نشرت ايلاف في عددها الصادر في الثاني و العشرين من هذا الشهر كانون الثاني / ديسمبر تقريرا لمراسلها بو علام غبشي من باريس عكس نقدا شديدا لسياسة الحكومة الفرنسية و وزارة خارجيتها تجاه الثورة التونسية، و قد تجاوز النقد فرنسا و شمل كامل السياسة الاوربية ثم تجاوز مجرد مثال تونس متجاوزا إلى نقد عموم الموقف الاوربي من انظمة الطغيان و منها، بل في مقدمتها، انظمة الطغيان العربية. و في حديثه عن الموقف الفرنسي يصف الكاتب هذا الموقف بأنه quot;لم يخرج، في واقع الأمر..... عن سياق عام ظل يسير وفقه الاتحاد الأوروبي، بحسب العديد من الملاحظين، إذ أن النادي الأوروبي أدار بدوره ظهره لسنوات للمنظمات غير الحكومية سواء منها الفرنسية أو العربية التي ما انفكت تندد بوضعية الحريات وحقوق الإنسان في تونسquot;.
قبل ذلك كان السيد عبد القادر الجنابي قد نشر في نفس الموقع مقالا عن الثورة التونسية عنوانه quot;وهكذا يهوي نظامٌ كتمثالٍ عملاق اُزيحت قاعدتهquot; يقول فيه: quot;ما قام به الشعب التونسي هو أنه قرر أن يكف عن مساعدة نظام؛ أن يصرخ quot;كفىquot;، فهوى بن علي كأي قشة في مزبلة التاريخ، بحيث حتى الذين كانوا يسندونه، كالفرنسيين، ابتعدوا عنه وكأنه مصاب بالجذام. للدكتاتور أيضا لحظة مأساة، حاله حال الآخرينquot;.
السيدان بوعلام غبشي و عبد القادر الجنابي يقيمان في دولة اوربية و ربما في فرنسا، و وفق بعض التعليقات و بموجب بعض الكتابات، فإن في هذا ما يمس الوفاء للدولة المضيفة. المفهوم البدوي للوفاء يرى في النقد و التشخيص اساءة و يرى أن على المُحسَن إليه أن يكون عبدا صامتا مطيعا لمن أحسن اليه مثل quot;جمعةquot; في روبنسون كروزو.
ليس هذا الامر بمنقطع عن جذوره، فقد ربت الاحزاب الشمولية اعضاءها على هذا المفهوم للوفاء، فحسبت على العضو أو العضو السابق نقده لها، فحاربته عليه. و لم تحسب له تضحياته و معاناته في سبيلها. فإذا ما كان عضوٌ أو منتم سابق قد اوفد للدراسة من قبل الحزب، و لكنه عدا ذلك قد سجن او عذب أو مورس ضده أو ضد عائلته تمييز سافر، حسبت عليه من هذا كله ما اعتبرته امتيازا منحته له و ذكرته به اذا ما تململ او نقد، و لم تحسب له تضحياته.
يقول المتنبي مخاطبا الحوادث:
quot;ليت الحوادث باعتني الذي اخذت مني بحلمي الذي اعطت و تجريبي quot;
يرى المتنبي ان الحياة قد اخذت منه الكثير و اعطته التجربة و الحِلْم فيقترح عليها: اعيدي لي ما أخذتِ مني، فأعيد اليك ما اخذتُ انا منك ، الحلم و التجربة.
كان المتنبي يعرف أن الحوادث لن تعيد له شيئا و لن تأخذ منه شيئا و لكنه عتاب معرفي منقول لنا عبر قرون، عتاب عميق الدلالة ، فـبـ quot;ليتquot; يعرض عضو الحزب على حزبه الذي صرف له اجمل سنوات حياته، سجنا و تعذيبا و تمييزا و رعبا، مساومةً يعرف انها متعذرة: هل تعيدون لي ما اخذتم مني، و أعيد لكم ما اخذت منكم و هو ليس اكثر من لا شيء؟
لا شيء!
كان الملا نصر الدين قد وجد نفسه في مأزق فلسفي. فحين مارسَ القضاء، جاءه شاكٍ بما يلي : هذا الرجل، و أشار إلى خصمه، طلب مساعدتي في حمل حاجاتٍ له، و حين سألته ماذا تعطيني مقابل ذلك ؟ قال لا شيء . و بعد ان ساعدته لم يعطني ما وعدني به! و لهذا جئتكم شاكيا، أريد quot; اللاشيءquot;!!
حار الملا نصر الدين برهة ثم ما لبث أن قال للمدعي : امضِ إلى ذاك البساط و انظرْ ماذا تجد تحته.
ذهب المدعي الى بساطٍ مفروش في دار المحكمة و رفع طرفه و نظر تحته ثم قال : لا شئ!
قال له جحا : خذه و امضِ! هذا ما طالبتَ به.
