لا توجد احداث تدافع عن الحجج التي سقناها في نقد اللبرالية وسياسة الدول الغربية والمعجبين بها من اللبراليين العرب أكثر مضاءا مما رأيناه ونراه كل يوم على الساحة العربية، في تونس ومصر على وجه التحديد. وحتى يتاح لهذا الموضوع أن ينشر، يكون الوضع قد تغيير كثيرا لصالح الحرية والمزيد من الديمقراطية في هاتين الدولتين، أقلها على المدى البعيد، وحتى في تلك الدول التي ستبقى بمنجى عن تحول دراماتيكي منظور وفوري، فإن نشوء وضع جديد يحسب فيه الحكام الف حساب لغضب الجماهير ونفاذ صبرها قد بدأ وتعزز وسوف يؤتي اُكله قريبا، وقد كشف هذا عن حقيقة كيف أن الانظمة اللبرالية تلهث للحاق بالاحداث بطريقة معيبة تشكك في معايير استنتاجاتها.
بعد الاحداث تزايدت الدعوات بين المحللين المتخصصين في اروبا إلى اعادة نظر شاملة في سياسة دولهم تجاه المنطقة وانظمة الطغيان فيها، بل انها تجرأت ومست المحظورات: ايقاف الاستيطان الاسرائيلي وحل الصراع الفلسطيني / العربي مع اسرائيل بتمكين الشعب الفلسطيني من اقامة دولته على الاراضي التي احتلت في حرب1967 والانسحاب من الاراضي العربية المحتلة، وهي امور لم يجد محللون لدينا انها شكلت سببا في نشوء التطرف واقصت القوى المعتدلة وقوضت كل فرص لنشوء اسلام معتدل.
التعويل على صبر الشعوب والاستخفاف بإمكانياتها ليس جديدا، نذكّر القارئ أن الادارة الأمريكية قد اعتمدت في آب 1978 ـ أي قبل ستة اشهر من سقوط الشاه ـ تحليلا تقدمت به وكالة المخابرات المركزية تقول فيه quot;أن ايران ليست في وضع ثورة ولا في وضع ما قبل الثورةquot;! ldquo;Iran is not in a revolutionary or even a pre-revolutionary situationrdquo;.
ثم ما لبثت الولايات المتحدة لمرة أخرى أن استمعت الى رأي مستشارين سيئين حين خططت لغزو العراق صوروا لها أن الارض ستكون مفروشة بالورود امام الجنود الامريكان، لأن قادة في الادارة يصغون لما يحبون سماعه.
و حين تأتي الريح بما لا تشتهي السفن، تتسارع القوى الكبرى على عجل لتلفيق بديل مرغوب فيه بدلا من بديل حقيقي يخرج من رحم معاناة الشعب أو انتفاضة الجماهير ولمرة آخرى تأخذ هذه القوى، ليس مصالح الشعب المنتفض، ليس الجوع والبطالة والفساد المستشري والقمع، بنظر الاعتبار، انما المصالح الستراتيجية لأنظمتها وموازين الصراع في المنطقة دون أن يصار في الوقت المناسب وقبل فوات الاوان إلى ممارسة ضغط على حليفهم من أجل اعطاء فسحة من الحريات ومكافحة الفساد والبطالة ومن اجل مزيد من الخبز للشعب ولو كفتات مقتطع من الرغيف الكبير للقطط السمان وهي مطالب ليست بالتعجيزية على أية حال.
لقد باتت المنطقة على مفترق طريق وقد طرحت الجماهير الواسعة التغيير الجذري ولكن المحاذير الحقيقية لا تأتي من تولي اسلاميين متطرفين السلطة بقدر ما تأتي من المبالغة في خطورتهم ودعم بديل غير شعبي وقمعي لتبدأ الدورة من جديد: سلطات فاسدة وقمعية تبرر وجودها امام الغرب بكونها تقف سدا منيعا بوجه الاسلاميين.
