ترافقت ذكرى سبتمبر هذه السنة كما العادة مع قلق متزايد حول الوضع الاقتصادي في البلاد الأميركية، وهو قلق عكسه quot;خطابquot; أوباما قبل أيام من ذكرى الهجمات، الذي تمحور حول الأخطار الاقتصادية التي تعصف بالبلد. وكتبت إحدى الصحف الأميركية في ذكرى الهجمات أن تغيير أميركا quot;لنفسهاquot; يعني تحقق أهداف أعداءها الذين هاجموها، واستشهدت بعبارات لابن لادن تشير إلى قرب تغير أميركا وسقوطها.
وأمر تغيير صورة أميركا، وتفوق أميركا، وحلم أميركا، لا يبدو مرتبطاً حقيقة بمسألة الاعتداء عليها، فالاعتداء من الخارج لطالما كان مثبّتاً للصورة من الداخل، بل هناك، في داخل أميركا مشكلة أعمق تعمل على تغييرها يوماً بعد يوم.

* * *
لقد توالت المشاكل على صفحة العالم منذ أحداث سبتمبر. عالمياً، كان العقد الماضي عقداً سيئاً بامتياز. كان عقد ما سمّي بالحرب على الارهاب، الذي كادت فيه دول شرق أوسطية أن تدخل نفق حروب أهلية، نتيجة ضغط غربي عليها، إلى جانب ضغط شعبي داخلي.
وهناك مشاكل تنامت داخل أميركا نفسها. الحروب التي أقامتهما أميركا كان لهما تكلفتهما الباهظة التي لا زالت تُدفع. والبعض يميل للتفسير الذي يقول أن أزمة أميركا الاقتصادية انما نتجت بسبب التكلفة الباهظة للحروب وخصوصاً حرب العراق التي لم تكن مبررة بشكل كاف. ورغم أن سياسة أميركا الخارجية في عهد بوش لم تأت ارتجالاً فبوش وتشيني ورامسفيلد لهم تاريخ طويل مع السياسة الخارجية، إلا أن تبعات هذه السياسة الخارجية بدأت واضحة على الجسد الأميركي المتعب، وهذا ما جعل عضو الكونجرس الأميركي quot;رون باولquot; والمرشح بقوة لمنافسه أوباما في انتخابات العام القادم (2012) يقول في تصريح حديث له أن: أميركا تحت خطر حقيقي لأنها تحتل أكثر من بلد.. فماذا لو أن بلداً، كالصين، تريد أن تفعل بنا ما نفعله نحن ببلدان أخرى؟!quot;.
وتعليق رون باول ينسجم مع أطروحة المؤرخ والمفكر quot;بول كينيديquot; التي أعلنها في الثمانينات حول سقوط القوى العظمى عبر تمددها العسكري والتوسعي الذي يتجاوز في لحظة ما قدرتها الاقتصادية. وعلى مدار العقد الفائت كانت الخسائر الأميركية في تزايد. وكان السبب الأول الذي ورّث المشاكل من بعده هو مسار quot;مابعد سبتمبرquot;. فقد كتب الصحافي الأميركي المخضرم quot;كريس هيدجزquot; مقالاً بمناسبة مرور عقد على أحداث سبتمبر بعنوان quot;نحن ما نبغضquot;(We are what we loathe)، وتحدث فيه عن ردة الفعل المندفعة بعد سبتمبر، وكيف أنها عملت على زيادة المشاكل، فيقول أننا بدأنا من احتقارنا لأفعال أولئك الذين هاجمونا، وسمحنا لسياستنا أن ترتكب نفس الأمر، فبدأ الأمر مع بقتل العشرات ثم المئات ثم الآلاف ثم مئات الآلاف من الأبرياء، ووصلت أفعالنا إلى باكستان واليمن والصومال!. ثم يختم بالقول أن quot;الميراث المحزن خلال هذا العقد من هجمات سبتمبر هو أن الأوغاد من كل طرف هم الذين ربحواquot;.
وهنا أشرت لفكرة المؤرخ بول كينيدي حول انحطاط القوى العظمى، مع أن فكرة التنبؤ ورسم مسارات الانحطاط هي فكرة غير جيدة عموما، وتفتقد للدقة والعلمية رغم جاذبيتها عالمياً!. مؤخراً، اطلعت على بحث قام صاحبه بتقصى أحاديث الانحطاط وفرضيات الانكسار الحضاري بدءاً من الفيلسوف الألماني quot;اشبنجلرquot; الذي طرح فكرة انحطاط الغرب في بدايات القرن الفائت، وحتى المعاصرين أمثال المؤرخ الاقتصادي quot;نيل فيرغسونquot; والمؤرخ quot;أيان موريسquot;، مروراً بأعداء الفكرة مثل quot;جورج فريدمانquot; في كتاب له يتنبأ فيه بالعكس وأن أميركا ستكون مسيطرة تماماً على القرن الجديد، وهو تحت عنوان quot;المائة عام المقبلةquot;. ويختم هذا الباحث القول بأن فكرة التنبؤ بالانهيار سواء عن طريق quot;خطاياquot; للحضارة، أو عن طريق ترهل واكتمال دورة الحياة كما هي الفكرة quot;الشبنجلريةquot;، ليست بالأفكار السليمة، لأنه وكما يقول الفيلسوف quot;كارل بوبرquot;: ما سنعرفه لاحقاً، سيُغير ما يحدث لاحقاً. والأيام حافلة بالتطورات والمفاجآت.
