منير العبيدي

مقدمة

يدخلُ خالد حاملاً علبةَ حلوى فتقولُ له (أمّا الزهرة)
-يعطيك الصحّة يا وليدي... و علاش عييت روحك يا خالد يا بني.. وجهك يكفيناquot;
كان خالد، قبل أن يصبحَ رساماً مشهورا، مقاتلاً في حربِ تحرير الجزائر تحت قيادة (سي الطاهر) و (أمّا الزهرة) هي أمُّ (سي الطاهر)، أحدِ قادة الثورة، و لم ترَ إبنَها منذ زمنٍ طويل و تحملُ في ثناياها شوقاً إليه و تلهفا لسماعِ أخباره و خوفاً على مصيرِه جعلها تستبشرُ لمقدمِ أحدِ رفاقه. أما زوجة (سي طاهر) التي بادرت لفتحِ الباب للطارق، فقد تنحت فوراً تكتم غصتَها و شوقَها لسماع أخبارٍ عن زوجها.
شوقُ الأمهاتِ للأبناء كان معلناً لا يستدعي لوما أو مؤاخذة، شوقُ الزوجاتِ للأزواج كان عيباً ينبغي أن يتوارى.
أرسمُ خطاً أفقيا الآنَ على خارطة العالم بين المكان الذي وُلدْتُ فيهِ و كوّنَ ثقافتي، شرقيَّ العراق، حتى قسنطينة في الجزائر، المكانِ الذي ولدتْ و ترعرعتْ فيهِ (أمّا الزهرة)، (سي الطاهر) و (خالد) و شخصياتُ الرواية، أجد أن المسافةَ أكثرُ من 3500 كيلومترا، رغم ذلك فإن استلام هذه الإشارة التي أطلقتْها (أمّا الزهرة) لم يكن بدون غصةِ تعاطفٍ توسطتِ الصدرَ ترافقتْ مع نفس القدْر من التعاطف مع الخِفر الذي منَعَ لهفةَ الزوجة.
نفس هذه الإشارة الدافئة التي تفوهت بها (أمّا الزهرة) من الممكن أن تقولها أمهاتُنا لمن يحملُ أخباراً عنا: لماذا كلفت نفسك يكفينا ان نراك...
لو رفعنا الخطَّ الذي رسمناه على خارطة العالم بين قسنطينة و شرقيِّ العراق بضعة سنتيمتراتٍ نحو الشمال لكانَ الخطُ يربط بين شرقي كازاخستان و باريس مرورا بأراضٍ روسيّة و لوتوانيّة و بولونيّة و ألمانيّة... لوجدنا ثمة لغاتٍ مختلفةً و ثقافاتٍ متباينة، عندئذ ربما لن يجدَ القارئُ هناك ما يجعله يغص لعبارة (أمّا الزهرة) فيمرّ عليها مرورا عابرا.
على أن ما يهمنا في رواية quot; ذاكرة الجسدquot; ليست تلك المقاربة الجيوـ ثقافية العابرة للمسافات، و ما تنطوي عليه من أمكانية مغرية للدخول في مقاربات سوسيو ـ ثقافية بين الشمال و الجنوب، و انما تهمنا، على وجه التحديد، صورةُ الرسام و ملامحُهُ التي رسمتها أحلام مستغانمي.

