quot;قد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكةquot; (نجيب محفوظ)

ذكر (باولو كويلهو) في إحدى كتاباته فكرة بدت دلالتها واضحة لي الآن، عن الطريقة المتبعة لترويض الأفيال في السيرك، تبدأ الحكاية منذ الصغر، حينما يكون الفيل لا حول له ولا قوة، فيقيده مدربه في شجرة ضخمة بحبل سميك، ومهما يحاول هذا الكائن الضعيف أن يتحرر من قيده، يفشل، ومع التكرار ينهار يائساً ، وتمر الأعوام والحال هو الحال.حينما يكبر الفيل ويصبح كائنا مهيباً، تحركه عصا المدرب في الاستعراض اليومي، لا يفكر مطلقاً في محاولة التحرر من القيد الذي يُربط به في نهاية اليوم، حتى وإن كان مجرد خيطاً رفيعاً في غصن شجرة، فاعتقاده الأكيد الذي ترسخ في وجدانه باستحالة التحرر أصبح هو المسيطر على طريقة تعاطيه مع الحياة من حوله، خاصة إن لم يتغير المدرب طوال سنوات عمره.
كان السؤال الذي تبادر إلى ذهني كلما أقرأ تلك الحكاية، ماذا سيحدث إن قرر الفيل وبشكل عشوائي أن يمزق القيد، ليكتشف فجأة مدى ضعف الخيط الرفيع الذي تخيله نفس القيد السميك في صغره، والأهم أن يكتشف مدى حمقه هو الشخصي فقد أمضى عمره أسير وهم قوة المدرب والقيود...مجرد وهم سيطر عليه طوال حياته، وهو ذلك المخلوق القوي العنيد، ليدرك فجأة عمق فشله الذي استمر لسنوات زادت من قوة المدرب ونظامه المفروض منذ البداية؟...من المؤكد أن النتيجة ستكون مرعبة ، دمار وفوضى وغضب ليس له حدود، السيرك سيتحطم وستتحرر كل الكائنات من وهم السيطرة والقوة الكامنة فقط في مخيلتهم، والأخطر أن ذلك الفيل الذي أدرك فجأة قوته لن يقبل مطلقاً أن يعود إلى نقطة الصفر، ولن يتفاوض ثانية ليقوم بأي استعراض، حتى وإن كان الاستعراض الأخير.وسيمضى قدماً في تحطيم العالم من حوله بقوة فطرية لم تستغل قبل ذلك مطلقاً.ومن المؤكد كذلك أن هناك مدربين آخرين فشلوا في تدريب هذا الفيل طوال عقود سيطرحون وسيلة ما للاستفادة من هذه الغضبة المقدسة، فيعلنوا تضامنهم مع الفيل ، وسيمضون قدماً في التحطيم والفوضى ليحققوا منها أكبر قدر من المكاسب الممكنة ضد المدرب الأول المصدوم من هول ما رأى.
ما حدث ويزال يحدث في مصر، لا يختلف كثيراً عن قصة الفيل والقيد، مصادفة تاريخية جعلت المستحيل ممكن ، جمعت كل خيوط اللعبة في ميدان التحرير، لتتشابك بمنتهى التعقيد بشكل يصعب معه التحليل أو الفهم في ظل حالة الفوضى السياسية والاجتماعية التي اجتاحت المحروسة في أقل من أسبوع.فحرافيش هذا الزمان قد قرروا خوض مغامرة غير محسوبة بالمرة بتحطيم القيود الوهمية، في حالة من الغضب النقي، خرجوا من شقوق العالم الافتراضي ، ومن حارات حقيقية بعيدة عن كل عين ليسدوا عين الشمس، في مشهد لن ينساه الشعب المصري ، الذي أكتشف أنه يستطيع الغضب.
القضية تجاوزت فكرة نظام يرحل أو رئيس يسقط ، فهو منهار بشكل ذاتي منذ عقود ، المشكلة ليست مبارك الفرد الذي إن رحل الأن أو بعد شهور ستتحول مصر إلى جنة الله.ولكن من وجهة نظري، هناك العديد من التساؤلات التي تفرضها علينا الأحداث الراهنة، ففي مجتمع استشرى فيه الفساد حتى النخاع، وانهارت داخله كل سبل الإصلاح، بحيث شكل العفن بنيته التحتية ولأجيال كثيرة اختفت منها إرادة الإصلاح، هل هو قادر على التغير الكلي والشامل، ليتحول في يوم وليلة إلى مجتمع نهضوي متزن ؟!...فمن المؤكد أن النظام الذي نريد إسقاطه ليس فرداً واحداً وإلا سيكون معنى ذلك أننا ما زلنا نفكر بعقلية عبادة الفرد أو الكفر به ليحل محله آخر نعبده كذلك، فحالة العبث السياسي الذي يخوضه الشارع المصري في طرحه لأسماء البدلاء للرئيس مبارك بعد رحيله أو ترحيله ، تشي بفوضى فكرية وثقافية خطيرة.
