أولا: اذا كنا ننتقدها، لماذا نحن في أوربا اذن؟

الحلقة الاولى

الحلقة الثانية

لم تشترط علينا الدول المضيفة، حين استضافتنا، أن نمتنع عن النقد و أن لا نمارس حريتنا التي حُرمنا منها في بلداننا. و اذا ما كان على المهاجر أن يعترف بالجميل و ان يحترم القوانين و التعليمات، فإن ذلك لا يعني الامتناع عن المساهمة النشيطة في الحياة الفكرية و ممارسة جميع الحقوق المتاحة للمواطن الأصلي في التعبير و التظاهر و النقد. و هذا النقد لا نمارسه من خارج اللبرالية بل من داخلها و سوف نتطرق إلى بدايات التحول نحو اللبرالية لدى جمهرة واسعة من مثقفي العراق في عقدي الثمانينات و التسعينات، أوصل بعضهم الى تأسيس منبر ديمقراطي، سنتناوله في حلقة مخصصة و نوضح المساعي التي بُذلت لتجنب الوقوع في مطب العقائدية اللبرالية.
النظام اللبرالي نظام حي و يتطور و من الطبيعي أن يكون عرضة للمخاطر، و لا يشكل المهاجرون اي تهديد له، فأغلبهم اناس ضعفاء و مغلوبون على امرهم، و القيام باقتباس امثلة منفردة من الذين يقومون باساءات و تقييم مدى تأثيرهم على التيار الرئيسي و الحاسم للحركة الاجتماعية و الاقتصادية أمر مبالغ به جدا، و يبالغ بمدى دوره في الغالب عنصريون لا يطيقون التنوع أو مستفيدون يكرسون التمييز. و تمتلك الديمقرطيات الغربية من الاجهزة و القوة و المال ما يجعلها قادرة على حماية نفسها. و اذا ما كان ثمة خطر يهدد هذه المجتمعات فإنه الخطر القادم من العنصريين و الفاشيين و اليمين المتطرف من الذين يحاولون شق المجتمع و عرقلة الاندماج. إن الامتنان لهذه المجتمعات التي قدمت لنا الحماية و الذي لا ينكره الا قليلون جدا من الوافدين، لا يعني على اية حال عدم نقد التشريعات و السياسات الخاطئة، و هذا الامر يقوم به مواطنون من نفس البلد و يتحركون بمسئولية من اجل حماية الديمقراطية من هجمات العنصريين، لان الكثيرين يرون عن حق أن هذا يهددهم في نهاية المطاف كما كان حرمان الزنوج و الملونين من الحقوق المدنية يهدد كامل المجتمع الامريكي و ليس الملونين فقط.
وكما كان العقائديون الماركسيون اللينينيون ينفرون من كل نقد للانظمة الاشتراكية و كل محاولة للاصلاح و يعادون ممارسيه فإن عقائديي اللبرالية اليوم يدافعون عنها بشكل مطلق و يخوّنون ناقديها حتى لو كان هؤلاء الناقدون من الاوربيين. فما فضحه أسانج و موقع و يكيليكس لم يكن بالنسبة للعقائديين اللبراليين سوى تهديد للبرالية و للانظمة الديمقراطية و ليس نقدا يستحق الاعتبار من اجل تصحيح مسارتها، هكذا تماما كما كان دعاة الحقوق المدنية السود و المشاركون في انتفاضة الطلاب و الشباب في اوربا عام 1968 يهددون الديمقراطية الاوربية والامريكية و المجتمع الحر حسب وجهات نظر اليمين المحافظ، رغم ان هذه الحركات قد وسعت نطاق الحريات الشخصية بشكل غير مسبوق و رسخت الديمقراطية اللبرالية و وسعت قاعدتها. إن الحرص على الديمقراطية اللبرالية يستدعي ادانة كل الاعمال التي تسيء لحرية المعلومات و حرية انتقالها التي هي من اركان النظام اللبرالي نفسه.