صورة الرسام

يقول الرسامُ مخاطبا quot; حبيبته quot;:
quot; فيا خرابي الجميلَ سلاماً. يا وردة البراكين، و يا ياسمينة نبتت على حارئقي سلاما. quot;
quot;يا ابنة الزلازل و الشروخ الأرضية! لقد كان خرابك الأجمل سيدتي، لقد كان خرابك الأفظع. quot;
quot; قتلتِ وطنا بأكمله داخلي، تسللتِ حتى دهاليز ذاكرتي، نسفتِ كلَّ شيءٍ بعود ثقاب واحدٍ فقط quot;
quot; من علّمَك اللعبَ بشظايا الذاكرة؟ أجيبي !quot;
من أين أتيتِ هذه المرة ـ أيضا ـ بكلِّ هذه الأمواج المحرقة من النار. من أين أتيتِ بكلِّ ما تلا ذلك اليوم من دمار؟ quot;
quot;افترقنا إذن...quot;
quot;لم تكوني كاذبةً معي.. و لا كنتِ صادقةً حقا. لا كنتِ عاشقة.. و لا كنتِ خائنةً حقاً. لا كنتِ ابنتي.. و لا كنتِ أمّي حقا. quot;
ثم نجد:
quot; كطفلٍ على حافّة البكاءِ أخبرته أمه أنها ستسافرُ دونَه. و كنت أنتِ تزفّين لي ذلك الخبرَ، بشيءٍ من الساديّة التي أدهشتني. و كأن عذابي يغريك بشيءٍ ما. quot;
quot; هل أمسك بأطراف ثوبك كطفل و أجهش بالبكاء؟ quot;
هكذا تضعُ احلامي مستغانمي على لسان رسامٍ مشهور و مقاتلٍ سابق في جبهة التحرير ما ينبغي أن يقولَه في مناجاة لحبيبةٍ ما احبته. ليس بوسعنا أن نغطي كامل الامثلة لهذا النوع من المناجاة، بل اكتفينا بمقتطفات منها، لأن من يرغب بالإستزادة منها لن يجدَ أمامه إلاّ أن يقرأ كاملَ الكتاب..

لم يكن بوسعي بعد فروغي من الرواية الا ان أتساءل: كيف يمكن لرسامٍ مثل هذا ان يرسم؟

