quot;حيثما حللتَ سيحل الخراب، اذا خربت حياتك هنا، في هذه الزاوية الصغيرةquot; (كافافي)
فتح العراق الأبواب على مصراعيها دائما و في أعوام الثمانينات على الاخص، أمام quot; الأشقاء quot; العرب، و أصبح مواطنو الدول العربية بمقدورهم، بدون تأشيرة دخول، أن يزوروا العراق و يبقوا فيه ما طاب لهم المقام، لا بل أصبح بمقدورهم أن يعملوا دون تراخيص عمل و أن يحوّلوا ارباحهم الى بلدانهم و بسعر الصرف الرسمي للدولار.
كان القادمون من كل حدب و صوب، من مشارق الأرض و مغاربها، للعمل في العراق يتقاضون أكثر بكثير مما يحصل عليه نظيرهم العراقي، و لقد تعرفت على طبيب بيطري من بلد عربي quot;شقيقquot; يحمل شهادة البكالوريوس، يتقاضى ثلاثة أضعاف نظيره العراقي و يسكن مجانا في بيت حكومي على مرمى امتار من مكان عمله و قد اطلقت الحكومة عليه لقب quot;خبيرquot;، فيما زميله العراقي يحمل لقب طبيب بيطري ليس غير. و قد تساءلت: ما الذي يفعله، بحق السماء، هذا الخبير لبقرة عراقية مريضة أكثر مما يستطيع ان يفعله طبيب بيطري عراقي؟
و عدا ما جناه ما يقارب المليوني عاملٍ مصري و عربي، حسب اقل التقديرات في العراق، لسنوات طويلة، فإن الكثير من التعهدات الضخمة قد أحيلت إلى مقاولين عرب و اجانب، أوربيين على الأغلب، ممن كانوا يحصلون على اسعار و عروض تفوق بمرات ما كان العراقي، عاملا أو متعهدا، يحصل عليه، هذا إن بقي ثمة عراقي لم يرسل إلى جبهات القتال أو لم يمت على الخطوط الامامية، حتى أن اجيالا من العراقيين مثل مواليد 1949 باتت على حافة الانقراض اسوة بالنمر الابيض، ما دفع البعض للتندر مقترحا وضع نماذج منها في المتحف.
سمحت السلطات للاجانب و العرب ( دون العراقيين ) بتحويل 80% من قيمة المدفوعات التي يحصلون عليها الى الدولار بالقيمة الرسمية، أي 3،3 دولار للدينار العراقي الواحد. اما سعر الدولار في السوق خارج السعر الرسمي فكانت العكس، أي أن الدولار يعادل ثلاثة دنانير.
لم يفت على المتعهدين العرب و الاجانب أن يستفيدوا من هذه الفرصة الذهبية، فقد قاموا بتحويل المبالغ المسموح بها، أو تحويل بعضها و حسب الحاجة، الى الدولار ثم عادوا فباعوا الدولار المتحقق في السوق السوادء و بذلك تضاعفت مداخيلهم حوالي 10 مرات.
فإذا ما كان متعهد عربي أو اجنبي قد حصل من مشروعه دخلا بمقدار 100 ألف دينار مثلا، فإن ثمانين ألفا منها قابلة للتحويل بالسعر الرسمي مضروبة في 3،3 فتكون 264 الف دولار و بعد تحويلها مرة اخرى الى الدينار، فإنه سوف يحصل من أصل المبلغ ذي الثمانين ألفا على ما يقارب الـ 800 الف دينار عراقي أي مضاعفا عشر مرات، أو ما يفوق أصل كامل مبلغ التعهد أو المقاولة بثماني مرات!
