منذ أوسلو، ورويداً رويداً، بدأت تتشكّل لدينا، وبالأخصّ في مؤسّسات المجتمع المدنيّ والجمعيّات الأهليّة quot;غير الحكوميّةquot;، ما يمكن أن نعتبرها quot;ظاهرة المثقف ربيب الأن جي أوز في فلسطينquot;. في البداية، وككلّ شيء جديد، لم نستوعب الأمر. فقد بدأ، ككل جديد أيضاً، غامضاً وملتبساً، إن لم نقل مقبولاً ومطلوباً. فقد جاءت السلطة، وبَنَت مؤسّساتها الثقافيّة الرسميّة، بعقلها البيروقراطيّ، فشاعت، على إثر ذلك، ثقافتها هي وحدها، ولم يكن يوجد في المقابل، ثقافة أخرى، ليبراليّة ومدنيّة وحديثة، نحتاجها بشدّة أمام quot;تغوّلquot; ثقافة السلطة. هكذا كانت الأمور في البدايات، ما جعل المثقف الفلسطيني عموماً، يرحّب بهذه المؤسّسات، أو على الأقلّ، لا ينظر إليها باستياء وريبة.
ومع مرور السّنوات، وصولاً إلى هذه الّلحظة، بدأ المخبوءُ يتكّشف ويتمخّض عن فضائح. وبدأت الغايات والأجندات تظهر، واضحة جليّة لكل ذي وعي وعينين.
فمؤسّسات وجمعيّات الأن جي أوز [التي شاعت في القدس والضفة وقطاع غزة، شيوع الذباب] تعمل لحساب مُموّليها فقط. ولا يعنيها من قريب أو بعيد مصلحتنا ومصلحة شعبنا وقضيّتنا وثقافتنا. فلوس تُدفع مقابل صرامة في رسم السكّة، ويا خسرانك لو خرجت عن السكّة قيد أُنملة.
كرم أين منه كرم ذلك الغلبان زهير، إنما دير بالك : نفّذ ما يُطلب منك بالضبط، وإلاّ! والمطلوب غالباً بل دائماً هو أمر بسيط وسهل ولا يكلّف جهداً. ولك في المقابل أن تغتني وتثرى خلال سنوات قليلة إن كنت شاطراً.
في البداية اشتغلوا على مسألة المرأة بكل تداعياتها وتجلياتها، ثم اشتغلوا على الطفل، فالفتيان، فكذا وكيت. مئات اليافطات دون شيء يمكث في الأرض. عناوين تتوالد كالأميبا من عناوين. والمموّل يصرف ويصرف، وفئة منا تسرق وتسرق. وفي الأخير، المحصّلة : صفر. لا شيء ينفع الناس. ولا شيء يبقى. فما أتت به الريح لا بدّ تأخذه الزوابع.
إلى أن دخلوا حقل الثقافة [وتحديداً الآداب والفنون] وطبعاً ذهب بعض المثقفين إليهم، واتفقوا، وعملوا، بنفس طريقة العناوين الأخرى والمجالات الأخرى، أي بالميكانيزم ذاته : مجرّد تدبيج عناوين ويافطات فارغة، والصرف عليها، ثم تُقتسم المكاسب : فإذا بفلان المثقف، يصبح ثرياً بعد سنوات يقلّ عددها عن عدد أصابع اليد الواحدة. وإذا بهذا يشتري شقّة بمئة ألف دولار. وذاك يبني قصراً. والثالث يبتاع عدّة دونمات أرض. وهكذا.
quot;مولد وصاحبه غايبquot; كما يقول إخوتنا المصاروة. مولد دخله أول الأمر يساريّو فلسطين السابقون، من عديد التنظيمات، فكانوا روّاده بامتياز للأسف. ثم لحقتهم جماعة من أدعياء الثقافة الذين يعتبرون أنفسهم quot;مثقفينquot;، ويُطالبون الجميع بمعاملتهم وفق هذه الصفة.
صارت الحكاية تكبر وتكبر حتى وصلت إلى حدود الظاهرة. وحتى فاحت رائحتها فزكمت الأنوف.
واليوم، لدينا مئات يسترزقون على حساب بؤس شعبهم وبؤس الثقافة معاً، ومنهم كتّاب وشعراء quot;حداثيّونquot; من فئة الشباب - بل بالذّات من فئة الشباب!
