لا وقت للنصائح، وأهل مصر أدرى بحالهم، وأقدر على تقدير مستقبلهم منا جميعاً، ومع ذلك نقول لهم انتبهوا : خذوها من مقروصين، قُرصوا مرة ومرات ولم يتعلمّوا : انتبهوا كي لا تسرق ثورتكم .. هذه الثورة الراقية المتحضّرة التي لا مثيل لها في القرون الأخيرة من عمر بشريتنا المعذّبة، ذلك أنها ثورة شعبية بيضاء تماماً، سلميّة تماماً، لا تشوبها شائبة دم ولا شُبهة عنف. انتبهوا أيها الشباب، أيها المصريون جميعاً. نحن أهل فلسطين، انتفضنا انتفاضتين شعبيتين كاملتين وشاملتين، ثم حصدنا من الانتفاضة الأولى اتفاقيةَ أوسلو، ومن الثانية التي عسكرناها المزيدَ من تلك الاتفاقية وتوابعها الرثّة. فوصل حالنا ومآلنا إلى ما ترون وتسمعون.
انتبهوا. البدايات دائماً نبيلة وبريئة، ثم يركب الموجة انتهازيّوها، فتنحرف البدايات عن مسارها، وتكون النهايات غير ما تأملون وتتمنون.
ربما لا يصحّ تشبيه ثورتكم البيضاء مع انتفاضتينا السالفتين، لكن ربما يصحّ الانتباه والحذر ولو من باب توقّع النتائج والحصاد.
ثمة الآن قوى داخلية عندكم تحاول ركوب الموجة وقطف الحصاد، وهذا مقدور عليه. إنما ثمة قوى خارجية عاتية تحاول تحويل مسار هذه الثورة، ليصبّ في صالحها ومصالحها. ثمة المعارضة الخشبية بكل تلاوينها ومومياواتها، وثمة الغرب الدنيء بكل جبروته. وأنتم بين هؤلاء وأولئك محصورون. موقفكم ليس بالسهل. وحالكم ليس بالسهل. والعبرة _ كما يُقال _ بالنتائج. الأمور بخواتيمها.
رحيل الرئيس شبه مؤكّد، فقد انتهت صلاحيّته البيولوجية والسياسية : صار خردة. وأمريكا لا تتعامل مع خردة غير مقبولة جماهيرياً. إنها بحاجة لبديل أصغر سناً وأكثر مقبوليّة. هي صاحبة عقيدة البديل، فلكل شيء عندها بديل. لذا يظل شعار quot;الشعب يريد إسقاط النظامquot; أوسع وأعمق وأشمل من شعار quot;الشعب يريد إسقاط الرئيسquot;. فما الرئيس سوى رأس النظام، والرأس لديه جسم وأطراف وحزب ومؤسسات بحاجة ماسة للتغيير. ولا يعني أنه سقط أو تنحّى أو سُحبت صلاحياته واُعطيت لنائبه، أنّ النظام انتهى.
إنكم أدرى بهذا النظام، ذي الثلاثين سنة عُمراً. لقد تحوّل إلى إخطبوط. ولا بد من تغييره دستورياً وقانونياً كي يليق بألفيّتنا الثالثة.
إنه النظام الذي كرّس ومأسس ثقافة السادة والعبيد. النظام الذي ربط بين السلطة والثروة، في زواج كاثوليكي بدا أبدياً، فأثمر كل هذه المسوخ.
النظام الذي قتل الطبقة الوسطى [حليفة التنوير والتغيير في كل مجتمع بشري]، فقتل روح وعقل
الشعب المصري وقواه الناهضة. نظام الواحد في المئة له تسعة وتسعين في المئة، والتسعة وتسعين في المئة لهم واحد في المئة.
ثمة طبقات وطبقات من الصديد، عليكم إزاحتها، قبل أن تدخلوا العصر الحديث. ميراث رهيب من الظلم والفقر، عليكم أن تضعوا حداً له ثم تطوون صفحته.
ما أشقّ مهمتكم! وأنتم تثورون وسط حيتان. ولكنكم الشعب، والشعب هو سيد إرادته، رغم أمريكا ورغم روبابيكيا الداخل. طبعاً لا يتساوى الطرفان، فأمريكا هي أمريكا. وهي ومعها الغرب كله، تلعب الآن لتبديل رئيسٍ بنائب، على أمل امتصاص الاحتقان. ولكنها الثمرة الفاسدة، فاحذروها.
نحن أجهضتنا أمريكا وإسرائيل. وكل الخشية الآن أن يُفعل معكم ما فُعلَ معنا. فلن تتخلّى هاتان الدولتان عن نظام مبارك الحليف، حتى لو غاب مبارك عن المشهد.

إنني أضع يدي على قلبي منذ اليوم الخامس لثورتكم العظيمة. كل الإشارات والتصريحات والمواقف التي وردت من أمريكا وأوروبا الغربية ليست مطمئنة فما بالك بنعتها بالمبشّرة. ثمة شرّ يُحاك بليل. عمل كثير تحت الطاولة، أخشى ما أخشاه أن يتمّ كما يُخطّط له. أخشى من تغيّر موقف الجيش. أخشى من عودة واستئساد وزارة الداخلية بكل أذرعتها وأقسامها. أخشى وأخشى أن يتغيّر السيناريو في أية لحظة. أما ما لا أخشاه، فهو تعبكم. أنا واثق من أنكم لن تتعبوا حتى لو استمرت ثورتكم شهراً.
واثق، لكنني أبداً أبداً أبداً لا أثق بإسرائيل وأمريكا وحلفائهما داخل مصر.

قلوبنا وأرواحنا معكم. وهذا _ للأسف _ كل ما نستطيع.
ومع ذلك، سنظل متشبثين بكلمة السرّ الخالدة : تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة.
وإذا الشعب يوماً أراد.
وأنتم أردتم.
أنتم صعدتم درب الجلجلة.
وعليكم أن تكملوه.
أما نحن، شعوب هذه المنطقة التعيسة، من خليجٍ لمحيط ف :
نناديكم
نشدّ على أياديكم
نبوس الأرض تحت نعالكم
ونقول نفديكم.
أجل والله ...