الشاب النرويجي الذي قام بالعمل الإرهابي مؤخراً قد قدّم خدمة للمسلمين والمهاجرين في الغرب الذين يكرههم، فهو بتصرفه المتطرف والشنيع يدفع الوسط المجتمعي الطبيعي في الغرب للارتداد عن التطرف اليميني الذي شكّل ثقافة quot;متناميةquot; هناك.
هذا الأمر مشابه لما حدث لدى قطاعات كبيرة من المجتمع المسلم، فكثيرون اتجهوا إلى سياسات الانفتاح والتحرر كردة فعل منهم على ما شاهدوه من موجات تشدد مرت بها مجتمعاتهم، وأنتجت عُنفاً وإرهابا في داخلها.
صعود اليمين
في أيلول/ سبتمبر الماضي ذكرت مجلة quot;النيوزويكquot; البريطانية أن quot;سقوط مقاعد برلمانية في أيدي المتطرفين يُعتبر أكبر هزّة تتعرض لها القارة الأوروبية منذ انحسار الشيوعيةquot;. وما كتبته النيوزويك أتى بعد دخول الحزب اليميني السويدي لأول مرة إلى البرلمان وحصده لما يقارب ستة بالمائة من الأصوات (عشرون مقعداً)، بالرغم من أن السويد كانت أنموذجاً قائداً في أوروبا لسياسة الانفتاح والتسامح والترحيب بالمهاجرين. واعتبرت المجلة أن هذا دلالة على الاتجاه الذي ستسير إليه أوروبا.
ومن يراقب الانتخابات البرلمانية في أوروبا عبر هذا العقد لابد أن يلفت انتباهه صعود موجة الأحزاب اليمينية المتطرفة، وبعض منها يدخل البرلمان في بلده لأول مرة. ففي العامين الأخيرين كانت نسب دخول البرلمان بالنسبة لأحزاب اليمين الشعوبية في أوروبا تتراوح بين العشرة إلى العشرين في المائة، تصل إلى الذروة مع quot;الحزب التقدميquot; اليميني في النرويج الذي 23% من المقاعد في انتخابات 2009.
التطور خلال هذا العقد للقوى اليمينية يعتبر شيئاً لافتاً. فلو تذكرنا ، ففي بداية هذا العقد تمت مقاطعة النمسا من قبل بقية الولايات المتحدة وبقية أوروبا وذلك بسبب اشتراك الحزب اليميني ليورك هيدر في تكوين الحكومة!. ولكن بعد سنوات أصبحت القوى اليمينية هي التي تَشغل المشهد الأوروبي بمطالباتها وأصواتها التي علت، وأصبحت الحكومات التقليدية في أوروبا بما فيها الاشتراكية واليسارية تخطب ودّها. وحركات quot;النازية الجديدةquot;، رغم كونها محظورة، إلا أنها من وراء هذا التصاعد اليميني أصبحت تُرسل رسائلها وأدبياتها بوضوح..
يبدو أن ما يحصل في أوروبا هو مناخ ومزاج عام بدأ في التجلّي بشكل واضح على الساحة. لقد استنفدت فكرة quot;أوروبا الموحدةquot; أحلامها وquot;اليوتوبياquot; التي كانت ترسمها، والأزمة الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة لابد أنها لعبت دوراً في ذلك.
ويعرض بعض المحللين أسباباً لتصاعد اليمين في أوروبا، فمن ذلك أن القوى اليمينية تعرض حلولاً سهلة لمشاكل اقتصادية معقّدة، مثل مسألة طرد الأجانب لتقليص البطالة. وأيضاً حجم تنامي الكراهية للإسلام، واللعب على وتر تهديد quot;الهويةquot; الذي يمثله الإسلام، والتحذير من أسطورة quot;أورابياquot;. بالإضافة إلى تراجع قدرة الأحزاب السياسية التقليدية على تقديم الحلول.. ولا ننسى دور quot;البروباجنداquot; التي قادها بوش وبلير في حروبهم هذا العقد، وانعكاساتها على العلاقة مع العالم الإسلامي..