******
الروايةُ بأكملها إذن هي ما يبوح به رسامٌ و مقاتلٌ سابق في حربِ تحرير الجزائر فقد ذراعَهُ في احدى المعارك من لواعج حبٍ و قع فيه لامرأة يلتقيها في افتتاح معرضٍ له أقيم في باريس حيث يقيم. الرواية كُّلها على لسانِه يروي لـ quot; حبيبته quot; ما تعرفُه تماما لأنه جرى بينهما و نحن كقراءٍ نقفُ في الوسط بينه و بينها لكي نسمعَ و quot;نشاهدquot;، و هو الذي التي سيكتشف بُعيد تعرّفه عليها أنها ابنةُ قائدِهِ و رفيقه السابق في حربِ التحرير (سي الطاهر) الذي استشهد في احدى المعارك. و الفرق بين عمرِهِ و عمرِها كبيرٌ، يقول: quot; ربعُ قرنٍ على أولِ لقاءٍ بين رجلٍ كان أنا، و طفلةٍ تلعبُ على ركبتي كانت أنتِquot; ـ ص 99 quot;، فهو الذي كان قد عبرَ الحدودَ إلى تونس حين وُلدت لكي يتعالجَ من جرحه و يوصلَ إلى إمّها الاسمَ الذي تَسَمّت به حسب رغبة ابيها.
و لكن خالد نفسَه الذي اجلَسَها يوماً على ركبتِه و لاعبَها و هي طفلة ثم هام بها لاحقا، سيقول عن الرجل الذي اختارتْ دونَه و تزوّجَت منه إنه: quot; عجّل. يخلع عنها صيغتها دون كثيرٍ من الاهتمام و يركض نحو جسدها بلهفة رجل في الخمسين يضاجع صبية quot; !!. ص 362
تبادل الحب ـ و ليس الحب من طرف واحد على أية حال ـ بين رسامٍ و فتاةٍ تصغره كثيرا ليس بالامر الغريب، فقد أحبَّ بيكاسو نساءً كثيراتٍ اصغرَ منه سنا بكثير، احداهن كانت فرانسوا جيلو التي كتبت عنه فيما بعد كتابا مهما تُرجم إلى العربية تحت عنوان quot;حياتي مع بيكاسو quot;.
أوردت جيلو في الكتاب، ضمن اشياء اخرى، كيف أن بيكاسو انتقد ماتيس، الذي يكبرُه عمراً، لعلاقة حبٍ جمعته بإمرأة شابة! تضيف جيلو بأن بيكاسو لم ينتبه (أو ربما لم يرغب أن ينتبه) إلى أن الفارقَ بين عمرينا، أنا و هو، كحبيبين اكثرُ من الفارق بين عمر ماتيس و حبيبته !
لا تكمن هنا إذن أية غرابة في أن يحبَّ رسامٌ امرأةً صغيرة بعمر ابنته و تبادله الحب و تعيش معه لسنوات كما فعلت فرانسواز جيلو مع بيكاسو و كما يقدم لنا تاريخ الفن من أمثلة. لكن الصبيّة التي احبها خالد لم تُعره، حسبَ كامل مسيرة الرواية، اي انتباه و لا يوجد ما يقول لنا انها قد رضيت بهذا الحب، بل انها كانت، كما دلت الاحداث التي وردت، قد أسلمتْ جسدَها (تزوجت) من شخص لا تحبه ناظرةً إلى موقعة الاداري الرفيع والثراء الذي هبط عليه كما هبط على المقاتلين السابقين في حرب تحرير الجزائر من الذين تحولوا من مواقع الثورة الى مواقع الثروة.
مع ذلك يشعرُ خالد بفارقِ العمر كعيبٍ مسببٍ للهزيمة ازاء صديقه الشاعر الفلسطيني زياد:
quot; كيف يمكن أن أضعَ أمامكِ رجلا يصغرني باثنتي عشرة سنة، و يفوقني حضوراً و اغراء، و أحاول أن أقيس نفسي به أمامك؟quot; (ص203). هنا لا يجد خالد أن موهبتَه، ناهيك عن شخصيته المفترضة، و ليست المرسومة تعسفيا، كافيةٌ لردم فجوة العمر (هذا اذا كان ملزما بأن يفكر بها أصلا)، فيجد أن حضوره و اغراءه يتضاءل أمام حضور مبدع آخر (شاعر) لإعتبارات السن.
و حسب مسار السؤال، الذي جُعِل يسأله، كان عليه أن لا يعرّفها بزياد و يمنع عليها أن ترى شخصا يراه اكثر جاذبية منه، و هو نوعٌ من الشعور بالدونية غير مألوف لدى المبدعين.
بهذا و بغيره من الأمثلة نجد إن ما كتبته مستغانمي على لسانِ الفنان خالد الذي حقق قدرا كبيرا من الشهرة فيما يرويه من حب و هيامٍ، كان نوحا و بكاء و رثاء للذات، غطى القسمَ الأعظمَ من صفحاتِ الرواية. كلُّ ذلك من أجل امرأةٍ لم تحبه بل و جّهت له كلَّ الاشاراتِ على انها امرأة لعوب.
و اذا ما كان مخالفا للمنطق أن نطلب من الرسامين أن يكونوا بدرجة استخفاف بيكاسو بالمرأة و معامتله لها كعنصرٍ مكملٍ لشخصيته الطاغية (يقول بيكاسو: المرأة اما أن تكون ملاكا او ممسحة)، و اذا ما كنا لا نسأل خالدا أن يقطع أذنه من أجلها كما فعل فان كوخ، (قطعُ كوخ لأذنِه ليس سوى تظاهرة قوة ذاتية اكثر مما هي عشقٌ متهالكٌ بكّاء)، فإن من الصعب علينا مع ذلك أن نقبل صورةَ رسامٍ نائح يغطي نوحُه و تجليات هزيمتِه صفحاتٍ و صفحات. فالرسام النرويجي مونغ (1863 ـ 1944) الذي كان يخاف المرأة و لم يكن محظوظا ابدا معها لم يقم بالركوع أمامها بل جعل من إخفاقِه الدائم معها وسيلة لشحذ قوّتَه التعبيريةَ إلى اقصى مدياتها بما جعَلَ من لوحاته صرخةً مكابرة معتزة بعزلتها. و الامثلة على مثل هذا السلوك الإبداعي المعتد بالذات، و الانكفائي اذا لزم الأمر أكثر من وافرة.

فنان مهزوم، سياسي مهزوم

الهزيمةُ السياسية و سرقةُ الثورات هو من الامور الشائعة في البلدان التي سعت إلى التحرر الوطني. كان خالد قد ترك الجزائرَ بعد أن وجدَ انه لا يستطيع ان ينخرطَ في عملياتِ السرقة و النهب و قمع حرية التعبير التي مارسها الابطالُ السابقون في حرب التحرير من الذين جعلوا من انتصار الثورة وسيلة لتحقيق مصالحهم الذاتية و ليس لتحقيق السعادة و الحرية للشعب. و هكذا ترك خالد الجزائر و أقام في فرنسا، بمعنى إنه لم يستطع ان يدافع عن افكاره و عن المبادئ التي نادى بها.
لاشك أن لدى خالد ما يجعلنا نتفهم موقفَة جزئياً. فالنضال من اجل المبادئ و البقاء نظيفا في بلد تميز الوضع فيه بالهشاشة، خرج توا من حرب طويلة ضد مستعمر شرس، يكون فيه المقاتلون ضد المستعمر مستعدين في العادة لتوجيه فوهات بنادقهم إلى رفاقهم حالما يتعلق الامر باقتسام الغنيمة، هو من الامور الصعبة التي قد تجعلنا لا نبرر بل نتفهم هروبه من الساحة. فالنضال السياسي مرتبطٌ بوضع كامل و بعوامل موضوعية معقدة، و قد يجد المرء أن من الأحسن أن يبقي على نفسه نظيفَ اليدين أفضل من أن يخوض معركة خاسرة أو عبيثة على غرار الدون كيشوت.
و لكن الحب أمرٌ آخر تماما، إنه منوط به ـ بنا كليا. فالهزيمة و الهروب في مجال السياسة لا يبرر الهزيمة الذاتية امام امرأة.

