تونس مجبرة على أن تشق طريقها الثوري بنفسها، إذ لا يوجد في محيطها المغاربي والعربي الإسلامي نموذج تقيس عليه، أو مثال يمكن لأهل الثورة الاستفادة منه سواء لحل القضايا العالقة أو لتفادي الأخطاء الممكنة، ولهذا يبدو التخبط والصراع السائد منذ 14 يناير 2011، حالا منطقيا لا يعود فقط إلى تناقض المصالح والرؤى والبرامج بين القوى الفاعلة على الساحة، إنما كذلك لما أشير إليه من غياب السيرة الهادية.
مآل الثورات الشعبية خلال التاريخين الحديث والمعاصر مختلف، وعددها قياسا إلى عدد الدول ليست كثيرة، فالثورة الفرنسية التي اندلعت سنة 1789، لم تنتج نظاما ديمقراطيا حقيقيا إلا بعد مائة عام أو يزيد، و الثورة الروسية البولشيفية لسنة 1917 قادت إلى قيام نظام سياسي هو الأكثر انغلاقا وشمولية وقهرا للمواطنين في العالم، أما الثورة الإيرانية لسنة 1979 فقد أفضت إلى إقامة أول دولة ثيوقراطية في العصر الراهن، و لايعتقد أن هذه الثورات جميعها يمكن أن تساعد التونسيين على تحقيق شعاراتهم في الحرية والكرامة والديمقراطية.
ثمة في المحيط المتوسطي لتونس نماذج ثورية خاصة، تبعتها حالات انتقال ديمقراطي متميزة، لكن دولها تظل على أية حال في وضع متأخر في لائحة الدول الديمقراطية الغربية، و هذه الدول هي اسبانيا والبرتغال واليونان التي التحقت جميعها بنادي الأنظمة الديمقراطية أواخر السبيعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي، بعد تخلصها من نير أنظمة ديكتاتورية عتية، إما عبر موت الديكتاتور كما الأمر بالنسبة لإسبانيا، أو عبر مزيج من الانتفاضات العسكرية والمدنية على غرار الحالتين البرتغالية واليونانية.
و تتسم هذه الدول الأوربية جميعها، على الرغم من تشابه المستوى المعيشي لمواطنيها مع التونسيين ساعة الانتقال إلى الديمقراطية، فهذه الدول كانت آخر دول أوربا الغربية التي ظلت خارج النادي الديمقراطي، وقد وجد ديمقراطيوها سندا كبيرا من قبل أشقائهم في الغرب، فضلا عن كونها دولا قومية وعلمانية، لا وجود لإشكالية الهوية فيها، و لا خلاف بين قواها السياسية حول مرجعية المجتمع و الدولة أو كيفية التعامل مع النظام الذي ساد في المراحل السابقة.
و في أواخر الثمانينات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، شهدت دول أوربا الشرقية التي كانت تسير في ركاب المنظومة السوفياتية، حالات ثورية فككت خلالها الأنظمة الشيوعية لتحل محلها أنظمة تعددية ديمقراطية، غير أن ما ميز هذه الثورات هو الإشراف الغربي عليها من جهة، بالإضافة إلى حدوثها مجتمعة أو متواترة في التاريخ والجغرافيا، مما جعل بعضها يرفد بعضا، وبعضها يقيس على بعض، ولم تنجح الأنظمة الجديدة في أوربا الغربية في تحقيق آمال شعوبها في قدر من الاستقرار والرفاهية، إلا عندما قرر الاتحاد الأوربي ضمها إليه، و تنفيذ خطة استثمارية انقاذية على أراضيها، لم تشهد لها أوربا مثيلا منذ خطة مارشال الأمريكية التي ساعدت الحلفاء الأوربيين بعد الحرب العالمية الثانية، لتعيد بناء نفسها وتقف في وجه المارد الشيوعي المتحفز آنئذ.
و في مطلع القرن الحادي والعشرين، عرفت دول سوفياتية سابقة موجات احتجاجية شعبية، عرفت تحت مصطلح quot;الثورات البرتقاليةquot;، بدأت في أوكرانيا، و انتقلت إلى جورجيا، قبل أن تضرب مؤخرا في وسط آسيا، وتحديدا في قرغيزيا، حيث تمكن الثوار من طرد حاكم طاغ، لكن مآلات هذه الثورات لم تستقر على حال بعد، ففي حين عرفت أوكرانيا تداولا على السلطة مع بقاء الأزمة الاقتصادية محتدمة، استبد قائد الثورة الجورجية ساكاشفيلي بالسلطة ليقيم بدوره نظاما استبداديا، أشد ربما من ذلك الذي أقامه سلفه شيفرنادزه، و تبقى الاحتمالات في قرغيزيا مفتوحة إلى اليوم على الاحتمالات كافة، بما في ذلك احتمال تفكك الدولة من أصلها.
