في القرية حيث ترعرعت، قيل لي أن جموعا من الجماهير هاجمت مقر حزب التجمع الدستوري الديمقراطي ndash; الحاكم سابقا-، وقامت بالاستيلاء عليه ثم إتلاف محتوياته وحرقها، و رأيي أن عددا كبيرا من المهاجمين لم يكن مقصده من المشاركة في quot;هذه العملية الفدائيةquot; سوى القضاء على الأرشيف و إعدام أي أثر لوجود إسمه في سجلات الحزب المحلية.
و لعل هذه الجموع قد نسيت ربما أن للحزب أرشيفا وطنيا في مقره المركزي بتونس العاصمة، لا بد أن يحفظ للذاكرة الوطنية، يحمل كما صرح مرة أحد أمنائه العامين ما يفوق مليونين و مائة وثمانين ألف إسم، أي نحو 55 بالمائة من المسجلين في القوائم الانتخابية ممن يحق لهم الانتخاب، ومن هذين المليونين ونيف، لن يبقى من المخلصين سوى بضع مئات أو آلاف على أقصى تقدير.
تحدثت مؤخرا مع أحد الجيران، وكان عضوا بارزا في الخلية المحلية للحزب الحاكم سابقا ndash; الشعبة كما تسمى في تونس-، فلم أجد قدرة على مناقشته لشدة ثوريته وحماسته للشعارات المرفوعة حاليا من قبل من تسلم زمام الثورة من مفجريها الأصليين، ولم أجد وسيلة لفرملة اندفاعه إلا إخباره بأن الأمور لم ترس على بر إلى حد الآن، و أن عليه أن لا يبالغ في حماسته الثورية حتى يستبد الثوار بالحكم و يتحدد خطابهم السياسي الحقيقي، و ما إذا كان سيصبح إسلاميا نهضويا أو شيوعيا عماليا، فتونس اليوم مفتوحة على كافة الخيارات.
و ثمة من أقاربي من كان يخشى حتى مجرد زيارة بيتنا لأنه كان quot;بيت معارضينquot; مغضوب عليهم، ولم أسمع أنه نبس ببنت شفة في مواجهة النظام طيلة ربع قرن، غير أنني سمعته وقرأت تعليقه على بعض كتاباتي، متهما إياي بموالاة الرئيس بن علي سابقا و التخطيط للانضمام للثوريين حاليا..ومازحت بعدها والدي وشقيقي، وكلاهما اعتقل في عهد الرئيس السابق، قائلا أنه لن يبقى في ما يبدو من المخلصين لبن علي quot; إلا أنا وأنتquot;، على الرغم من أنني لم أنتم يوما للتجمع و لا فكرت في ذلك، و قد بقيت نظرة النظام التونسي لي نظرة quot;المغضوب عليهquot; أو على الأقل نظرة متحفظة وسلبية بشهادة رموزه وقادته، الذين لم تكنسهم الثورة بعد، ولعلهم يشهدون إن لم يلتحقوا طبعا بركب الثائرين المظفرين.
من الثوار الجدد، وهو يا للروعة من أقاربي أيضا، من يكتب إلى اليوم رغم quot;الحريةquot; تحت إسم مستعار، وقد صب بدوره جام غضبه الثوري متأخرا جدا على مقال تحليلي كتبته بمناسبة 23 سنة على مرور حكم الرئيس بن علي، و قلت ما خلاصته أن التاريخ الوطني سيذكر فترة حكمه في مجملها بخير رغم كافة الملاحظات التي يمكن أن تبدى على إدارته للمجالين السياسي والإعلامي، وما أزال متمسكا بهذا الرأي إلى اليوم، و تقديري أن قراءة التاريخ بموضوعية تتطلب الهدوء و البعد عن التعصب و نكران الذات والأحكام المسبقة، وهذه أمور لن تتحقق قريبا بل تلزمها سنوات حتى تستقيم.
بمشاهدتي للتلفزيون و متابعتي اليومية لما ينشر في الصحف والمواقع الالكترونية التونسية، وجدت أن عدد الثوريين المعارضين الصناديد لنظام الرئيس بن علي كانوا ndash; و أنا جاهل مغمض عيني على هذه الحقيقة التاريخية مدة تزيد عن عشرين عاما- عشرة ملايين و أربعمائة ألف ونيف، و لم يكن من مناصري الرئيس السابق في مواجهة هذا الشعب بأكمله إلا أنا ووالدي وربما كان معنا بعض أعضاء الديوان السياسي.
