سيكولوجية حسني مبارك، هي سيكولوجية إله _ فرعون. ووظيفة الإله هي فقط أن يأمر فيُطاع. لذلك من المستحيل أن يقول مبارك لشعبه، ما قاله ديغول، ومن بعده بن علي: quot;فهمتكمquot;. فالإله يأمر ولا يعنيه الفهم، بل هو غير قادر عليه أصلاً. لذلك أيضاً سيطول انتظارنا قليلاً كي نرى نهاية طيبة لهذا الحدث الزلزالي.
في الأيام الأولى من حرب غزة، وصلنا بعضُ الأطباء المصريين، وكان بينهم دكتور اسمه محمد. سألته متى تقوم ثورة في مصر بعد كل هذا الخراب؟ متى يثور الشعب المصري؟ ردّ: يا بني، أنت لا تعرف شعب مصر. نحن نُرّبي الفرعون ثم نعبده.. سيطول انتظارك!
ومن حسن حظي، أنّ الانتظار لم يطل!
من حسن حظي، أنّ شباب مصر العظيم، خيّب كل حساباتنا، يأسنا وتشاؤمنا، وانتقل بشعبه من خانة عبدة الفرعون، إلى خانة عصر الشعوب. من عصر العبودية إلى عصر الحرية. من القرون الوسطى إلى قرن الأنوار. من الحاكم الإله إلى رئيس الدولة بوصفه أعلى quot;موظف في الدولةquot; لا أكثر_ أو هكذا آمل ونأمل.
لقد شهدتُ مقتل السادات وتنصيب مبارك. كنت في مصر أيامها، في الأيام الأولى من إقامة استمرّت ثلاث سنوات. كنا بالصدفة نجلس في مطعم أسماك بميدان الجيزة، أنا وأصدقاء. جاء الجرسون وقال: الأُسطى خلاص. لم أفهم معنى العبارة. ثم فهمناها وهرعنا إلى بيوتنا خائفين.
بعدها بأيام ثم تنصيب مبارك quot;رئيس الصدفةquot; في البرلمان، وكنا في مقهى بميدان العباسية، والجالسون بالآلاف يتابعون الحفل. لفت نظري نادلُ المقهى وهو يتمسخر على الرئيس الجديد وينعته ب quot;البقرة الضاحكةquot;. أقول لفت نظري، لأنّه موقف فيه جرأة. موقف لا ينمّ عن خوف. ثم دارت الأيام، وبدأت أركان دولة الخوف تتأسس وتغور في باطن الأرض والروح. وبعد سنتين ونصف من إقامتي، وضعت في قسم الخليفة، بحجة عدم تجديد إقامتي في مصر [وهو في الحقيقة مجرد سهو لا أكثر]. أمضيت في ذلك القسم 24 يوماً، رأيت خلالها كيف يُعامل المساجين العرب والمصريين، وكأنهم من عصر ما قبل البشر وكرامة البشر. ما جعلني أقارن بين حالنا في سجون إسرائيل، وحالنا هنا. وأشتهي لو أنني هناك!
وقتها كان معي سجين سياسي سوري. أوضحت له طبيعة السجن في دولة الاحتلال، فحسدنا على تلك النعمة مقارنة بما يحدث في سجون سوريا!
المهمّ: دخلت القسم ب 400 جنية، وخرجت منه بصفر! ولولا تلك الجنيهات، لمت جوعاً وبرداً. ضباط يبيعوننا الطعام والتبغ بعشرين ضعف ثمنها الحقيقي. وفي الليل تبدأ جلسات التحقيق والإهانة والاحتقار. حتى صرت أتمنى لو أنني كنت في أحد سجون إسرائيل.
باختصار أنا في قبضة نظام قروسطي بربري. لا قوانين ولا محذورات ولا خطوط حمراء. نظام ما قبل عصر البشر!
لن أفيض أكثر. رُحّلت مقيّداً إلى غزة، ومنعت من دخول مصر مدة 25 عاماً، بعدها رُفع المنع جزئياً، ووافقوا على دخولي إنما بنظام الترحيل. أي من معبر رفح إلى المطار مباشرة!
هذه هي مصر مبارك. إله يحكم قطعاناً من العبيد، ونقطة.
والآن كل هذا البؤس انتهى.
كل هذا الإذلال انتهى.
كل هذا الرعب انتهى.
لأنّ شعب مصر كسر حاجز الخوف مرة واحدة وإلى الأبد. ومصر بعد يناير الفرح والبهجة هذا، لن تعود أبداً لما قبل هذا التاريخ. حدث فارق وأساسي واستثنائي، ليس من المبالغة تشبيهه بالثورة الفرنسية. الثورة التي نقلت أوروبا من عصر تحالف رجال الدين مع الإقطاع، إلى عصر الشعب والحرية والأنوار.
نعود إلى ذلك الإله المومياء في القصر الرئاسي. هو إلى لحظة كتابة هذا المقال، لم يفهم ولم يستوعب. فهو ليس ديغول بخلفيته الأوربية المتنورة. إنه ضابط عسكري تعوّد منذ 62 عاماً على تلقّي الأوامر وإزجاء الأوامر، وعلى أن يطيعه كل من حوله. بمن فيهم الدائرة المحيطة والدائرة الأوسع: الشعب. فكيف لرجل بهذه الوضعية أن يفهم ويستوعب ضخامة هذا الزلزال في عشرة أيام فقط؟
السادات عندما مات، كانت آخر كلمة قالها: quot;مش معقولquot;. وأظنّ أنّ مبارك يقول الكلمة ذاتها الآن.
المقال بالطبع مفكك. معلش. أنا منفعل. ولا أستطيع إلا أن أكون منفعلاً. فمصر إن كانت بحال طيب، فسينعكس هذا علينا والعكس صحيح. بل إن كل شعب عربي يتحرر من أنظمة الفساد والاستبداد، من quot;الاحتلال الوطنيquot;، سيعجّل بتحررنا نحن الفلسطينيين.
تحيا مصر.
والزمن أمامنا طويل لكي نحلّل ونتأمل ونجادل ونكتب.
تحيا مصر ويموت كل الطغاة.