و يفضل بعض خبراء الانتقال الديمقراطي أن يستهدي التونسيون بنماذج من أمريكا اللاتينية، حيث يبدو الواقع الاجتماعي والاقتصادي والمستوى المعيشي الأقرب نظريا إلى تونس، خصوصا مع وجود كنيسة كاثوليكية قوية وتيار محافظ مشدود إلى القيم الدينية المسيحية، يشبه في معالمه الكبرى وجود تيار إسلامي قوي في الساحة التونسية، غير أن المثال الأمريكي اللاتيني يظل في رأيي مختلفا، سواء من جهة وجود تحولات سياسية متزامنة في أمريكا اللاتينية تسند بعضها بعضا، أو عدم وجود أنظمة ملكية أو أي تباين صارخ بين دول المنطقة على مستوى الدخل القومي ومستوى معيشة السكان، أو كذلك من جهة وجود تيار يساري ديمقراطي مستعد للتوافق و التشارك مع القوى البورجوازية واليمينية المؤمنة بالديمقراطية.
و ثمة إلى جانب هذه الحالات، حالات ثورية أخرى، تمكنت فيها شعوب من طرد حكام شموليين أو طغاة وديكتاتوريين، مثلما جرى في الفلبين التي طرد شعبها ماركوس أو هايتي التي فر منها دوفالييه خوفا من سخط مواطنيه عليه، لكن الشعبين الفليبيني والهايتيي لم يظفرا رغم إقامة أنظمة ديمقراطية أو شبه ديمقراطية، بحياة أفضل بعد التغيير، إلى حد الآن على الأقل.
لقد تفجرت الثورة التونسية، رغم حديث الكثير عن وجود ممهدات و تراكمات على مر السنين، بشكل مفاجئ، و هي ثورة بلا رأس أو قيادة أو برنامج انتقال محدد على الرغم من وضوح وصراحة شعاراتها المرفوعة عند الثوار، و ستكون مجبرة بالتالي على خلق نموذجها الخاص بها في صناعة المصير و تحقيق الأهداف، ومن هنا فقد ثار الجدل و ما يزال بين السياسيين و قادة المجتمع المدني والنقابات حول الصيغة التي يجب أن تأخذها المرحلة الانتقالية.
كما تثور أسئلة حادة في وجه الثورة التونسية، تجاه الموقف من دول الجوار المحكومة بأنظمة غير ديمقراطية، و ما إذا كانت هذه الثورة ستكون الحلقة الأولى في سلسلة ثورات مشابهة ستجتاح العالم العربي و تنهي مرحلة الأنظمة الشمولية والمهترئة الحاكمة فيه، أم أنها ستخضع لشروط هجوم مضاد ستقوده هذه الأنظمة وستفرض من خلاله على تونس وضعا دفاعيا، كما هو شأن الحالة العراقية، على الرغم من اختلاف طبيعة الحدثين وطريقة إنهاء حكمي الرئيسين صدام وبن علي، بين التدخل العسكري الخارجي و الانتفاضة الشعبية الداخلية.
و يظل السؤال الأكثر إحراجا و إلحاحا وخطورة، الذي تواجهه الثورة التونسية، هو سؤال النظام السياسي البديل، والآليات التي سيجري اعتمادها في الإجابة عليه، ففي تونس لم تتمكن النخب السياسية والثقافية على الرغم من مرور ما يزيد عن نصف قرن من الاستقلال، من الاتفاق في الحدود الدنيا على حل عقد ثنائيات مزمنة من قبيل الإسلام والعلمانية، و الوطنية والقومية، و الهوية والحداثة، و الاشتراكية والرأسمالية..إلخ.
هناك في تونس اليوم اتفاق عام أو شبه إجماع على أن يكون النظام البديل هو نظام يحقق للتونسيين أشواقهم في الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية الجهوية المتوازنة، لكن اختلافات كثيرة لا تحصى ستظهر لهم كمارد وهم يتجهون أكثر فأكثر نحو التفاصيل..والشياطين عادة ما تكمن في التفاصيل..أرجو أن تنتصر الملائكة في أرض الخضراء حتى لا تتحول إلى سوداء مثلما عيرها أو ربما تمنى لها بعض جيرانها الطرزانيين..

كاتب تونسي