ما هو الاندماج ؟
يقول التعليق الذي كتبه الصديق علي النجار أن رئيسة الحزب الديمقراطي الاشتراكي في السويد قد قالت ما معناه أنهم عملوا جهدهم لدمج المهاجرين و لكنهم لم يفعلوا الكثير لدمج الشعب السويدي بهم.
حسب معجم ( Advanced Learnerrsquo;s Dictionary) فإن فعل اندمج ( integrate) يعني: تظافر مجموعة من المكونات لتكوين الكل؛ اكمال شيء غير مكتمل أو غير مضبوط بإضافة أجزاء ( أخرى ). و يعرف المعجم كلمة ( integrated personality ) على انها الشخصية التي تتناغم مكوناتها النفسية و الجسدية والعاطفية مع بعضها البعض. أما كلمة ( integration) فيعرّفها على انها الحالة التي يتم فيها الدمج أو الاندماج، و يضرب ما يلي مثلا : التلاميذ السود اندمجوا في النظام التعليمي في جنوب امريكا.
و هذا المثال، مثلما هي اغلب امثلة هذا المعجم، تم اختياره بعناية و له خلفيته التاريخية، فولايات الجنوب الامريكي كانت ولايات تعتمد نظام العبودية للسود و به كان السود مقصيين من نظام التعليم في جنوب امريكا حتى قيام الحرب الاهلية الامريكية و انتصار سلطة الولايات المتحدة. و بإزالة العائق، اي نظام الاقصاء، توفرت الفرصة النظرية لاطفال السود في التعليم و الاندماج.
و لو حللنا هذا المثال و سياقاته التاريخية لوجدنا:
أولا: إنه كان ثمة عائق أمام الاندماج، و بازالته توفر الشرط الأول للاندماج.
ثانيا: قانون quot;المبادرة و الاستجابةquot;. المبادرة في مجال الاندماج هو بيد الدولة و المؤسسات و الاستجابة هو بيد موضوع الاندماج، شخصا أو مجموعة، و مدى تقبله له. لا يوجد ما يمنع الاندماج لدى الشخص المقصي لان الأمر في مصلحته ، و لكن هذا لا يعني بأن اعلان سياسة تسعى إلى الاندماج بعد سنوات طويلة من القنانة و التجهيل سوف يقابل بالثقة و بالإستجابة الفورية بل قطعا بشكوكية ترسخت بسبب سوء التعامل و الاقصاء.
و التعبير العربي اندماج لا يفي بغرض تفسير الكلمة (integration) و يجعلها وحيدة الجانب و لذلك يحاول بعض الكتاب العرب و العاملون في مجال الاندماج ترجمتها تكاملا، و هذه غير وافية أيضا فيصار الى تعبير) تكامل و اندماج (وهي أقل اختزالا و لكنها اقرب مضمونا. و هنا وجه الربط مع تعليق الصديق النجار.
فلو تدبرنا مغزى الكلمة الانكليزي و جذره لوجدنا انه في علمية الاندماج يصار الى تكوين ثالث من طرفين او اكثر لا يمثل فقط ثقافة الاول و لا الثاني بل تكوين مشترك بينهما، و لكن كما هو الشيء دائب التكرار في المجال الفكري، يتغرب المفهوم عن ذاته او يغرّب لكي يتم تكييفه لمرام خاصة. و هكذا نجد انه عمليا فإن الاعتراف بثقافة الاخر تواجه صعوبات جمة و مقاومة بل و نفيا، و يصار الى اعتبار الطرف المهاجر سلبي تماما و ليس لديه ما يقدمه.
و اذا ما كان القول بأن المهاجرين من الشرق الاوسط بمستطاعهم ان يساهموا في ثقافة الغرب بنفس القدر و على قدم المساواة مع ابناء البلد الاصليين هو أمر مبالغ فيه، بسبب السبق التاريخي للغرب في مجالات عديدة، إلا أن من الخطأ اعتبار ثقافة الشرق صفرا.
إن من غير المجدي ان نبحث عن مثال تقول فيه الدولة المضيفة انني اسعى الى الغاء ثقافتك لسببين الاول ان الدولة لا تتعامل مع هذا الموضوع الا من خلال الجهاز الاداري الذي يتوفر على نماذج مختلفة من البشر و ثانيا ان عملية الكشف عن المستور في مجال الفكر و الوصول الى جذوره هي من المناهج الفكرية الشائعة ويجب على الكاتب او المفكر الا يكتفي بالمعلن من الامور بل يتقصى المخفي في ممارسات تدعي امرا غير الحقيقة.


