في الرابع عشر من يناير لم يسقط زين العابدين بن علي الرئيس الذي حكم تونس لثلاث وعشرين سنة وحسب، بل سقطت أيضاً نظرية سادت المنطقة العربية منذ بدايات مرحلة الاستقلال. وهي التي قامت على مبدأ مقايضة الحرية والعدالة بالأمن والاستقرار. وهي نظرية ترتكز على قاعدة اقتصادية وسياسية تستهدف في جوهرها تمكين المصالح الدولية من السيطرة على منابع النفط وطرقه، وخلق أنظمة ريعية يتم تداول السلطة فيها بسلسلة انقلابات عسكرية أو انقلابات قصور تستهدف محاصرة التحركات الشعبية بسرقة شعاراتها وطموحاتها، ومطبقة شعاراً يتكرس كل يوم: النفط مقابل القمع والفساد.
اعتمد هذا النموذج على فئات اجتماعية شرهة أفسدت أي محاولات جادة لتبني نماذج تنموية بما فيها سد الطريق على نمو رأسمالية وطنية قد تُفسح في المجال أمام تطور طبقة متوسطة طموحة، وربما طبقة عمالية تؤدي كلتاهما إلى تطوير مؤسسات المجتمع المدني الرديفة..
هذه هي الصورة العامة الشائكة في المنطقة العربية مع وجود استثناءات قليلة هنا وهناك، وتكييف نسبي للأوضاع مع اتساع وسائل الاتصالات وخضوع عالمنا العربي لمنطق العولمة الجديد..
تونس هي أحد هذه الاستثناءات، وأهمها على الإطلاق، وربما يعود الفضل في ذلك إلى quot;ليبراليةquot; وواقعية الحبيب بورقيبة الذي ورث عن حقبة النضال من أجل الاستقلال العديد من الهياكل السياسية والاجتماعية الفاعلة كنقابات العمال وجمعيات النفع العام. وكان إصرار بورقيبة على الاعتناء بتربية الكوادر وتأهيلها، وتشجيعه انخراط المرأة إيجابيا في الخضم السياسي والنقابي والاجتماعي هو الذي أعطى تونس تميزين أساسيين: الأول تشكل الطبقة المتوسطة واستمرار تطورها بشكل متواصل، والثاني ضبط الحركة السياسية والاجتماعية في أطر دستورية. هذا الإيقاع الخلاب هو الذي منح تونس قدرا من الاستقرار السياسي والاقتصادي رغم شحة موارد البلد الاقتصادية.
إن إمعان بن علي في الفساد والتسلط هو الذي أخل بالاستقرار، ومن ثم توسع البطالة وتضييق هامش الحركة السياسية إلى الصفر تقريبا.

إذن تونس أسقطت هذه النظرية وذلك النظام المتعيّش عليها بأسلوب ربما سنحتاج إلى وقت طويل لاستخلاص الدروس المهمة منه. لم يسقط الرئيس المخلوع بولاية فقيه كما حدث في إيران، أو بدعم غربي خلال تداعيات تفكك الاتحاد السوفياتي كما حدث في بولندا ورومانيا، بل بتحرك شعبي استمد أساليبه من التجربة التونسية ذاتها، ومن ديناميكية الطبقة المتوسطة التي مكّنها تأهيلها المعرفي ووعيها المؤسساتي من تسخير ثورة الاتصالات والمدى غير المحدود للإعلام الجديد لصالحها..
لم تكن هناك رايات سوداء خمينية، ولا رايات حمراء بلشفية، وإن وجد أنصارهما، بل كان هناك حشد شعبي يتماسك تنظيمه كل يوم متسلحا بالنشيد الوطني وعلم الاستقلال. لم تكن ثورة الذكور بل ثورة الشعب بأسره وفي طليعتهم النساء..
ثورة تونس لم تنطلق من فراغ، بل كما قلت هي حصيلة مجتمع مدني متطور منذ صراعه من أجل الاستقلال وبقيادة طبقة اجتماعية واعية تشكلت جزئيا في وعاء التجربة البورقيبية عبر مبدأ الوحدة والصراع. وقد سكن هذا الوعي الاجتماعي السياسي تحت جلد النظام ومؤسساته ثم انبثق في اللحظة التاريخية المناسبة، وقارعها في الشارع..
تونس لا تشبه غربها المتعسكر حول المؤسسة العسكرية التي تنظّم النهب، ولا شرقها الموبوء بنرجسية الزعيم الموهوب في ليّ عنق المنطق والتاريخ والعاجز عن فهم قيم الحرية والعدالة، ولا حتى مصره وعراقه الغارقين في نمط الاستبداد الآسيوي. أما خليجه فحدث ولا حرج.
هروب بن علي وسقوطه وإن دلّ على سقوط النظرية السيئة الصيت لكنه لا يعني سقوط نظامه. فنظامه ما زال مسلحا بترسانة الثورة المضادة. ميليشيات مدعومة من جيرانها تفتعل الفوضى وترسانة قوانين بن علي التي فصِّلت خلال عقدين على مقاسه. وفلولquot; الطرابلسيةquot; المتحالفة مع المافيات المغاربية شرقا وغربا، وطابوره الخامس المتمثل في ذوي الياقات البيضاء من رجال عهده البيروقراطيين الذين يظهرون بربطات عنقهم الملونة على الشاشات يعدون بالتغيير. والجيش.. آه من الجيش إذا غدر!!!
ملامح الثورة المضادة لا تخطئها العين في الشارع وفي أروقة الدولة وفي ثكنات العسكر المتطلعين للبيان الأول. إن التحذير من خطر الثورة المضادة لا يعني الدعوة إلى إغراق تونس في حمامات الدم، وهي ليست دعوة للثأر كذلك، بل هي ببساطة تفكير بصوت عال في التحدي الكبير والخطير الذي يواجهه قادة المجتمع المدني ومؤسساته الذين فرضوا حتى الآن شرعية الشارع، والسؤال الآن كيف تُحصَّن هذه الشرعية حتى الانتخابات القادمة وإقرار دستور جديد.
لا يمكن تحصين الشارع إلا عبر خلق مؤسسات ظل موازية لمخلفات بن علي تكون قادرة على استلام السلطة إذا تعاظم خطر الثورة المضادة..
لا أحد يمكن أن يعطي درسا للتونسيين في إدارة عجلة ثورتهم المستمرة لكن لا بأس من قرع الأجراس.

محمود شمام رئيس تحرير الطبعة العربية من فورن بوليس