قبل ما يقارب النصف قرن، وقف ثائر عربي اسمه quot;أحمد الثلاياquot; أمام حاكم اليمن quot;أحمد حميد الدينquot; الذي أراد معاقبته أمام حشد من الجماهير. وقبل إعدامه سأله الإمام أحمد: quot;يا ثلايا لقد أحسنّا إليك، فعلمناك في مكتب الأيتام ثم بعثناك إلى بغداد، ثم رفعناك وعينّاك معلما للجيش، وبنينا لك بيتاً!quot;. فأجابه الثلايا بالقول: هذا صحيح، هذا ما قدمته لي، لكن ماذا قدّمت لهذا الشعب!. هنا قاطع الإمام أحمد حديث الثلايا لكي لا تتأثر به الجماهير، وسأل الجماهير بجانبه: quot;ما جزاء من ينكر إحسان الإمام؟quot; فقالوا: الموت. وهنا أمر السيّاف فقتل الثلايا (الموسوعة اليمنية- مركز دراسات الوحدة العربية،2003، ص791).
يتفهم الإنسان وقوف السلطة المستبدة ضد المصلح ورائد التغيير. ولكن من غير المفهوم أن يقف أفراد من الشعب ضدّه، وخاصة في حال كان هذا الفرد لم يقدم ما يسيء للشعب وكل جُرمه كان في وقوفه ضد الممارسات السلطوية في بلده.. الناس يختلفون عن السلطة، ولا يُعقل أن المشكلة مع السلطة تُورث مشكلة مع الشعب!.
لكن على ما يبدو، هذه صَنعةٌ عربية بامتياز.. ولّدها زمن خوف وتواكل وضعف في المشاركة وإحقاق الحقوق.. الباحث الأجنبي الياباني نوتوهارا الذي أمضى أربعين عاماً من عمره في تعلم العربية وزيارة البلدان العربية، يقول في ملاحظة عنهم في كتابه (العرب):quot;السجناء السياسيون في البلدان العربية ضحوا من أجل الشعب ولكن الشعب يضحي بأولئك الأفراد الشجعان، فلم نسمع عن مظاهرة أو احتجاج عام في أي بلد عربي من أجل قضية السجناء السياسيين. إن الناس يتصرفون وكأن قضية السجين قضية فردية تخص أسرة السجين وحده، وذلك من أخطر مظاهر عدم الشعور بالمسؤوليةquot;.

الشعب حامل بعضه
أمرٌ مريع ما يحدث في بعض أجزاء العالم العربي اليوم. حكومات تبطش وتقتل شعبها، والشعب لا يستطيع أن يزيل الحكومة القاتلة!.
لا تكمن قوة القذافي ولا صالح ولا بشار في قوة جيش وعتاد، ولا في نخب تلتف حولهم، بقدر ماهي في وجود قطاع شعبي داعم لهم. نعم، فحتى أعتى الطغاة يوجد لديه من يدعمه ويخلص في حبه ويرغب في بقاءه.
وجسدٌ كبير من أي شعب قد يرفض فكرة التغيير والإصلاح وهو في ظل استبداد، لأنه وقع لفترة طويلة تحت مظلة هذا الاستبداد، فتكون طباعه وطريقته قد ألفت الوضع السائد الذي كانت quot;حكايةquot; السلطة فيه هي الحكاية العليا والوحيدة دوماً. وأًصبح ذلك الجسد من الشعب منتميا لهذه الحكاية بروحه وفكره.
هذا الجزء من الشعب قد يدعم الطغاة، ويجعلهم يتمادون في استبدادهم. وهو ما يمكن السلطة المستبدة من أن تنتصر على باقي الشعب وتقوى ضده.. مع أن الشعب مع الشعب أٌقرب من الشعب إلى السلطة، ولكن سلطات الاستبداد اعتادت أن تقطّع أوصال الشعب، وتوزع أركانه، لتكون هي الوسيط والوسيلة بين أجزاء الشعب مع بعضه البعض. يقول جمال عبدالجواد مدير مركز الأهرام للدراسات: quot;الحكام المستبدين يكسبون التأييد بسبب خوف الناس بشكل أكبر من رفاقهم المواطنينquot;. كما يوضح برهان غليون أنه خلال الثورة الحالية بسوريا، عمل النظام بدأب على مَنهجة وترويج الطائفية وبث أفكارها بين الناس ليسلم هو!.
إن تأخر انتشار الوعي السياسي وثقافة المشاركة وتعمّمها لدى شعب يعود إلى quot;عطالة ثقافيةquot; أُصيب بها تبعا لوقوعه تحت حالة هيمنة. ومفهوم الهيمنة quot;الحديثquot; كما يعبر عنه غرامشي يعني أن الطبقة المهيمنة تُقنع الطبقات المتوسطة والشعبية أن مصلحتها هي مصلحة الطبقة الحاكمة.. فيتحول هذا لمعتقد عام بين المواطنين، ويعيق عن مسألة التغير والتمرحل التاريخي لدى المجتمع ويجمّده عند نقطة معينة.
لقد كان الفرد عبر التاريخ مستهدفاً من قبل مختلف أنواع السلطات.. ولابد من فك الارتباط، ليعود الإنسان إلى ذاته. وحين يولد الفرد الواعي يولد الشعب الواعي، ويتواجد الشعب الذي يتعرّف نفسه ويتحاور مع أجزاءه، لا أن يكون مشغولاً بالحوار مع خارجه!.
أفهم أن يكون الحوار بين أجزاء الشعب نفسه، لكن لا أفهم كيف يكون هناك حوار بين سلطة مستبدة وشعب!. إن quot;فحوىquot; المفاهيم لدى هذه هذا النوع من السلطة يختلف عنها لدى الشعب، وهي لا تتماثل معه لا في الفهم ولا في المقاصد، لذا فالحوار غير منتج، وانظروا للحالات التي سمعنا فيها أن سلطة عربية تريد أن تتحاور مع الشعب.. كلها كانت فاشلة.