حرية الكاتب في رسم ملامح الشخصية
و هكذا نجد أن أحلام مستغانمي قد وجدتْ ان تجعلَ من بطلِها ذليلا رغم أن كاملَ سياقاتِ شخصية الرسامين لا تتناسب مع هذه الصورة ابدا. فلا وجود، بقدر اطلاعي على تاريخ الفن، لأيِّ فنانٍ على غرار هذا الذي أوردت في الرواية في أنه انتحر واضعا صورة حبيبته أمامه. إننا نقصد بالرسام ليس ذاك الذي عاش على هامش الفن و رسم بضع لوحات، انما رسام استطاع أن يثبت و جوده و يكون مشهورا في بلد التشكيل الأول فرنسا. و اذا كان هذا المثالُ موجودا حقاً، و إذا كان الأمرُ يتعلق بمحدودية معرفتي بتاريخ الفن، فإن هذا المثال سيكون لاشك مثالاً منعزلا تماما بالمقارنة مع الأمثلة المضادة السائدة التي هي من الوفرة بحيث تصلح للخروج بانطباعٍ جمعيٍ عن الرسامين و انانيتهم و حبهم لذاتهم و ازدرائهم المعلن لكل انواع العاطفة المائعة.
نظريا يكون المؤلفُ أو المؤلفةُ هم صانعي الشخصيات و أن بوسعهم، نظريا أيضا، أن يخلقوا شخصياتهم كما يشاءون، و لكن ما هو مدى الحرية الذي يستطيع أن يتحرك فيه الكاتب لصنع شخصياته، فلا يكون عندها عرضةً للاهواء و الرغبوية؟
لعل أكبر الصعوباتِ أمامَ كاتبِ الرواية أن يكون حيادياً أمام شخصياته و أن يتركهم يتحركون في نطاق مسلتزمات تكوينهم العامة. لا شك أن هناك استثناءاتٍ و خروجاً عن المألوف. بل أن قسما كبيرا من الابداع يميز نفسَه بخروجه عن المألوف سواءٌ في الأسلوب، في السرد، في رسم الشخصيات أو رسم سلوكها. و اذا ما كان ماركيز قد جعل من بعض شخصيات روايته يطيرون فإنه قد وضع ذلك في حبكة كاملة من السياقات التي تجعلنا نتقبل ذلك.
ففي quot; ليس لدى الكولونيل من يراسله quot; انتظر ماركيز متأزما معتكفا في غرفته قبل أن يستطيع، في نهاية الرواية، أن يميته حسبما روت مرثيدس زوجته، ثم إنه بكى عليه بعد أن أماته. لقد احب ماركيز الكولونيل و لكنه لم يجد مفرا من إماتته لأن مسار الرواية يتطلب ذلك. و سواء في مسار الاحداث أو في ملامح الشخصيات فإن هناك الكثير من التحديدات التي يجد الكاتبُ نفسَه ملزما بها و يجد أن مسار الأحداث يقوده quot; رغما quot; عنه. فلا حب الشخصية و لا كراهيتها يصلحان لجعل الكاتب، كاتب الرواية على وجه الخصوص، في حلٍ من التكوين الذي يراعي الملامح العامة.
على أن اذلال شخصيةٍ ذات خصائص من العناد و الاعتداد بالذات أشد صعوبة من تقبل من طيران شخصيات ماركيز.