دور الثقافة، الفن التشكيلي مثالا
لماذا الفن التشكيلي على وجه التحديد مثالا؟ لأن الفن التشكيلي لا يواجه عوائق في الايصال و أن لغته عالمية. و هذا الفن متقدم لدى العراقيين. كما ان تواجد الفنانين التشكيليين العراقيين في اوربا وافر. و اذا ما وجهنا سؤالا الى الفنانين التشكيليين : هل تعتقد ان فرصتك في مجال الاعلام و العرض في القاعات الخاصة هو نفس فرصة زميلك الفنان التشكيلي من ابن البلد الذي يحمل نفس مهاراتك ؟ سوف نرى ماذا ستكون النتيجة. ففي برامج التلفزيون و في الصحف قلما نشاهد استعراضا لاعمال و نشاطات فنانين تشكيليين عراقيين أو عرب و الاهتمام الاعلامي بهم اقل بكثير مما يتناسب مع مستوياتهم، و رغم وجود فنانين تشكيليين ماهرين اقاموا في اوربا منذ عقود، الا ان موقعهم في الحركة التشكيلية لا يتناسب مع قدراتهم.
أما مشكلة الكتاب فهي اعقد بكثير و تواجه صعوبات اللغة.
يواجه الاكاديميون و المثقفون مشاكل كبيرة في الاعتراف بهم و توجد حالات فردية معزولة للنجاحات لا تتناسب مع الكم و الكيف الذي عليه المثقفون العراقيون مثلا. و تظهر مثل هذه الامور بكل وضوح في الموقف من طالبي التجنس.
فالعراقي م. ق الذي يحمل شهادة الماجستير في الفيزياء و هو كاتب و مثقف اضطر الى العمل في خدمة الفنادق للحصول على الجنسية، و ف. ب فنان تشكيلي معروف أقام و ساهم في العشرات من المعارض و ألف العديد من الكتب في مجال الفن التشكيلي رفضت السلطات منحه الجنسية لان عليه ان يعمل في مجال البناء رغم اصابته بمرض السكر. و قد اعتبر موظف الجنسية في برلين شهادة البكالوريوس التي تقدم بها فنان تشكيلي و كاتب آخر، له نشاطات عديدة في الكتابة والترجمة و التدريس واقامة المعارض، غير ذات قيمة في حين ضم الى وثائق طلب الجنسية شهادة لدورة من يوم واحد اقيمت في المانيا عن قوانين الضمان التي يصعب فهمها حتى بالنسبة للألمان انفسهم.
و اذا كان من حق أي بلد ان يعادل الشهادة الجامعية حسب معاييره، فإنه ليس من الصحيح الغاء سنوات من الدراسة و اعتبارها صفرا. فالجلوس على مقاعد الدراسة لهذه المدة مضافا لها مدة الدراسة في المدارس ما قبل الجامعة، لا بد ان يكون قد ساهم في صنع الشخصية و مدى تقلبها الحوار حتى لو لم تتم معادلتها بشهادة الوطن الام. و قد رفض طلب الجنسية لهذا الفنان و الكاتب في نهاية المطاف و أشير في حيثيات رفض طلب الجنسية إنه لم يحاول أن يعمل في مجال المطاعم أو الخدمات المنزلية و إنه اكتفى بالسعي للحصول على عمل في مجال الثقافة، رغم ان عمره 60 عاما و هو معوق بنسبة عالية تحد من حركته حسب التقارير الطبية.
و امام ذلك نجد ان فرصة التجنس لدى الشباب ممن ليست لديهم ثقافة او تحصيل دراسي و ممن لديهم حصانة فكرية محدودة ضد العنف و التطرف، اكبر بكثير من المثقفين الذين يمتلكون حصانة اكبر، بسبب أن الشباب و خصوصا المنتمين الى تنظيمات اسلامية يتمتعون بروح تضامن عالية و قادرين على الحصول على عمل بنسبة اكبر بكثير من المثقفين. ولا يصار الى اعتبار الثقافة من عوامل منح الجنسية كما صرح بذلك احد الموظفين العاملين في هذا المجال.
و التعامل مع المثقف بهذه الطريقة يتجاوز الاضرار به كفرد واحد و يؤدي الى تعطيل دوره في عملية الاندماج لأن دائرة تأثيره تتخطى شخصه، كما انه يعطي مثالا للشباب على أن الثقافة غير ذات جدوى.
في هذا المجال و في مجالات اخرى تتوفر امثلة كثيرة على أن المعايير المتبعة تساهم في تدني نوعية الحاصلين على اللجوء و الاقامة و الجنسية و هي موثقة و لا نريد الاطالة فيها احتراما لوقت القارئ. و كنت قد تحدثت مع اصدقاء عن ضرورة تأسيس بنك معلومات محايد يتعامل مع ما يمكن اعتباره تمييزا و لكن التنفيذ يصطدم بعقبات كثيرة.

ثقافات لا تتصادم
من الضروري اعادة تقييم الموقف من الثقافات المختلفة في بلدان الهجرة، و تبديد النفور من بعض اشكال الثقافات و اعتبارها مكملة لثقافة البلد المضيف، فهناك الكثير من الممارسات و التمظهرات التي ينبغي قبولها و التي لا ترتبط بالتطرف الاسلامي، و لا اظن أن شرب الكحول أو اكل لحم الخنزير أو حضور حفلات الرقص ام ضروري من اجل الاندماج. أنا شخصيا اعرف الكثير من الالمان ممن لا يشربون الكحول و لا يأكلون لحم الخنزير، و لكن النفور الجمعي غير المعلن من المسلم او ممن هو من الشرق الاوسط مرتبط بتعميم يرى ان الجميع هم مشروع كامن لعمل ارهابي. و ينبغي اعتماد سياسة اندماج توضح التنوع الثقافي الذي لا يتعارض مع قيم الحضارة و الديمقراطية.
الحجاب زي و ليس هناك مبرر لاعتباره رمزا دينيا. و هذا الامر ليس له علاقة بالموقف الشخصي، فإذا كان منا من لا يرغب ان يرى زوجته أو ابنته تلبس الحجاب، فليس من حقه أن يؤيد القرارات التعسفية ضد الاختيار الحر للمرأة. و من المنطقي ادانة كل شكل من اشكال الاكراه التي تفرض الحجاب او تفرض السفور. على أن الحجاب قد حظي بقدر كبير من التركيز في اوربا لأنه رمز ظاهر و معلن، استفز بعض اوساط من الاوربيين لما اعتبروه تهديدا لثقافتهم. و اذا ما اجازت بعض الاوساط لنفسها ان تكون ضد الحجاب فإن هذا سوف يعطي المبرر للأنظمة المتشددة ان تكون ضد السفور.