لاستاذنا الفيلسوف الراحل الدكتور فؤاد زكريا، كتاب اسمه quot;كم عمر الغضبquot;، كتبه ردا على كتاب المحلل السياسي المعروف الاستاذ محمد حسنين هيكل quot;خريف الغضبquot;، واستعير اليوم هذا العنوان في سياق اخر وغضب غير الغضب الذي ادى في عام 1981 الى مقتل الرئيس المصري انور السادات، ورآه الناس منقولا على شاشات التفاز في خريف ذلك العام، فغضب هذه المرة، غضب من نوع اخر، رغم انه يشترك في غضب الامس الذي تفجر منذ ثلاثين عاما مضت، في شيئين هما، استهداف الرأس الاكبر في النظام سواء في مصر او قبلها في تونس، وانه غضب منقول عبر شاشات المحطات التلفزية، وربما بمشاركة من هذه المحطات في التحفيز والتثوير واضرام النار على المشاعر المشتعلة، وتفترق عن احداث خريف الغضب، سواء في مصر او قبلها في تونس، عن كونها ثورة الشارع او بكلمات اكثر دقة ثورة تعبر عن كافة قوى الشعب ومكوناته وشرائحه، ودون هيمنة او توجيه او تدبير او تحضير من اي تيار او حزب او تنظيم سياسي بعينه، او لون ايديولوجي او مذهبي او طائفي او ديني او جهوي او قبلي من اي نوع، فهي ثورة لها لون قوس قزح، تضم كل الوان الطيف السياسي، يقودها ويتصدر صفوفها شباب من الجيل الذي تربي في ظل هذه الانظمة منذ طفولته ونشأ لا يعرف انظمة غيرها، ولا يرى امامه منذ مولده الا صورة الزعيم الذي خرج عازما على اسقاطه، ورغم انه قضى اعماره تحت وابل الامطار الاعلامية التي تضخها فوق جسمه قنوات الاعلام الرسمي التي تروج للرئيس وحزبه وسياسته وتملأ ذرات الهواء وموجات الضوء والصوت بمدائحه وتحظ هؤلاء الشباب على حبه، الا انه من الواضح ان جهد هذه القنوات والادوات الاعلامية ذهب هباء، بل اكثر من ذلك انه ولد في نفوس هذه الاجيال اثرا عكسيا فقد خرجت هذه الافواج من الاجيال الشابة، مليئة بالحقد والكراهية والاحتقار لهذا الرمز الذي لم تعرف رئيسا ولا رمزا للحكم سواه، ولم تستطع هذه المضخات الاعلامية الرسمية التي تروج للرئيس ان تحجب عن هذه الاجيال الجديدة ان هناك حقوقا مهدورة من طرف الحاكم وبطانته التي استباحت الاملاك العامة، واستاثرت بالسلطة والثروة، واحلت لنفسها ما حرمت منه بقية الشعب، بل استخدمت اجهزة الدولة الامنية في تكميم الافواه وقمع الاصوات المطالبة بالانصاف ووضعت نفسها فوق المحاسبة وفوق القانون واحيانا فوق الاعتبارت الاخلاقية والانسانية التي يامر بها اي عقد اجتماعي يربط بين الحاكم والمحكوم، بل وصل بهؤلاء الرؤساء ان وضعوا المخططات لتوريث السلطة لواحد من اولادهم او اصهارهم باعتبار ان الوطن بالنسبة لهم اصبح دكان بقالة ورثوه عن ابائهم ويورثونه لافراد من عائلاتهم، امتهانا وتحقيرا وتسفيها واعتداء على حق الوطن والمواطن.
لقد حققت جماهير الشعب التونسي التي خرجت تطالب بخروج الرئيس زين الدين بن علي ما طالبت به، وهي الان تستلم مقدراتها وترسم النهج الذي تسير عليه حكومات المستقبل، وبدا واضحا ان جماهير الشعب المصرى قد استلمت زمام المبادرة بيدها وارغمت الرئيس على ان يتخلى عن الحكم مع نهاية فترته الحالية بعد بضعة اشهر، وهي الان موجودة في موقع تملي منه ارادتها وتفرض شروطها على مسار الاحداث ومسار التاريخ، عازمة على ان تكون هي الفاعل الرئيسي فيما ياتي من اعوام، بعد ان صبرت كثيرا على ما لحقها من اذلال ومهانة، وكان السؤال الذي سمعته يطرح من زملاء من تونس مثل الصحفي والمذيع احمد زعبار، ومن مصر مثل الكاتب السياسي محمد عبد الحكم دياب، عند جلوسنا في مقهي لندني، هو كيف بقي شعباهما صابرين على المظالم والقمع والمهانات كل هذه الاعوام الثقيلة الكئيبة الطويلة السوداء، لان عمر الغضب لم يبدا في هذه الايام المحدودة بزمن الانتفاضة في كلا البلدين،
وانما هو غضب عمره عقود من السنين لا عام او عامين، فلماذا نسى الشعب هذه العضلة القوية التي تخيف الحكام ولم يستخدمها الا الان، كيف بقى الغضب مخزونا في القلوب، وبقيت الجماهير في حالة احتقان، وهي ترى العسف والظلم والمهانة دون ان تتحرك لتنصف نفسها من حاكم يفترض انه هو الذي يخدم لديها لا هي التي تتحول بملايينها الكثيرة خدما له، انها مفارقة عجيبة، تستحق ان تكون موضوع دراسة عن كيف ومتى واين وماهي الملابسات والظروف التي تجعل مخزون الغضب يتفجر كالبارود في وجه الحكام الظالمين، لكننا نقول بان يتفجر الغضب متأخرا، في وجه الظلم والفساد والقمع الذي اقترن بحكم الطغاة والطغيان، خير من ان يتفجر رعبا وقهرا في قلوب المواطنين ويقذف بهم الى حتوفهم.
هناك مثل شعبي يقول quot; اقطع الرأس، تتيبس العروق quot; وهذا ما خرجت الجماهير في تونس ومصر لتحقيقه، وهاهي جماهير اخرى في غير هذن البلدين كما راينا في اليمن والسودان والاردن، تخرج لتعلن بداية الانفجار الكبير، وتفتح بوابة التاريخ امام فضاءات الامل والحرية العدل والامان والعيش الكريم باذن الله.