ويا ليتهم يسترزقون فحسب، بل يثرون ويصبحون قططاً سمينة لها أجندات ومشاريع، عابرة للحدود أحياناً، وأكبر من أعمارهم. كتّاب وشعراء ومسرحيون وسينمائيون، نبتوا بين يوم وليلة، وحذقوا في لعق جراح شعبهم، فإذا وقعتَ مع أحدهم بالصدفة، في شارع أو زاوية طريق، تشبّث بك وأفاض أمامك في تعرية زملائه quot;الّلصوص المحترفينquot; [دون أن تطلب منه] ثم يختمها بتشنيف أُذنيك بوطنيّته وحبه وإخلاصه للناس، إلى درجة أنك تحتار : هل تضحك منه أم تضحك من نفسك لأنّك خجلت من مواجهته بحقيقته، التي يعرفها كل مُهتمّ.
كتّاب وشعراء، فُتحت عليهم quot;سمسمquot;، وغاب ضميرهم الوطنيّ الإنسانيّ بضمّة دولارات، فما عاد يعنيهم شيء خارج جيوبهم وخارج قوقعة مصالحهم.
مئات المشاريع الوهمية، تُصرف عليها مئات ألوف الدولارات، والأمور ماشية، فما من حسيب ولا رقيب.
والمؤلم، أنّ بعض الأسماء المحترمة وقعت في الفخّ، فنسيت ماضيها، وأعماها الجشع، فصارت تتبارى هي أيضاً في كسب المزيد من المشاريع، دون أيّ رادع أخلاقيّ أو ضميريّ. أغووها فوقعت. هكذا ببساطة، تحت حجة أنّ السلطة، مثلاً، لم توظّفها أيام التوظيف، وغيرها من الأسباب.
والحال، أنّ مثقفينا المخلصين أو [بقاياهم] صاروا واقعين بين نارين : نار السلطة بثقافتها الرسميّة القاصرة البائسة، ونار مؤسّسات الأن جي أوز الأخبث، والأبأس، والأطول باعاً، ونقيضة كل ما تربّينا عليه من قيم ومبادئ وطنيّة وأخلاقيّة وإنسانيّة.
واليوم ترى الكاتبة الفلانية، مثلاً، تقيم إقامة دائمة في جمعية كذا. والشاعر العلّاني يقيم إقامة شبه دائمة في مؤسّسة كيت. والكلّ يرتزق، والكلّ راض، والكلّ مبسوط.
بل وصل الأمر ببعضهم، حدَّ تصدير خبرته وريادته إلى مصر ودول الجوار، وتعليمها لمن يطلبها هناك من quot;الأن جي أوزيينquot; المستجَدّين!
الأوربيّون والأمريكان، يدفعون، ويعرفون ما سيجنونه من وراء هذا الدّفع، اليوم وغداً وبعد غد. فهم الأذكى والأعرف، ولا يمكن مجاراتهم في هذا المضمار. وأدعياء ثقافتنا [ومعظمهم أميّ ثقافيّاً بتمام معنى الكلمة] يقبضون ولا يعنيهم حال شعبهم وبلادهم المحتلة [فالطاسة ضايعة، والحال مايل، ولن يميل باسترزاقهم أكثر مما هو عليه من مَيَلان].
قصص وحكايات. فساد ورشوات. صراعات ومؤامرات. ومسرحيات تُطبخ على عجل، لتعُرض لمرة واحدة أو اثنتين، مقابل خمسين أو سبعين ألف دولار، وهكذا دواليك.
فهل ثمة فساد أكبر من هذا؟
لقد تفوّقوا بفسادهم على كل فساد السلطة السابقة. بل تبدو تلك السلطة طيبة وغلبانة إذا وقفت بجوارهم. ذلك أنهم يمتلكون من الإمكانيّات الماديّة وquot;الأساليب الناعمةquot;، ما تعجز عنه خزينةُ السلطة وعقلُها المُرقّط.
والمؤلم، أنك نادراً ما تجد الآن، مثقفاً يمدح في زميله [كما كانت الحال أيامَ الاحتلال]، فهو إمّا يتهمه باللصوصية (هذا حوت) أو بالغباء والسّذاجة لأنه (قاعد في بيته يقرأ ويكتب وبس) أي لا يسرق فيصير حوتاً! منطق رهيب، يؤشّر على ما وصلنا إليه من انحطاط وخراب ذمم. فهل بمثل هذا سيكون لنا مكان في ثقافة الأرض؟
ومع هذا، يظلّ يؤلمني بشكل خاصّ التحاقُ بعض من كنا نظنهم مثقفين محترمين بأشباههم من أولئك السياسيين البائرين، متدافعين بالمناكب، لتحصيل أكبر قدر من الكعكعة.

فلسطين، بعد أن ركلها سياسيّون فصائليّون، ها هم مثقفون أو محسوبون على الثقافة يركلونها.
واأسفاه!