لقد ساهمت وجهات نظر اللبراليين العقائديين في بقاء انظمة الطغيان اطول واطول لانهم كانوا ينظرون الى موقع النظام في الستراتيجية الدولية وليس موقفه من شعبه. ولم يؤيد بعضهم ثورة تونس ومصر الا بعد ان اصبحت امرا واقعا حيث لم يكن امامهم خيار آخر. ويميل العقائديون بمختلف اشكالهم الى التجريدات ويجعلون النظام مقابل الانسان وله الاولوية في حسابات باردة تجعلهم اقرب الى الروبوتات.
كان أحد الثوريين الروس قد كتب عشية ثورة شباط/ فبراير الروسية أن الكاديت انفسهم ( وهم من غلاة الرجعيين الروس ومناصرون للقيصرية ) قد تحولوا الى ثوريين في عشية وضحاها بعد أن اصبحت الثورة امرا واقعا. وها هم لبراليونا يقدمون الان النصائح للثوار بدلا من يقدمونها قبل احتدام الوضع الى دول الغرب التي رعت الانظمة البالية طويلا والتي تولي امور سياستها الخارجية مستشارون يتوفرون على كل شيء الا الذكاء ولا يعرف أحدهم الوضع الثوري والوضع ما قبل الثوري حتى حين باتت الثورة تدق الابواب وحتى يكون الاوان قد فات على اي تحول سلس وسلمي للسلطة مع كل الاحتمالات الواردة بتولي متطرفين معادين للغرب او اسلاميين متطرفين السلطة، عدا ما يرافقه في العادة من تخريب وسفك للدماء.
و سيصار في هذه البلدان مرة اخرى الى حل متعجل بتلفيق قيادة جديدة لتقف في وجه الاسلاميين كما حصل عشية الثورة الايرانية تلفيق مشابه للوقوف في وجه احتمالات تولي قوى يسارية السلطة فيها وتوسيع نفوذ الاتحاد السوفييتي.

تناولان
و هكذا فقد كان، على هامش تسارع الاحداث، ثمة تناولان لقضية اللبرالية: الاول يحللها وينقد بعض جوانبها اعتمادا على مبادئها المعلنة، أي من داخلها، دون أن يعاديها، وآخر يتعبد في محرابها ولا يرى فيها اية هنة أو عيب ويرى نفسه ملزما بالدفاع عن كل شاردة وواردة في سياق النقود التي تقدم بحقها.
كنت ارى وفي العشرات من مقالاتي ان الانظمة اللبرالية هي افضل مثال ملموس للانظمة الحديثة وفيها الكثير مما يجعلها قدوة تحتذى وخصوصا في مجال الحريات والتداولية وهذا ما يفسر قولي:quot; نقد بعض جوانبها دون معاداتهاquot; والتي سادت روح مقالاتي جميعها.
وعليه فإنني اجد انه من قبيل تضييع الوقت أن يقوم البعض بسياقة امثلة محدودة ومعزولة عن الموقف الذي يقفه اسلاميون متطرفون في اوربا يحرضون ضد مجتمعاتها ويصفونهم بالكفار لتبرير العقوبات الجماعية والموقف المتحيز ضد الاجانب. هذا الموقف المستهجن الذي يعرفه القاصي والداني لا يحتاج الى اي تكرار أو اعادة ولا يخدم هذا سوى التصعيد والتأليب غير الموضوعي والعاطفي من اجل كسب رخيص.
هذا جانب من الموضوع فقط أو أحد وجوهه أي الاعجاب بالديمقراطية اللبرالية اجمالا، أما الوجه الاخر فقد كان نقديا ويجب أن يكون بالضرورة. كنت قد ارسلت موضوعا الى ايلاف يحذر من مغبة الوقوع في عشق اللبرالية عن طريق تحويلها الى عقيدة كما حصل مع متحمسين للاشتراكية والاتحاد السوفييتي تأخر نشره، جاء اثناءها موضوع الدكتور خليل حسن الذي يورد فيه تحذير ساركوزي من تحويل سياسة السوق الى عقيدة.