كانت الشركات و الافراد العاملون في العراق موجودين في كل مكان و يعيش معظمهم فردوسا استثماريا، فأجورهم مضاعفة و مصاريف معيشتهم قليلة جدا و ربما الاقل كلفة في العالم. فاذا ما اخذنا اقلهم حظا: الليثي الذي عرفته شخصيا عاملا في السباكة، فسنجده يذهب كل عام إلى بلده و حين يعود ليواصل عمله في العراق يروي لنا كيف أنه بنى دورا آخر ( طابقا) من عمارة سكنية. و كنتَ ترى عمالا و شركات من فلندا ( لوهيا )، المانيا ( تسيبيلين و سيمنس و غيرها ) المانيا الشرقية ( WSSB) اليابان (Toko Busan)، البرازيل ـ امريكا ( مندس ) هولندا، بلجيكا، يوغسلافيا، بلغاريا، رومانيا، فرنسا، تايلند، الفلبين، اندونيسيا، الاردن، السودان، فلسطين، مصر، تونس.. الخ و لكن يصعب عليك ان تجد عاملا عراقيا.
أما الطلبة العرب الدارسون في العراق فإنهم كانوا يحصلون على استثناء من شرط معدل الدرجات لقبولهم في أرقى الكليات العراقية و يتلقون فوق ذلك منحا مالية يحلم بها موظف عراقي ذو درجة كبيرة، ناهيك عن طالب. فلكي يحصل الطالب العراقي على كلية مشابهة مثل الطب او الهندسة، فإن عليه ان يحقق معدلا يتجاوز التسعين بالمائة و هو ما يتطلب سهر الليالي الطويلة و اقصى درجات الجهد و التركيز التي غالبا ما انتهت باخفاق في الحصول على المعدل المطلوب.
لم تكن هذه المشاريع دائما ذات علاقة بتحسين وضع المواطن، فقد كان اغلبها و اكثرها كلفة و أكثرها ربحا للشركات العاملة، ذا ارتباط مباشر او غير مباشرة بالتصنيع العسكري و توفير عناصر القوة الستراتيجية، و لذلك و بالرغم من كل هذه المشاريع فقد تدهورت خدمات المواطنين من سيء الى اسوأ و خصوصا في عقدي الثمانينات و التسعينات.
كيف دارت الدائرة على العراقيين
و حين دارت الدوائر على العراقيين المساكين دورة اولى و ثانية و ثالثة، و مالا ادري من دورات الكارثة، على شكل حصار و ثلاث حروب مدمرة، غادروا زرافات و وحدانا فتقطعت بمساكين العراق السبل، و سدت في وجوههم الابواب و بات العراقي منبوذا مكروها من قبل الجميع ، فالسلطات المصرية لم تمنح العراقي الراغب بالعبور الى ليبيا في سنوات التسعينات حتى تأشير عبور ( ترانسيت) و حين حن قلبها عليه بُعيد ذلك و سمحت لهم بالعبور، كان على أبنائنا ان يعبروا الحدود الى ليبيا سراعا كالمجذومين، و عومل العديد منهم بقسوة حين شط عن الطريق و قرر أن يمتع ناظريه ببلد الأهرامات الجميل. على أن مواطنين مصريين اوفياء عملوا في العراق كانوا حافظين للجميل فقالو للعراقيين quot; لحم كتافنا من خيركمquot;. و ترد اخبار السماح بالاقامة للعراقيين قد تحسن هناك رغم ارتباطه بشروط مالية.