لا توجد أنظمة تستحق الثناء. فإن احسنت الصنيع فهذا واجبها و لهذا فوضها الناس امرهم، و إن اخطأت فإنها جديرة بالنقد بل و بأشده، ما انجح الديمقراطية اللبرالية انها كانت دائما تحت المجهر و تحت رقابة الجمهور و رقابة المثقف الاوربي على الاخص. لا يعرف المثقف الاوربي الولاء المطلق و الاطراء و المديح و تدبيج القاصائد، فلم أسمع أن مثقفا أو شاعرا كرس جهده لاطراء حكومته أو حزب ما أو نظام ما حتى لو كان منتميا له، ولم أر أو أسمع أن مثقفا برر أفعال سلطة أو حزب و خص بالمساوئ خصومها و منتقديها، فهو ينتقد حزبه اذا ما رأى انه شط عن الطريق.
قدم غونثر غراس استقالته من الحزب الاشتراكي الديمقراطي عام 1993 حين وجد أن اعضاءا في الحزب الذي ينتمي قد ساعدوا على تمرير قرار في البرلمان تقدم به الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم يقلص من حقوق الاجانب و طالبي اللجوء. لكن الولاء المطلق من خصائص السياسات الشمولية التي تزدهر بشكل خاص في الشرق و بالترافق مع الولاء الابوي المطلق للساسة و الاحزاب و الانظمة فنحمله معنا كالمرض المزمن حتى لو أقمنا سنوات طويلة في الدول الديمقراطية. و اذا ما كان لأحد أن يشيد اطلاقا ببعض الساسة فأن ذلك يتعلق بالموقف هنا او هناك و حيثما يكون الموقف صائبا.
لا يفهم العقل الشمولي سوى تقسيم الناس ثم الانظمة الى اخيار و اشرار و لا يتلائم مع الفعل التفكيكي و يتنقّل من ولاءٍ مطلق غير مشوب الى ولاءٍ آخر مطلقٍ و غيرِ مشوب.
زارتسين والغباء المتوارث
كانت جهودي للتحضير لموضوع عن زارتسين واجهت انقطاعاتٍ شتى وهو الذي ايد ان الغباء و الذكاء أمران وراثيان بعد أن اورد في كتابه ما توصلت اليه دراسات منفردة ذات دوافع عنصرية دون تفنيد بل في سياق التأييد، ثم عاد و اكد ما ذهب اليه في مقابلة تلفزيونية.
و في مسار القراءة المتعثرة كنت افكر: ألا يحتاج المجتمع الاغبياء؟ ألا يعيد انتاجهم عن طريق الفرص الاقل؟ أليس للغباء، كما للذكاء، ضرورة و وظيفة؟ أليس هو الذي يمكّن الاذكياء أو انصاف الاذكياء من أن يكونوا رؤساء على أحد ما و هو الذي يتكفل بتصريف البضائع الرديئة و الاغاني و الافلام الهابطة و النصوص الرديئة ؟ هل ينبغي أن تبيد هذه المجتمعات الاغبياء كما فعلت انظمة بالمعوقين و الغجر و الغرباء لكي تحقق هدف العرق النقي المتفوق؟
أمس جاء الصديق رودجر شمدت بقصائد لمحمود درويش. واحدة منها بدا فيها كما لو أنه يوجه اسئلته لزارتسين:
ليكن ما تظن
لنفترض الآن إني غبي، غبي، غبي
و لا ألعب الغولف
و لا افهم التكنولوجيا
و لا استطيع قيادة طيارة!
ألهذا أخذت حياتي لتصنع منها حياتك؟
ثم يستطرد درويش متسائلا

أما للغبي، كما لليهودي في
( تاجر البندقية ) قلبٌ و خبز
و عينان تغرورقان بالدموع
دور الغباء المعرقل لنمو الامة هو ادراك للدور التاريخي الذي ينبغي أن تلعبه في ظروف العولمة، و هو، بعد ذلك، يبتدئ بمغزاه الطبقي ( داخليا) لينتهي الى مغزاه العرقي ( خارجيا): الغني على حساب الفقير، الذكي على حساب الغبي و لكنه في نهاية المطاف سيكون: هذه الامة على حساب تلك.
و في الوقت الذي تقوم فيه اوساط من اصحاب الفرص الاقل ـ و ليس الاغبياء بأي حال من الاحوال ـ بعمل دؤوب و صبور و مثابر، فتراكم الثروات لغيرها مثلما شخصيات فلم الازمنة الحديثة لشارلي شابلن، تقطف الطبقات العليا ثمار الانتاج و تكرس التفوق الطبقي اولا، ثم انطلاقا منه تُنْتِج من ينظّر لها تفوقها العرقي على الامم الاخرى.
لهذا صاغ ماركس مقولته الشهيرة: quot;إن شعبا يضطهد شعوبا أخرى لا يمكن ان يكون حراquot;
على أن هذه المقولة تحتاج الى وقفة طويلة.