العكس. فالشعب هم المجموع الكلّي لرعاياه. أي الرقم الحسابي الكمّيّ لهذه الملايين الغامضة بوصفهم رعايا ونكرات يحتاجون إلى مأكل ومشرب ومسكن.
ولعلّ جذر هذه النظرة القروسطية يعود للدين في المحلّ الأول، مع تأثيرات نافذة من ثقافتنا الشعبية أيضاً. فالرئيس لدينا هو راعينا. هو كبيرنا. هو أبونا. هو.. إلخ. وهي الصفات ذاتها التي يُطلقها الدين الإبراهيمي بشُعَبهِ الثلاث على الإله.
من هنا تصرّف حسني مبارك، في بداية ووسط وقبل نهاية الأحداث بليلة، بعقليه مَن تمرّدَ عليه عبيدُهُ أو أسراه. إستنكرَ واتّهمَ وخوّفَ ثم أطلق زبانيته وبلطجيته، تماماً كما كان يفعل إقطاعي روسي مع عبيده وأقنانه في العصر القديم.
نحن إذن أمام رجل بنفسية إله توحيدي، عبري بالأخصّ، يتعامل بكل قسوة ودموية مع خصمه وعدوّه. والحق أنّ مبارك منذ بداية الثورة حتى ما قبل نهايتها، تعامل مع الشعب المصري، كما لو كان عدواً يعاركه في قفص.
استخدم القنابل المسيلة للدموع [وارد أمريكا]. رصاص الجِلّ [وارد إسرائيل] _ الذي نعرفه جيداً نحن الغزاويين. الرصاص الحيّ، قنابل المولوتوف، عربات الدهس، الشوَم والسكاكين، الجمال، الخيول، القنص من أسطح الأبراج، التعذيب في الأقبية.. إلخ.
ولولا فضيحته أمام كاميرات العالم جمعاء، لرأينا ربما ما هو أفظع وأبشع.
لقد استيقظ تحت بدلته المدنية كل ميراثهُ العسكري [بالمعنى السيئ للكلمة] في تأديب الخصم والعدوّ. ذلك أنه مُتألّه ذو أصل عسكريتاري، لا يفهم غير أن يأمر فيُطاع!
أهان شعبه. جرح مشاعرهم. نكّل بهم. حتى صرخ واحد من المرابطين في ميدان التحرير، بعد خطابه الثالث والأخير : إرحل بقى وارحمْ! قالها الرجل الخمسيني بمزيج مؤسٍ من التعب والتوسّل. فلربما كان مرابطاً منذ أسبوع أو أكثر :لا ينام جيداً ولا يأكل جيداً، وبالطبع لم ير عائلته ولم يستحمّ.
لقد كرّسَ مبارك طوال حكمه نظرية السيد [الباشا] والعبد [الغلبان]. وكان لا بد من منظومة تعليمية وإعلامية رخيصة نافذة وفتّاكة، لكي ينشر هذه النظرية وهذه الثقافة بصورة ممنهجة على عموم الشعب. وللأسف نجح في ذلك طوال عقود لا سنوات. حتى دانت له الأمور، فظنّ أنه بعيد عن جميع المتغيّرات والأعاصير.
والآن ذهب الطاغية إلى حيث ألقت. غار أبو الهول. لكنّ الثقافة الفاسدة ما زالت تكتم على أنفاسنا كعرب في هذه المنطقة.
وإذا كان الشعب المصري العظيم، قد اجترح وأنجز معجزته الثانية في العبور نحو العصر الحديث، عصر الديمقراطية بالمعنى الغربي البهيّ، عصر الدولة المدنية وعصر المواطنة، فإنّ عليه وعلينا جميعاً كعرب ومسلمين، أن نجترح معجزة عبور ظلام هذه الثقافة لنصل إلى شاطئ عصرنا الساطع بالنور والأمان.
ففي ثقافتنا بشقيها الديني والاجتماعي، يقبع وحش الاستبداد. ولن يكون لنا مكان في القرن الحادي والعشرين إلا بقتل هذا الوحش، الساكن فينا ليل نهار، من أصغر مواطن إلى رأس الدولة.

ذهب مبارك غير مأسوف عليه. وبقيت الثقافة غير المباركة صانعة الطواغيت والطغاة!