ومع ذلك، ومع تجاوزنا لفكرة الانحطاط والانهيار، إلا أننا نجد بالفعل شيئاً من التطابق بين فكرة المؤرخ بول كينيدي وما يحدث في أميركا حالياً، وهو أمر لابد من الوقوف أمامه. أميركا تعاني، وهناك توسع في الانفاق على مشاريعها السياسية، وعلى خطط لم تثبت جدواها، وحتى الجمهوريون، وهم من نسج هذه الخطط، يبدو على تجهيزاتهم للانتخابات القادمة أنها تحمل ميلاً للاهتمام بالوضع الاقتصادي في البلد، على حساب قضايا الأمن القومي، والسياسة الخارجية، خلافاً لما هو معتاد.
* * *
بالتأكيد أن لسياسة quot;الحرب على الإرهابquot;، والمواجهات التي خاضتها أميركا بدواعي الأمن كلفتها الكبيرة. لكن الاستنزاف الحقيقي لأميركا يتمثل في أنها تُهزم من الداخل، كعادة كل من سقط. نعم، فرغم كل الانتباه والنقد المسلّط على سياسة أميركا الخارجية، إلّا أن مشكلة أميركا الحقيقية هي أنها بلد مرتهن للشركات الكبرى، ولازال. الشركات الضخمة هي التي تسيطر على مفاصل البلد وأوردته، بدءاً من السياسة فيه وحتى مصير المواطن العادي في معيشته وسكنه.
لقد عاشت أميركا فترة ذهبية سابقة في مقاومة الشركات. فالستينات والسبعينات كانت أياماً تفاؤلية تعكس قصصاً من النجاح الإنساني بعد قفزة النضال المدني التي شهدتها البلد. وحقوقيون ونشطاء اجتماعيون أصبحوا نجوماً مشهودين في المجتمع، مثل quot;رالف نادرquot; الذي أسس جمعية حماية المستهلك، وأصبح من أهم الشخصيات في أميركا. ولكن الشركات خاضت حروبها أمامهم بكل السبل، وبمرور الوقت انتصرت الشركات، ونجحت في إسكات الصوت المقاوم، أو على الأقل خفض درجته إلى شيء لا يكاد يذكر أمام توسعها ونموها. اليوم الشركات تسيطر على مراكز فكر، ولديها ولاءات محللين اقتصاديين وأساتذة جامعات، ولديها الآلاف في جماعات الضغط في واشنطن، ومراكز أبحاث، عدى عن سيطرة متغلغلة وممتدة في الإعلام والسياسة وصرف للمليارات في الحملات الانتخابية، بالإضافة إلى تهميش متعمد وعنيف لأي صوت نقابي وثقافي مستقل في البلاد.
وبينما عبّر أوباما في أدبياته قبل الرئاسة أنه يأسف لأن الإنجاز الذي تم تحقيقه في أميركا على مستوى الحقوق المدنية لم يتواكب معه انجاز على مستوى الحقوق الاقتصادية والعدالة في توزيع الثروات، إلّا أنه كرئيس لم يستطع أن يفعل شيئاً أمام سطوة الشركات. بل قدرة هذه الشركات وصلت إلى الذروة في عهده. ففي العام الماضي قررت المحكمة العليا في أميركا السماح للشركات بتمويل إعلانات انتخابية!. وهو ما دعا أوباما نفسه للاعتراف علانية بهيمنة الطبقة الرأسمالية في البلد، وأعلن أن هذا الحكم يتيح للمجموعات الضاغطة أن تصرف الملايين لفرض من تريد، ومعاقبة أي صوت يخالفها.
ووصف الكاتب كريس هيدجز هذا الحكم القضائي بأنه يؤكد أن أميركا تعيش quot;شمولية معكوسةquot;. فالشركات وبشكل مزمن تستثمر الواجهة الديمقراطية والقوة الشرعية في البلد للحصول على تفسيرات قضائية وتشريعية معينة، كما تجيّر حرية الرأي وحق الشعب في التماس لدى الحكومة والضغط لأن تكون مع غيرها من نوافذ الديمقراطية أدواتاً ناجحة للأقوياء على حساب الناس.
* * *
في كل مرة يتجدد القلق في أميركا، والسبب الجوهري لهذا القلق ليس مسألة الاعتداء عليها، وهو الأمر الذي لم تشهده منذ هجمات سبتمبر، بل سطوة الشركات الرأسمالية وهيمنتها على البلد وجميع قطاعاته. ويبقى الأمر المقلق أن المقاومة والممانعة المضادة للهيمنة الرأسمالية وانتصار الشركات (انتصارها الذي لا يقف عند حدود أميركا) يأتي شكلها باهتاً بمرور الزمن، وبزخم لا ينافس أبداً تطور الشركات وquot;تفرعنهاquot;.
وفي الأيام الماضية، بدأ حشد من المحتجين، الشباب في الأغلب، بالاعتصام في شارع وال ستريت (شارع المال والبنوك) في نيويورك. هؤلاء المحتجون أكدوا في مواقعهم أنهم يعزمون على الاعتصام لأشهر حتى يرضخ اوباما لطلباتهم بتحرير السياسة الاميركية من سلطة اهل المال؛ وهو أمر مشكوك في قدرة أوباما وادارته عليه. وكما نقلت صور الفيديو وأخبار الصحف، فإن أشكال هؤلاء الشباب، الذين تجمهروا ببضعة مئات، ومطالبهم أمام سطوة الأغنياء وشركاتهم، لا يبدو أنها تشكل أي رسالة ضغط ومناكفة حقيقية لعالم الشركات ورأس المال. فلماذا أصبحت المقاومة في عالم quot;رأس المالquot; تبدو باهتة وضعيفة؟ هذه مسألة تحتاج إلى وقفة، وهي موضوع المقال القادم.

[email protected]