كل ثورة لا بد لها من قاموس
لابد أن يكتب العرب اليوم قاموساً جديداً، فالثورة الشعبية تتضمن عدّة ثورات في داخلها، ومن ذلك أنها تعيد تشكيل الفكر وترتيب الأولويات.
ثورة الشعب الكبرى في أوروبا تزامن معها أو قبلها بقليل صناعة الموسوعة الفلسفية الشهيرة، التي تكاتفت في كتابتها جهود فلاسفة من مشارب مختلفة، فكتب فيها ديدرو وفولتير وروسو وغيرهم.. وقبل هذه الموسوعة كان لكلمة quot;الشعبquot; معنى مذموماً في ثقافتهم، لكنها أخذت معنىً جديداً منذ العام 1750، فقد اعتبر محررو الموسوعة أن الشعب هو quot;الجزء الأكبر عدداً، والأكثر ضرورة من الأمّةquot;. وكذلك معاني مثل quot;أمّةquot; و quot;قوميquot; أخذت تتطور منذ تلك الفترة.
إن الشعب ليس الكائن المريض، ولا الوحش السادر، ولا البضاعة المهملة. الشعب هو الوسط الطبيعي الذي يُفترض أن تصدر عنه الأمور، وهو الحَكم، والمساحة التي تُطبّع الطبائع، وتَسن العُرف، ولا يسير الماضي إلى المستقبل إلّا عبرها!. يكذب على الشعب من يزدريه ولا يؤمن بحقه، وعظمته التاريخية، وتجذره في الأرض والروح.
هناك نصف شعب متحفز للتغيير، ونصف شعب آخر لا يريد أن يتغير!. نصف يهدف للحركة، ونصف يريد أن يعطّل هذه الحركة ويستوحش منها.. أنا متحيز للنصف الآخر؛ الذي يريد أن يتغير، فالظروف والمشاكل الواقعية لدى مجتمعاتنا تتطلب منّا التغير وتسألنا ذلك.
ومن هنا يلزم الحوار والانفتاح.. محبة الشعب لنفسه لابد أن تكون أعظم، وفكرة الشعب عن ذاته لابد أن تتغير. يحتاج الشعب أن يجلس مع نفسه، يستمع إلى صوت بعضه البعض، ويتألف أطرافه وزواياه، فليس الخطأ أن يختلف الشعب مع بعضه البعض.. بل الخطأ كله أن يتحول خلافه إلى قتال واحتراب وكراهية. ولو أنصف الشعب بعضه البعض لأدرك مرابط الحق، ولفك ارتباطه بالسلطة القائم على خُرافة quot;أبويةquot;.
إن أعظم ما يقف أمام ممارسة ثقافية هو ممارسة ثقافية مضادة. وأعظم ما يقف أمام شعب هو جسد شعبي آخر، لأن الشرعية عند كلا الطرفين قد تكون متساوية. إن استطاع الشعب أن يقبل بعضه البعض، فهنا سيتطور رأيه العام، وسيكون المسار العام مَقوداً عبر الرأي الوجيه، والحس المنطقي المرتبط والمحكوم بالمصلحة العامة.
أنباء حزينة من اليمن وسوريا وليبيا هذا الأسبوع والأسابيع التي قبله. إن أي مجرم لم يكن ليستمر في جرمه وقتل الشعب لو أنه وجد أمامه جسدا شعبيا متماسكاً. جسدٌ قد يختلف ويتنوع، لكنه يعرف كيف يدير اختلافاته، ويحتوي مشاكله. لكن المجرم قد أخاف الشعب بالشعب.. أخبر الشعب أن الطائفة ستقتل الطائفة، والعرق سيضطهد العرق، والعصابات هي من ستحل مكان عصابته.

[email protected]