تعتبر الطبقة الوسطى أهم طبقة في المجتمع، فهي التي تدفع عجلة الحركة والإنتاج فيه إلى المضي والسير بطريقة معتدلة، وتحميه من الانسحاب والميل إلى نهاية طرفية، قد يكون فيها غنىً مُفسد أو فقر معطّل.. وقد اعتبرت quot;الطبقةquot; ركيزة مهمة في عالم الاقتصاد، حتى قيل أن الشعب الذي يفتقد للطبقات بمعناها quot;الاقتصاديquot; هو شعب بلا تاريخ، فماركس كان يرى أن التاريخ ليس إلا تاريخاً للصراع الطبقي، وبذلك أعتبر أن شعوب آسيا هي شعوب بلا تاريخ!.
وquot;المعرفةquot; اليوم هي رأسمال مهم. فيكثر الحديث في العالم اليوم عن quot;اقتصاد المعرفةquot;، وكيف أنها تعتبر من أهم المداخيل الاقتصادية التي يمكن أن يعتمد عليها مجتمع. ففي عصر الثورة الصناعية كانت المصانع والحديد من يجلب الأموال، أمّا اليوم فالعقول المدربة والمسلحة بالمعرفة والتقنية هي القادرة على جلب ذلك. ويصعب، أن تجد شعباً يمارس الإنتاج ويحصل على quot;تنمية متكاملةquot; ما لم يكن قد استثمر في المعرفة ابتداءً..
النظر من هذه الزاوية للمعرفة باعتبارها quot;مخزناًquot; مادياً ملموساً، يجعلنا نجد أنها تقدم quot;طبقيةquot;، وتقسيم معرفي للناس في المجتمع بحسب موقفهم منها وكأنها quot;رأس مالquot;!. فهناك، إذن، من يحوز المعرفة ويُنفق منها، وهناك من يتفاعل معها، وهناك من يُستهلك فيها، ويكون مُستخدَماً عبرها فقط.. هذه الاستعارة لمسألة تقسيم المجتمع quot;معرفياًquot; تتيح لنا نظراً وتأملاً جديداً للمجتمع، كما أنه لا يوجد في هذه الاستعارة قفزاً ولا مجازفة، فلطالما رفدت العلوم بعضها، واستخدمت مفاهيم بعضها البعض.
فالاستعارة في علم الاجتماع لمفاهيم من علوم أخرى هي ممارسة بدأت منذ ولادته quot;الحديثةquot; كعلم، وازدهرت بعد فترة quot;التنويرquot;. فالالتصاق الذي حصل بين الواقع الدنيوي ومفهوم التنوير، جعل هذا الأخير يميل إلى أن يكون quot;تجريبياًquot; مشاهداً وملموساً في كل أبعاده. وبدأ من هنا التباعد والافتراق بين الفلسفة كخط quot;تجريديquot; وباقي العلوم الإنسانية، بعد ميل هذه الأخيرة إلى التجريب، ومحاولتها التمنهج تبعاً لأنساق العلوم الطبيعية، ومحاكاتها في المفاهيم أيضاً..
كما أن التسارع الذي حدث في مجال التنظير للعلوم الإنسانية بعد هذه الفترة، جعل روادها يستدعون المفاهيم من حقول أخرى غيرها كي يسدّوا الفجوات ونقص المفردات التي يحتاجها التنظير في هذه العلوم. فيذكر الجابري أن العلوم الإنسانية حين بدأت تتخذ طابعاً علمياً، استعانت بالمفاهيم quot;الفيزيائيةquot; خاصة. فأوغست كون مؤسس quot;علم الاجتماع الحديثquot; قد سمّى علم الاجتماع بالـ quot;الفيزياء الاجتماعيةquot;، وقسّمه على غرار الفيزياء الطبيعية إلى quot;ستاتيكquot; وquot;ديناميكquot;. ومثله فعل ماركس حين استعار مفاهيم مثل quot;قوى الانتاجquot;، quot;رأس المال الثابت، والمتغيرquot;... وفرويد أيضاً استعار مثل هذه المفاهيم في التحليل النفسي، كـ quot;الاسقاطquot;، التصعيدquot;، quot;الإنفاقquot;، وغيرها..
وبشكل مماثل لاستخدامها الاقتصادي، معرفياً، نجد أن وجود الطبقة الوسطى من عدمه يتحدد من مسألة المشاركة..
وأجزم أن quot;الفقر المعرفيquot; هو الذي ولّد مشاكل العرب على مستوى الدين والدنيا.. فقرُ في مواضيع السياسة والاقتصاد والدين والاجتماع.. ناهيك عن مستويات الفكر والفن وغيرها. وهذا يعود لأن الطبقات المعرفية في عالمنا تم احتكارها وإغلاقها ولم تفُتح للتفاعل مع الفرد وتبادل الأخذ والعطاء معه، بل تم استبعاده منها!. من هنا أتى الجمود والتكلس المعرفي. ففي أي quot;فنquot; من الطبيعي أن الطبقة والنخبة التي تًسيطر عليه تريد لهذا الحقل أن يتجمد ويبقى على حاله لأن بقاءه على وضعه يعني بقاء سيادتها.
إن تحرك الطبقات وقدرتها على الحركة هو دلالة نضج وحياة، ووحده النظام المستبد quot;سلطويا أو معرفياًquot; هو الذي يريد هذه الطبقات متحجرة وجامدة، فحركتها مقلقة ومهددة له، وتبدلها يعني تبدل سلطته عليها؛ لذا كلما زاد الطغيان كلما ازدادت شراسة مُقاتلة هذه النوع من التحرك. يُذكر مثلاً عن quot;أردشيرquot; ملك الفرس (عاش في القرن الثالث الميلادي) والذي يعتبر أنموذجا مناسبا للطغاة في كل مكان في طريقة حكمه وأنموذج (الملك/ الإله) أنه قال:quot;مامن شيء أسرع في انتقال الدولة وخراب المملكة من انتقال هذه الطبقات عن مراتبهاquot;، ويقصد اقتراب طبقة الناس من طبقة الخواص.
هذا المثال التاريخي يتجدد حتى اليوم من أناس لايريدون للفرد العادي أن يكبر وأن يزعج مساحاتهم. فهناك من الفرق والطوائف من يحرم على أتباعه قراءة كتب الطوائف الأخرى، وهناك من يحاول تشويه معرفة الغير، واحتكار الأتباع، ورسم المعرفة عبر طريق واحد لا شريك له.
إن اختفاء التمايزات الغير مبررة وتقليلها هو هدف المجتمعات الناجحة. في الغرب، الذين نجحوا معرفيا بتفوق نسبةً إلى غيرهم من المجتمعات، قد تجد القامة المعرفية والبروفسور يتصرف بطريقة لا تكاد تميزه فيها عن غيره، أما دكتور الجامعة في البلدان العربية فيجب أن يعرف الجميع أنه دكتور ويروق له أن يحتكر المعرفة والتسلط والمكانة!.. وفي الغرب نجحوا معرفياً وتجددوا لأن لديهم قابلية ومرونة لاكتساب المعرفة من أي مصدر، لذا ينجح الشباب هناك، وتتنفس الأفكار الجديدة، وإرادات الأمل والتغيير والنجاح يصعب على أي أحد أن يقوم بتشويهها، فللفرد quot;مدخلهquot; المعرفي المباشر عليها.


[email protected]