يا شعب.. أي رياح المواسم أتَت بك؟. أي رحمٍ أنجبك، وأي دُنياً استدارت بك على سَالف عهدها. ألم يخبروك أن لا أحداً استعد لقدومك، ولا لرؤيتك، ولا لإلف وجهك!. مالك اليوم ظاهرٌ تتبدّى، تعرض نفسك كحجر زاوية، والزمان زمانهم، والهرج هرجهم، وما من قِبلةٍ في المدى تطلبك الصلاة..
ما بال quot;الهوىquot; استفزك وأنت من quot;أولي النهيquot;، ما بالك طامح إلى الوجود وأنت الأجرد النحيل، ما بالك اليوم تطلب ما هو أبعد من quot;كسوة بردquot;، وتمشط الأرض بحثاً عمّا وراء quot;رغيفquot;؟ يا مليح التوسل، قل لي بربك، هل عهدت ولادة للعرب من بين مواكبك؟.. وهل تشكّلوا يوماً على أساسك، والتزموا رسم صفحتك، وبَيان دفاترك!.. هامت بغيرك أيامهم، وما أطلوا يوماً من شُرفتك، ولا سِرٌ لكَ بات في أحضانهم.. فأخبرني بربك أي رحلةٍ أنت طلّابَها اليوم بينهم؟..

- ورد في quot;لطائف المعارفquot; للثعالبي أن أول ما ظهر من الظلم في أمة محمد -عليه السلام- كان قولهم quot;تنح عن الطريقquot;.. بمعنى إخلاء الطريق وإيقاف الحركة عند مرور المسئولين.
يا لخيبة من صنعوك، مالك اليوم ظاهرٌ تتبدّى! مالك تشق دربك بينهم، كفارس بربري، ولا أولوية لديك سوى لتحطيم صروحهم، وسحب امتيازاتهم، وتقليل فسحتهم من الأرض والسماء. مقبلٌ أنت اليوم، وباحة النزال مغلقة!. جَسورٌ أنت وأرواح من أوليائك تكسرت وساحت على هارب الموج. أهي كبِدك المستعرة يا ترى؟!. ما لك اليوم لا تحني هامَةً؛ أمَسك سِحرٌ من نخيل؟!.
كيف تمارس تقزيم الجبابرة؟، كيف تنهي حفلهم وليلٌ ما انتصف.. كيف فضحت آلهتهم الخشب، وشققت شفاههم التي تتلمظ على قادم أجيالك. لم زرعت لهم غيظا لا يترجل عن لوائح الصدور؟. كيف خرجت أفكارك ونوّام هو الجسد، وكيف تنَسمت حرية وغربيب الدهر كان حاضنك؟!. ألم يخبروك أن تضع خطواتك رقيقة على نديّ الرمل، لا يسمع لها وقع ولا يبين لها آثر. ألم يأمروك أن تخبئ نساءك تحت الحصير، وتحشر أولادك في قمقم، وترمي شبابك في ضيق الزوايا!..
أما أخبرك quot;الأسيادquot; نقلاً عن quot;أسيادهمquot; أنهم صنعوا لك عالم الوفرة، ومسافات الرفاه، ومدن الريح، وعالم الأشياء التي تأتيك سريعاً.. سريعاً وبلا تعب؟! فقط، كل ما يبقى هو أن تصنع quot;خطوتكquot; وتؤمن. تؤمن أنك موجود داخل هذه العوالم. أما أخبروك أن طريقك قد ضاق، وما سوى الإيمان بهم، يسعدك، ويساعدك على جحد الألم، وعلى نكران ما تراه عينك!!.
لم لا يطوفك الصمت ومؤذنهم يصدح في الجوار.. لم تتجلى وتجعل ظهورهم أمامنا مؤذياً مرفوضاً؛ كعجوز تتبجح بقصير فساتينها. من قال إن لك سهما من دنياهم، وقِطافا من تَثني نضوجها؟. مالك تَتعَشق جديد حياتك، وترصد وقع خَطوك.. ألم يكن قلبك quot;قلب أندلسي يعشق الأشياء القديمةquot; كما وصف quot;لوركاquot; ذات غفلة من quot;نيسانquot;!. ومن أسرّ لك حال quot;ربيعquot; أن مطارحة القديم لا تحيي ميتاً، بل تميت حيّاً من ورود الدار..
فيا أيها اللا عقلاني ما لك وتصفيف الأمور؟ ما لك تقاوم النسيان والموت؟ ألم يكتب عليك أن تكون حزيناً.. كقناديل المدافن، كأسرة المنافي، كوَجد الكسير.. يتبسم وحيداً. أمّا أرهقتك صوادف الأيام، وعوالقها، وعوائدها.. أما ذابت شمعتك في ريحٍ غَموس، أما سَرحت كلمتك في عهود المنابر.. أي رقصة ارتجالية تسكبها أمام أعدائك اليوم، وأي جُنحة تَصابي تُغافل فيها نواطيرَ سَوادك؟.

- quot;التوق العام للحرية العامة أو السياسية، يمكن بسهولة أن يُعتبر خطأً بأنه الكـراهية العامة للأسيـادquot;... حنه أرندت (في الثورة، ص173).