خطوة الى الوراء
في الثامن من شباط عام 2005 كنت قد أعدت نشر موضوع عنوانه quot;الديمقراطية اللبرالية وتيارات الفكر السياسي العراقي المعاصرquot; في أحد المواقع الألكترونية. وكان الموضوع قد نشر قبلها في ايلاف في وقت لم استطع تحديده ربما يكون في اواخر عام 2004 أشرت فيه إلى ما يلي:
quot;إن الصيغة الحالية للديمقراطية اللبرالية هي ليست الشكل النهائي ( لها ) وانها في حالة مستمرة من التطور والتكامل. ويعتمد تطورها اللاحق ووجهته على فاعلية القوى الاجتماعية لجعله أكثر شمولية وانسجاما وتخليصها قدر المستطاع من الاطار الرأسمالي الضيق وباعتبارها مكسبا تحقق نتيجة نضال مختلف طبقات المجتمع الحية على الصعيد العالميquot;
ثم أضيف:
quot;انها ـ أي الديمقراطية اللبرالية ـ كأي منجز بشري لا يخلو من العيوب ولكنه يحمل آلية تصحيح ذاتهquot;.
و دفعا لكل تفسير ملتبس أريد ان اتوقف هنا خصوصا عند العبارة الاخيرة طارحا السؤال التالي: ماذا تعني الصياغة الواردة quot; يحمل آلية تصحيح ذاتهquot;؟
في العلوم الاجتماعية ومنها السياسة لا يعني تصحيح الذات أن هذا الفعل يتم بذاته منفصلا عن الفعل البشري الواعي، بل يعني على وجه التحديد أن التصحيح الذاتي يتم عن طريق تركيبه ثلاثية المراحل هي الوعي ـ الفعل ـ التغيير كما يعني أن عملية التطور تتم عن طريق نقد نواقص الظاهرة والانخراط بوعي ونشاط في تغييرها نحو الأحسن وليس الاستسلام لها، ومن هذا المنطلق سوف نعرف أن أشد اعداء نظام ما هم مادحوه وليس ناقديه.
كان الاتحاد السوفييتي السابق يتوفر على جيش لجب من المدافعين عنه يغطي اصقاع واسعة من جهات العالم الاربع تجاهلت، بل هاجمت كل تلميح سلبي تجاهه حتى ذلك الذي يرد من ابناء البلد والمنشقين عنه ممن يفترض ان يكونوا quot; الاعرف بشعابهquot;. ساهم ذلك في المزيد من العمى عن رؤية الحقيقة لدى قادة هذه الدول حتى قاد، ضمن عوامل أخرى، الى الانهيار المدوي. كانت التعددية الفكرية وحرية التعبير ستكون ضامنة للمزيد من التطور لو اعتمدت وجعلت آلية للنقد والتصحيح.
تستلزم التعددية اللبرالية، لكي تكون حصانة ضد الانغلاق والجمود، ليس تدبيج مقالات المديح والدفاع عنها ضد اخطار، الكثير منها موهومة، يصنعها العنصريون الذين يهددون اللبرالية، بل التحليل الموضوعي للظواهر المرتبطة بالنظام اللبرالي بحلوها ومرها، وهذا ما يفعله العشرات من الكتاب والمراسلين والمحللين في ايلاف وفي العشرات والمئات من المواقع الاوربية كل يوم.
لم يكن القصور في التحليلات الخاصة بالحراك في المنطقة وفي ادراك المتغييرات الحالية في المنطقة العربية وفي اجزاء اخرى من العالم لدى المسئولين الغربيين قائما على الجهل فقط بل على مزيج من الجهل والازدراء والشعور بالاكتفاء الذاتي المرتبط بالتفوق العرقي، كما انه تعبير عن اتكالية وتهاون يعتمد على امكانية الحسم بالقوة اذا اقتضى الامر.