هذه الثقافة المتشددة استهدفت التعايش المشترك وسياسات الانفتاح، واستمرت تستثمر ثقافياً ما تسمّيه تهديد العالم الإسلامي لها. ومن بين أيديها نشاهد اليوم كمّا واسعاً من المتطرفين الذين يتجاوزون، في أفعالهم، هذه الثقافة التي أنتجتهم. وهؤلاء من المتطرفين جداً، ولحسن الحظ، هم من يقوم بإماتة هذه الثقافة بأبعادها المتشددة وجعل المجتمعات الغربية تقوم لفظها.
ومن الخصائص الملحوظة في اليمين quot;الجديدquot; في أوروبا هو ذلك التضافر العميق له مع الصهاينة وداعمي اسرائيل. فكاره المسلمين المتطرف جيرت فيلدرز زعيم حزب الحرية اليميني الهولندي يقول أن quot;إسرائيل تخوض الحرب ضد المسلمين من أجلنا نحنquot;. والنرويجي بريفيك صاحب العملية الأخيرة استشهد في quot;المانفيستوquot; الذي كتبه بأٌقوال متطرفين صهاينة، وفي كل مرة يذكر اسرائيل كان يذكرها بشكل إيجابي. وهناك الكثير من الأمثلة التي تدلل على هذه العلاقة الجديدة بين اسرائيل واليمين المحافظ، رغم أن العلاقة تاريخياً لم تكن بهذا الشكل.
إن تعاضد اليمين المتشدد مع اسرائيل مسألة تحتاج إلى بحث بالفعل. لكن نستطيع القول بملاحظة مبدئية أن اسرائيل ككيان متطرف، تواءم مزاجها مع اليمين المتطرف، فاليهود المنحازون لإسرائيل يحاولون اللحاق بالعالم وتدارك وجودهم المتراجع، لذا هم يعيدون إنتاج أنفسهم بشكل يأتي متضامناً مع هذه القوى المتطرفة الجديدة كردة فعل على اندماج المسلمين، وقوتهم الفكرية والديموغرافية، الذي تتنامى بشكل طبيعي في مجتمعات الغرب.
المجتمعات لا تتطرف
الأفراد والجماعات التي تقوم بعمليات تخريب متطرفة عادة ما تأتي من بيئة وقطاعات اجتماعية لديها بدورها نوع من التطرف. هذه البيئة وquot;الحيز الثقافي المتشددquot; ليست بالضرورة متبنية للعنف أو التخريب المباشر الذي يعاقب عليه القانون، لكن لديها نوع من تغذية ثقافية متطرفة ومتشددة، تدفع في النهاية بعض الأفراد لتجاوز ظِلالها في التطرف. هذا ما دفع متطرفين مسلمين للاستشهاد بأقوال قادة متشددين يعيشون حياة طبيعية في مجتمعات المسلمين ومجتمعات الغرب. كما أن بريفيك النرويجي يعود في quot;المانفستوquot; الذي كتبه إلى بعض المتطرفين المحرضين ضد الإسلام، وهؤلاء ليسوا مطلوبين قانونياً فهم لا يحرضون على العنف مباشرة!.
هذا القطاع المتشدد ثقافياً تنامى في مجتمعات الإسلام والغرب، ولو استمر في تناميه لخلق صداماً على مستوى ضخم بين هذه المجتمعات. لكن ربما أن المتطرفون وأهل العنف ممن يستعجلون هذا الصدام -وياللمفارقة- هم السبب في عدم حدوثه. فبسبب أعمالهم التخريبية الممقوتة، يرتدّ الوسط المجتمعي الطبيعي عن منطقتهم، بل وعن الحيز الثقافي المتشدد الذي أتوا منه.
ومن حيث لا يدري المتطرفون، عملياتهم الإرهابية التي يقومون بها تساعد في نشر ومد ثقافة تسامح وانفتاح كردّة فعل على أعمالهم التي لا تجد مكاناً لها في الوسط المجتمعي الطبيعي. المجتمع يلفظ هذه الأعمال ويتباعد عنها دوماً عائداً إلى وسطيته. ولا يوجد شيء نستطيع أن نراهن عليه أكثر من ثقتنا بطبيعية المجتمعات، ومحبتها لحياتها البسيطة الاعتيادية رغم كل التجاذبات التي تحدث لها.
التعليقات