كيف لك بإفساد مزاج quot;الخواصquot;، وكيف تجاور قامتك قامة quot;الأسيادquot;، وكيف تزاحم مطالبك مطالبهم!. يا شعب.. كيف تتجاسر عليهم اليوم؟ ألم يربوك فيهم وليداً!. من أنت لتأتِ اليوم وتمارس quot;التشغيبquot;، وquot;التخريبquot;، وquot;سَرد المطالبquot;!. ألم يسألوك أن تظل مكانك؛ تؤتى ولا تأتي كأرصفة موانئ تتلو موتها كل غسق. ألم يخبروك أن تطمر أمانيك، ألم يسألوك أن تحفظ مواقفك في داخل قلبك.. مخبأة دوماً، كحبيبة أولى في قلب رجل شرقي.
ألا تعلم أنه ما من دآبة تنام على شقها quot;الأيسرquot;.. فمالك والمباينة، ومالك وللحقوق، لِم تتلو وتدرسها كأنك quot;موسىquot;!. أي درب أنت مؤهل لجلبه، ألم تعتد دروبهم وتحفظ أنساقهم وتتطبع طبائعهم. ألم تلحظ أن وجعك والألم ما مرك إلا بعد أن تعرّفت الأمل؛ وكل quot;ذي أملٍ في الدهر ذو أَلمٍquot;.. ألم يك بك فيض طاقة، تتنكر بها الألم كما دربوك!..
ألم يرشدوك، عبر تاريخهم وقصصهم القديمة الرديئة أنك لا تولد إلّا بفتنة، ولا تحيا إلّا بأزمة، ولا تخضرُّ خمائلك إلا في ظل تعيس أزمانهم!. ألم يقل فيك قائلهم أن يدك يد غوغاء هي quot;عون الغاشم ويد الظالمquot;. فلم تظهر اليوم، وتتجلى، وتخلع لبوساً ألبسك إياه آباؤك وكهنتك وأسيادك!.
أيها الغفير السائب، ومن قال أن المدينة ستتآكل في غيابك، وأن حواصل quot;شعبٍ مباعquot; ظلت مجوفة تنتظر هطولك، وأنت المشتت.. على الهوامش، وأرصفة المتعبين، وباحات الصواري الميتة.
لم تعود اليوم وأنت أسطورة، ملأها الزمان رماداً. لم تَرشُد بلا إذن، وتتحرك دون رأس، وتثور ودماء من أنجبوك لم تعد تجري في عروقك؟!. لم أتيت؟ بسيفك quot;اليزنيquot;، ومشيتك quot;العمريةquot;، ووقفت لهم quot;مثل السيف فرداquot;!.. لم تستخدم ضمير quot;الجمعquot;، وفعل الإرادة وقد أُخبرت أنه quot;العبثquot;. ألا يوجد كل ما يلزمك، الماء، والريح، والغابة، والقفر. وماذا لو سجنت يوماً وليلة.. ويوماً وليلة..
لِم أفسدت طلاسم تعاليمهم quot;اكره ذاتك؛ انقسم على أجزاءك؛ عِش وحشتك؛ الآخرون جحيمك...quot;. لم أفسدت انسجامهم؟ لم لمْ تصبح ريحاً، وترحل بخفة كما حقائب أبناءك.. فوكالة هذه الأرض قد سُرقت وكُتبت، وكان القدر قدراً حتى أطلّت نواياك الغريبة.. لمَ رحّلت الخوف إلى مواقعهم!.. لم تركتهم جُرداً في العراء وما من مطر يغسلهم، ولا مساء يستر وسخ أكفانهم!!.

-quot;... ويرى هذا الجيل، وهو الذي تلقى تعليماً وافياً لأول مرة، ولم يعرف عهود الاستعمار، أنّ الوقت ليس وقت التسويات الاجتماعية مع النخب المحلية الحاكمة والتي يعتبرها مسؤولة عن واقع حالٍ لا يجوز السكوت عنهquot;... من مقدمة كتاب (المثقف والمناضل في الإسلام المعاصر) لجيل كيبل ويان ريشار.

مبارك هو قلبك، مباركة ثلاثا شجاعتك حين عزّت الدنيا، ومُضيك حين سكنت الريح.. بعثت شبابك أمام صدور الرصاص، ورميت عن ظهرك أصوات النكبة والضيق.. غنيت، ورقصت، وصرخت، وآمنت، وأضأت، وفعلت كل ما سألتك إياه عالية الروح.
إيهٍ يا شعب.. أخبرني عن أحلامك. هل تصحو سعيداً خادراً أم أن رجفة ليلك لا تزال تسري؟!. هل ورّدت أناشيد أحلامك، رغم أوغاد الطريق، وسفلة المدينة، وذاكرة القوم التي ما وسعتك.. رغم نُخب زمان الهرج، الذين ما عقدوا لك نصف عقدة ولاء. لصوص البوادي هؤلاء، ما عرفوا سوى أنفسهم..
قلبي ثقيلٌ بك اليوم. سأغنيك في مرامي الصباحات الجديدة. سأمضي بك.. بخطو مرصوص يمسك بعضه بعضا، وسأقف من أحلامي على مسافة باب وشبّاك.. وانثرها في وجوه الرمل. سأخرج، كما رمحٍ من برق ما خنقه الغيم والسديم.. وأكذب بصدقك على نفسي، وأخاتل في ظهورك وحشَة الوجود..
جُمل الأنبياء مضَت، وأرواح الأولياءٍ اختبأت.. وما من سوى أصابعك.. تعبّد الدرب وحدها!!. ما من سوى روحك الآن، نحفّها بالأنفاس والصلوات والأماني، ونخاتل معها الدرب.. يوماً وليلة.. ويوماً وليلة..

[email protected]