و عندما كتبت قريبا مقالا عن ضرورة أن تمنح فرصة للحزب الحاكم السابق لإعادة بناء نفسه على أسس ديمقراطية، علق أحدهم يعيرني بالانتهازية والوصولية و يخبرني بأنني أراهن على الجواد الخاسر، ولست أدري أيهما الأصح في كلامه، فإن كنت انتهازيا فليس من طبع الانتهازيين الرهان على الأحصنة الخاسرة، بل إن من أهم مواصفات هؤلاء أنهم ينتظرون حتى يتبين لهم الحصان الأبيض من الحصان الأسود، من الرابح فيمتطون صهوته، و قد كان حريا بي الانتماء للتجمع زمن كان يحرز مائة بالمائة من أصوات الناخبين، من بينهم بكل تأكيد صوت صاحب التعليق، وليس اليوم، ولكنني لم أفعل بل لقد حرمت شخصيا من نيل بطاقة انتخابية طيلة العهد السعيد، ولم أشرف ولو مرة واحدة بانتخاب سيادته.
اليوم أشاهد مثقفين وفنانين تونسيين، بل رياضيين، كانوا بالأمس يشعرونني بالتقزز و الاشمئزاز من كثرة إشادتهم بالإنجازات و المكاسب و حكمة سيادة الرئيس التي توجه الأجنة في أرحام أمهاتها و البذور في بطن الأرض العميقة و الطيور في السماء الشاسعة السابعة، في مقدمة عظماء الثوار، فيما أعجز شخصيا عن مجاراة quot;الجمهور عايز كدهquot;، لا لسبب إلا لتمسكي المرضي بالموضوعية، فالكل يعرف أنني كنت معارضا حمائميا، و اعترف أنني لم أقتنع بأن أكون معارضا شرسا لنظام الرئيس بن علي، بل لقد تمسكت منذ بدأت أكتب بنفس المنهج النقدي الهادئ واللغة المحترمة، سواء في مخاطبة السلطان ناصحا، أو في تأييد المناضل متضامنا، ولكن ثوريتنا في المساندة أو المعارضة لا تقبل فيما يبدو الهدوء والرصانة.
لا أرى في مراجعة الأفكار و الآراء ما يعيب الرجال، بل إن هذه الخصلة الحميدة لا يملك إلا الشجعان ممارستها، و مع ذلك فإنني أقول وبكل تواضع، أنني من أكثر من التزم المنهج نفسه تقريبا لما يزيد عن العشرين عاما، وتحديدا منذ انتميت في سني المراهقة لحركة النهضة، التي غادرتها في بداية منفاي القسري سنة 1991، و قد بقيت لاحقا مستقلا سياسيا، ومثقفا ليبراليا ديمقراطيا فكريا، وقريبا من الرؤية البورقيبية في مستوى المسألة الوطنية التونسية، وهكذا كنت ولا أزال كتابة وتلفزيونا و من على كافة منابر الحوار الممكنة.
ثم إنني لست مهتما بهذه التصنيفات كثيرا، فمن ارتقى بعقله وفكره ووجدانه و انفتح على ثقافات العالم وأديان الإنسانية، و منحه الله قلبا لا يملك قدرة على الحقد والكراهية و محبة للبشر على اختلاف ألوانهم وألسنتهم، يصبح قابلا كل صورة، يدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب دينه وإيمانه، و أحسب أن التونسيين اليوم في أمس الحاجة إلى هذه المساحات الوسطى المترفعة لإعادة بناء ذاتيتهم و دولتهم و نظامهم السياسي والقيمي.
من الجزيرة السوداء تنعق الغربان، و هي أشبه ما يكون بالكواسر لا تحوم إلا حول الأجساد الدامية لتطفئ ضمأها إلى الحروب والفتن، وتروي عطشها إلى الأزمات والخلافات..وإنها لربما وجدت عونا في تحقيق غاياتها من جيران لا ينظرون بغبطة للتحولات الجارية في بلاد الياسمين..وأخشى ما أخشاه على تونس من تطرف المتطرفين ومزايدة المزايدين، يصبون الزيت فوق نار الثورة، فتأكل أبناءها و تنتج خلاف المراد منها..وفي تاريخ تونس أكثر من فرصة ضيعها الشعب على نفسه عندما تضافرت جهود عتاة اليسار و الأصولية والنقابيين، ليجدوا أنفسهم أمام جنرال لا يقدس الحوار السياسي كثيرا، ويحتقر السياسيين والمثقفين.
نحن شعب ال99 بالمائة في التأييد و المعارضة، و مجتمعات يصح عليها توصيف القرءان الكريم quot;كلما جاءت أمة لعنت أختهاquot;، و أمم الحكام القديسين و المعارضين أولياء الله الصالحين والحقائق المطلقة يمينا ويسارا و لدى الإسلاميين والعلمانيين..وحتى الديمقراطية عندنا بدل أن تنطلق من مفاهيم النسبية و ثقافة الحوار والتعددية، فإنها تصبح مطية لزرع مشاعر الحقد والانتقام..فهل تفلت تونس من حكم سربها و ترصد غباء أو أنانية بعض أبنائها.

كاتب تونسي