اذا كانت دولة ما تمتلك جيشا لجبا جرارا يستطيع الوصول الى اقصى زوايا الكوكب وكانت مستعدة دائما للتدخل العسكري، فليس ثمة مشكلة حقيقية اذا اخطأ محللوها في تقييم الاوضاع فإن اللجوء الى القوة سيكون متاحا في كل وقت لتصليح الاخطاء.

ْكان الاستفزاز الاكبر الذي تعرض له عقائديو اللبرالية هو ما كشفته وثائق ويكيليكس. وبين السكوت والتحريض ضده، لم أجد أي مجال لتفسير آخر سوى أن هذا الموقع ومسئوله الاول أسانج قد قام بما تمليه عليه المسئولية الاخلاقية في فضح الممارسات الوحشية التي مارستها أطراف عديدة واستخدام العنف بوحشية وبدون مبرر ولكذلك العشرات من التقييمات لدبلوماسيين وشخصيات سياسية بطريقة متغطرسة.
إن زمن المعلوماتية والشفافية قد بدأ يؤتي أوكله في فضح الازداوجية والرياء السياسي وسوف وسوف يُكره كثيرين على مراعاة اكبر لقواعد السلوك والتصرف والتصريحات حيث أن جميع المسئولين باتوا يعرفون الآن انهم تحت المجهر.
إن تكالب اليمين المتطرف المعادي لاسانج ولموقع ويكيليكس واتهامه بالارهاب هو فضيحة لا يمكن التستر عليها تكشف الى اي مدى يصار فيه الى التصرف بالمعلومات من اجل توجيهها لصالح مصالح القوى الكبرى ولا ينتظر المرء من اعلاميين وكتاب سوى الوقوف الى جانب الحرية المطلقة في نقل وتداول المعلومات ودفاعا مهنيا عن اسانج.

اللبرالية والتداولية
و كما ذكرت في مقال سابق، فأن اللبرالية لا معنى لها، بدون تداولية، فالتداولية هي الوسيلة الوحيدة ضدد الشطط والانحراف والتنصل عن تنفيذ الوعود. فحين يكون الحاكم موجودا على سدة الحكم بسبب صوت الناخب، وحين يكون الحاكم عارفا بأنه من الممكن ان ينحى اذا لم يراعِ الناخبين، عندها فقط سيكون ساهرا على تنفيذ المهمات التي وعد بها، ليست كمنة ومكرمة، كما تفعل انظمة الطغيان، وانما كواجب. ولكننا نرى هنا وهنا كتابا quot; ليبراليينquot; يطرون حكم حسني مبارك دون أن يقولوا لنا لماذا بقي في سدة الحكم ثلاثين عاما دون تغيير؟ وبما انهم لن يجيبوا، اجيب انا على السؤال.
إن امثال هؤلاء اللبراليين يفضلون دور مصر الاقليمي في المنطقة على سياستها الداخلية ويرون ما يلي: بما انها تخدم مصالح الغرب فليس مهما مدى قرب نظام الحكم من شعبه، كما ليس مهما انتشار الجوع والتشرد والفساد.
إن الكتاب اللبراليين مطالبون بأن يقولوا عبر وسائل الاعلام للانظمة التي يؤمنون بها بشكل اعمى أن الحريات والديمقراطية يجب ان لا تكون سلعة استهلاك داخلية لشعوب اوربا وquot; العالم الحرquot; وان عالمنا قد اصبح قرية صغيرة وان الاستمرار في دعم انظمة الطغيان سوف ينعكس على بلدانهم، فلا يمكن تأسيس جزر للحرية والديمقراطية وترك بقية انحاء العالم تنوء تحت حكم الطغاة في ظروف العولمة وتزايد التأثير المتبادل.