فإن كان هذا الجيل قد تمكن من سحق القيود وحطم السيرك، لابد ألا ينسى أن هناك أجيال سابقة عليه قد سمحت بسيطرة نظم الفساد والنهب، وشاركت في انهيار كل مشروع ثقافي طموح، فلتحاسبوا تلك الأجيال التي كان من الأشرف لها أن تنتحر بشكل جماعي منذ عقود، فالنظام الذي لابد أن يسقط في هذه الحالة هم الآباء المؤسسين لهذا الانهيار الذي نتجرعه الآن، الذي هاجر مثلاً إلى بلاد النفط وعاد ليؤسس مجتمعات مغلقة تنفي الحرافيش، وتهدم النظم الاجتماعية، لنقف بعد ذلك جميعاً في الشوارع خوفاً من هجوم كاسح ممن نفيناهم خارجنا وعلى حدودنا لأجيال متتابعة.في الوقت الذي ظهرت في فئات أغنياء الحرب والمرتزقة ليملكوا قوت يومنا.الثورة ليست على اليوم بل على أمس أسود طويل كلنا شركاء في صناعته واستقراره.
النظام الذي لابد أن يسقط ، ذلك النظام الأمني الذي أصبح يتحكم في تفكيرنا بشكل أضحى بديهياً، فقد أسس لانفصال بين عناصر المجتمع الواحد، فاللصوص هم هؤلاء الخارجين عن عالمي وحدودي المفترضة التي يقف على أعتابها رجال الأمن يحكمون عالمي كما عالم اللصوص، فكانت مؤامرة غيابهم كاشفة لانهيار العالمين ، ومدى هشاشة مجتمعنا الذي كان يتحرك على قشرة ثلج ، وتكفي نظرة الخوف والريبة التي طلت من عيون المصرين خلال الأيام الماضية حينما يتطلعون في وجه أي غريب، لتؤكد على مدى الاغتراب الذي أصبحنا نعاني منه بين أنفسنا.
الأزمة الأخيرة كشفت عن تردي الوضع السياسي على الساحة المصرية، فالذين تظاهروا في التحرير لم يكونوا جميعاً ذلك الفيل البريء ، ولكن في مجتمع فاسد من الأساس لابد وأن يحتوي الميدان كل عناصر الاستغلال ، من تيارات سياسية فاشلة عاشت طوال عقود على فتات موائد النظام الحاكم ، أو حركات احتجاجية جديدة أغلب رموزها يديرون المعركة من عالم خارجي آخر بعيداً عن أرضنا القاحلة، أو تيارات دينية سياسية متفشية في كل مظاهرنا الاجتماعية، سواء من اجتهد طوال سنوات لعقد صفقات مشبوهة مع الأجهزة الأمنية كالأخوان الذي ظهروا بمشاهد منظمة في التظاهرات الأخيرة، أو من سيطروا على الفكر الاجتماعي كالتيار السلفي وغيرهم، فأضافوا على المشهد عبثية لا تليق بغضب جيل بأكمله على كل شيء، وأصبحوا هم المبرر الحقيقي لبطش سياسي وأمني قد يحقق أهدافه مع الوقت، فالكل مدان يا سادة، وليست طائفة أو فئة بعينها، الشارع الذي كان الملجأ الوحيد المتبقي أمام الحرافيش الجدد، والذي شكل قدرهم في النهاية، أصبح مهدداً هو الآخر بالزوال إن تُرك في يد هؤلاء وأولئك من المنتفعين الذين قبلوا أحذية النظام بالأمس ثم يعلنوا تمردهم عليه اليوم، في ظل الفوضى العارمة التي تملكت من الجميع.ولكي تكتمل عبثية المشهد وانهياره بالكامل يظهر جماعة متطفلون من نجوم الفن والدعوى الدينية التي لم تختلف لفترة طويلة عن الفن، الذي كانوا طوال عقود يعيشون على أمل لحظة يكرمهم فيها أحد رموز الدولة، ليهتفوا أمام معجبيهم وأضواء الكاميرات في مشهد تمثيلي يظهر عليه الافتعال، ولكن طالما سيناريو الفوضى هو السائد فوجودهم طبيعي، وكانوا هم أول من انسحبوا حينما بدأ تصوير مشاهد الأكشن والعنف، الذي للأسف ليس له مخرج يعلن وقف التصوير.
الفوضى ورطت الجميع وتورط فيها الجميع ، لتنكشف مصر على صراع كان كما النار أسفل الرماد، والحطب شعب يعاني من انهياره وفقره واحتياجه والأهم استهلاكه الذي لا ينتهي، فيتحول ميدان التحرير إلى ميدان حربي من يملكه ملك مصر، فبدلاً أن يكون الصراع على إقرار الشرعية وتحويل مصر إلى دولة قانون تتساوى أمامها جميع الأطراف، أصبح الدم وشعب تسلح في الشوارع وكأننا أمام جيش شعبي قادر على التنظيم والانتظام مع التقادم، هما الحلان المتاحان أو الوحيدان في حالة فوضوية لامتناهية .
النظام كلمة ذات دلالة واسعة ومنفتحة على أبعاد اجتماعية وسياسية وثقافية، ركام ضخم من الفتنة النائمة، والفساد الكامن في نفوسنا، والعشوائية الفكرية التي أصبحت نمط حياة، ويستحيل أن يكون هناك سبباً واحداً نلقي عليه كل انهيارنا ، فالكل مذنب وعلى الجميع أن يضع نفسه طواعية على كرسي الاعتراف، على أمل أن يتطهر من خطايا الفوضى والموت، حتى نصبح مؤهلين لجيل جديد قد يقود العالم ببراءة الأطفال وطموح الملائكة.

أكاديمي مصري
[email protected]