و في الدورة الاخيرة من دورات الكارثة في اعقاب 2003 كان على العراقي الذي كانت حكومته قد فتّحَتِ الابواب امام كل عربي، و لم تطالبه بتأشيرة دخول و بأي شروط للاقامة و العمل، أن يقف في طابور طويل أمام سفارات العالم و السفارات العربية قبل كل شيء، متوسلا : تأشيرة دخول يامحسنين! أغلب الدول العربية لا تمنح العراقيين تأشيرة دخول و تعالمهم بكل احتقار، و حين يحصل عليها كما يحصل الشحاذ على حسنة، كان عليه أن يتوسل تجديد الاقامة كل شهر او شهرين و ربما عليه، اذا ما غالب غربته و فقره و قرر البقاء هروبا من دائرة الموت اليومية، ان يقوم بدخول الحدود العراقية مرة كل شهر لكي تتجدد اقامته، و عومل العراقي كأرهابي رغم ان جميع الدول المحيطة بالعراق هي التي ارسلت الارهابيين لقتله، أما التفكير بتصريح عمل في البلدان التي هرب اليها العراقيون فمحال، حتى لدى اولئك الذين غرفوا من ذهب العراق بالرفوش. ومنعت دول شقيقة على العراقيين العمل و أخرى طلبت رصيدا يصل الى خمسين الف ثم تساهلت و جعلته ثلاثين الفا من الدولارات، في حين كان ابناء هذه البلدان يدخلون العراق خاليي الوفاض لا يحملون قرشا واحدا، فيعملون و يدرسون و يربحون.
لماذا يغادر الناس اوطانهم؟
و هذا توزع شعبنا على كافة اصقاع الأرض و كما لم يحصل لشعب في العصر الحديث، لان الشتات العراقي دون غيره قد قوبل من قبل الجميع بالإعراض و النفور و الصد، حتى من قبل المهاجرين السابقين ممن تلقوا ببرود و عدم اكتراث أخبار المآسي التي واجهها ابناء جلدتهم. فقد حملت لنا اخبار الايام الماضية صورا مفجعة لقارب غارق قبالة شواطئ جزيرة كرسمس الاسترالية، وحسب المصادر الاسترالية فقد لقي على الاقل عشرون من الساعين إلى اللجوء من اصول عراقية و ايرانية حتفهم و بين هؤلاء نساء و اطفال، و تشير بعض الارقام إلى أن عدد الضحايا اكبر من ذلك بكثير، حيث أن عدد الذين كانوا على ظهر المركب كانوا حوالي مائة انقذ منهم عشرون فقط. و لمرة اخرى تنقل لنا الاخبار أن عراقيا آخر، رفض طلبه باللجوء، قد انتحر.
هذه الحوادث ليست الاولى من نوعها و لن تكون الاخيرة، إذ يلقى سنويا المئات أو الألوف من لاجئي القوارب حتفهم محاولين الوصول الى بلد آمن. عدا حوادث غرق القوارب فإن هناك مئات الألوف من الامثلة عن عراقيين تقطعت بهم السبل بعد أن باعوا منازلهم و املاكهم و نجوا بجلودهم من البطش الذي لم يعودوا يعرفون من اي جهة يأتيهم. و يهرب الناس الى مكان افضل و أكثر أمنا لهم و لاطفالهم بعد أن وجدوا ان العيش في بلد آباءهم و اجدادهم لم يعد ممكنا.
و بدلا من يطرح بعضهم على نفسه السؤال: لماذا يغادر هؤلاء اوطانهم مغامرين بأرواحهم و ارواح اطفالهم؟ لماذا يبيعون املاكهم، دورهم و بساتينهم لكي يعيشوا عيشة الكفاف؟ لماذا يقطعون الصلات و يقعلون الجذور التي ترعرعت في تربتها الطبيعية و يحاولون تبني ثقافة اخرى و الاستجابة لمتطلبات مجتمع آخر لم يألفوه؟ الا ينطبق على هؤلاء المساكين المغادرين ارضهم و املاكهم و أقاربهم، المقطّعين صلاتِ الارحام، القاصدين الباردَ القصيَّ من البلدان، المثلُ العراقي الذي يقول quot; لا يرميك على المر إلا ما هو أمر منهquot; لكي نقول لهم اذا تذمروا من هذا الامر او ذاك، أو نقدوا أمرا في بلدان الغربة:
لِمَ انتم هنا إذن؟
اظن ان الجميع يعرف لماذا جاء العراقيون إلى أوربا و غيرها من البلدان. و هم على خلاف الكثير من الشعوب كانوا حتى وقت قريب الاكثر نفورا من الغربة و الاكثر تمسكا بالبقاء في وطنهم.
التعليقات