الفنانون و سوء التربية !
لم يكن الإعتداد بالذات بل و أحيانا الانانية و حب الذات لدى الرسامين امرا يتعلق بسوء التربية !. إن الامر لا يعدو ان يكون لازمةً لا فكاك منها و شرطا مسبقا للابداع. و عليه سيكون من الصعب تصور فنان مبدع بدون نوع من المشاكسة و العناد.
و اذا ما كان السياسيون الشموليون الذين تناولنا سلوكَهم المعاديَ للابداع و علاقاتِهم الإشكالية مع المبدعين في أكثر من مناسبة، قد رموا المبدعين بكل انواع الشتائم (راجع مثلا ميلان كونديرا في اكثر من موقع و روايته quot;الضحك و النسيانquot; خصوصا) و رسموا لهم شخصية انانية، فليس ذلك من دون أساس. و لكن هدف السياسي الشمولي شيء آخر غير تقويم الأخلاق. إنه لا يرغب بتحليل التكوين الإبداعي و وضع اليد على مسلتزماته و تفهمها، بل إنه يريد أولا:
أن يخلقِ فناناً مذعناً ذليلا يخضع للقرار السياسي و لا يشاكس و يجعل من فنه اداة تعبئة.
ثانيا: مدفوعا بعصابيات العمل السري و انفصام الشخصية مع ما ينطوي عليه من تعظيم للذات، يرفض السياسي الشمولي أي منافسة من قبل أي طرف في مجال العلاقة مع الجماهير و يعتبرها حصته لوحده.
و لكن الشئ نفسه قامت به احلام مستغانمي بطريقة أخرى، خالقةً رساما ينوح و يبكي طيلة صفحات كتاب.
هذا التركيب الذي يتوفر على هذا القدر من الخصائل الانهزامية لا يمكن له أن يرسم او يبدع لانه يفتقر الى سياج الحماية السايكولوجي الذي يتوفر لدى كل مبدع حقيقي ليس بوسعه إلا أن يكون عنيدا مشاكسا. فبدون وجود هذه الأنصال الحادة الجارحة سيفقد المبدع ذاته و روحه وسط هذا البحر المتلاطم من الذين يستهدفونه و سيكون نهبا للشكوكية و الشعور باحتقار الذات و سيتنقل من لوحة لأخرى بأيد مرتجفة و سيعاقر الخمرة و لن ينتج عملا ذا قيمة.
و في نهاية المطاف فإن الصورةَ التي عليها الرسام في رواية حوار الجسد ليست سوى تعبير عن ميل لدى البطلة اللعوب لصناعة شخصٍ متوسلٍ متعلقٍ بأذيال امراة تركله كلما عَنّ لها ذلك.. و سيكون الأمرُ أكثرَ دلالة أن يكون هذا المتوسلُ شخصاً يُفترض أن يكون غيرَ عادي، شخصاً عنيدا، عندئذ سيكون أرضاءُ الذاتِ أكثرَ اشباعاً، فكلما كان المتذللُ قوياً كان ذا طعم رائق.
تقول في صفحة 168 quot; إن اي أمرأة تتعرّف على رسّام، تحلم في سرها أن يخلدها، أن يرسمها هي... لا أن يرسم مدينتها، تماما كما أن أي رجل يتعرف على كاتبة، يتمنى أن تكتب عنه شيئا، و ليس عن شيء آخر... إنها النرجسية.. أو الغرور أو أشياء أخرى لا تفسير لها. quot;
من قبيل المفارقة أن ترد مقارنة خالد من قبل التي أحبها بزوربا إذ تقول له quot; فيك شيء من زوربا. شيء من قامته.. من سمرته.. و شعره الفوضيّ المنسّق. ربما كنت فقط أكثر وسامة منه quot;.
المفارقة أن زوربا كان مثالا للقوة و الموقف الواقعي الفطري و هو لا يمكن ان يكون موضعَ مقارنةٍ مع خالد، فمن الافتعال مقارنتهما حتى بالشكل. فدلالات الشكل متداخلة مع كوامن الشخصية و المقارنة الشكلية في هذا المجال تنطوي على فصل تعسفي انتقائي لمتلازِماتِ الشخصية كما و تظمينٍ اسقاطيٍ يُراد به الضد أي:
quot;انك لا يمكن ان تكون مثل زورباquot;.
بتقصينا دواخلها و تقويلها ما لم تقلْه، نرى انها لو فعلت لكانت، مرة واحدة على الأقل، على حق.

www.munir-alubaidi.de