ليس من علاقة أكيدة بين ازدياد التدين في المجتمعات الإسلامية، ومسألة التصويت لأحزاب إسلامية. تجربة إندونيسيا خير من يخبر عن ذلك. فاستطلاعات منظمة quot;جالوبquot; 2009 أشارت إلى أن إندونيسيا تعتبر من أكثر بلدان العالم ارتباطاً بالدين. ولكن في ذات العام تراجع تصويت الشعب للأحزاب الإسلامية في انتخاباته الوطنية. فبعد أن كانت هذه الأحزاب قد نالت ما يقارب من 45% من المقاعد في 2004، حصلت على 30% فقط في العام 2009، بينما حصلت الأحزاب العلمانية على أكثر من نصف الأصوات في هذا العام.
ولكن التجارب الديمقراطية الشهيرة لدينا، جعلت الديمقراطية حاملة أكيدة للانتصار الإسلامي، وأصبح هذا الأمر مسلّمة. هذه التجارب هي: فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في تجربة الجزائر 1991، العدالة والتنمية في تركيا 2002 و2007، وحماس في فلسطين 2006. ويضاف إليها اليوم نتائج التجربة الديمقراطية في مصر وتونس، التي أتت لتعلن تقدم التوجه الإسلامي في التصويت على ما عداه.
المسألة برأيي ليست في حدوث التصويت quot;إسلامياquot;، بل في استمرار حدوثه!. نعم، فالتصويت إسلامياً كان متوقعا في التجارب العربية في الوقت الحالي، ولذلك أسبابه التي منها، كثافة الأدبيات الدينية، وسعة النشاط الإسلامي وحيويته في المجتمعات العربية، والخروج من عباءة الطغيان السابق التي كانت ظاهرة بشكل أكبر كاضطهاد واسع للإسلاميين، بالإضافة إلى مسألة الحرب على الإرهاب خلال هذا العقد التي جعلت الكثير من المجتمعات الإسلامية تشعر أنها وهويتها الإسلامية محل استهداف..
هذه أسباب تؤكد أن ما حدث (باستثناء تجربة تركيا) يعني أن هذه المكاسب الديمقراطية للإسلاميين تمثل quot;ارتداداًquot; إليهم، أو quot;موجةquot; من التأييد لا يوجد ما يضمن استمرارها، في ظل بقاء تجربة ديمقراطية سليمة. ونتائج هذه التجربة والممارسة الديمقراطية هي التي ستحكم إن كان التصويت سيظل إسلامياً أم لا، أي أن أداء الإسلاميين المدني والسياسي سيكون معيار ذلك.
قد يقول شخص أن التجربة الإندونيسية تختلف، نظرا لطبيعة نشوء الدولة والنموذج الثقافي للإسلام هناك. وهذا صحيح، فلكل مكان طبيعته واختلافه، لذا من الممكن أن نتأمل في ظروف كل تجربة على حدة، ونقدم تصوراً عنها وعن مآلاتها. والربط والقراءة لتجربة الإسلام السياسي في الممارسة الديمقراطية يعتمد برأيي على القدرة الفكرية والمدنية لهذه الأحزاب. فالفتح quot;السياسيquot; الذي تحقق لهذه الأحزاب لابد أن يتعاضد مع فتح quot;فكريquot; ليكتمل نجاح هذه التجربة. فحزب quot;النهضةquot; في تونس حريّ ومؤهل للنجاح لما ارتبط به من مراجعات فكرية وتنويرية تجسدت في فكر قائده المفكر الشيخ راشد الغنوشي.
ولكن الحالة المصرية تختلف عن ذلك. فكما أن quot;سلفيةquot; المغرب العربي ممثلة في فكر شيخها الراحل علّال الفاسي تختلف في انفتاحها وفكرها عن سلفية الخليج. كذلك حركة النهضة قدمت هي أيضا نسخة منفتحة ومختلفة عن فكر quot;الإخوان المسلمينquot;. فحركة الإخوان في مصر ليس لديها تنظير فكري مكتمل وصريح في مسائل فكرية وحيوية في المدنية والمساواة على أسس المواطنة. والمراجعات التي اشتهرت صدرت من أعضاء كانوا في السجن، أو من شباب في الحركة يتجاهلهم قادتها.
وقد كانت الحركة تؤجل وتتجنب مسألة المراجعات تحت دعوى الضغوط الأمنية والقمعية تجاهها. لكن هذا الظرف تغير بعد الثورة، وبعد نجاح الحركة في حصد الأصوات. لذا قال القيادي السابق في الحركة الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح أنه quot;إذا لم تغير الجماعة من نفسها بعد الثورة، سيكون ذلك إيذاناً بالقضاء عليهاquot;. وليس لدى الحركة مراجعة فكرية ولا بُنية ديمقراطية داخل التنظيم تُرشح نجاحاً سياسياً لها، فقوانين الولاء المطلق قائمة، والطاعة مطلوبة، والمرشد باق باق. ومن لم لا يلتزم يتم اخراجه من quot;قبيلةquot; الاخوان ومن التنظيم مثل ما حدث مع أبو الفتوح وأبو العلاء ماضي وغيرهم.. بالإضافة إلى صراع الجيل الشاب داخل التنظيم مع قياداته.
والمراجعات والجدليات الفكرية لم تحدث مع فكر ليبرالي ومتحرر مثل ما فعل الغنوشي، بقدر ما كانت مستقطبة تجاه الأزهر أو السلطة السياسية، أو للتحرر من اقتراب فكر متطرف مثلته quot;الجماعة الإسلاميةquot;، أو السلفيون في مصر. وحالها تجاه رواد التحرر والتجديد في داخلها، أوجزه الدكتور يوسف القرضاوي بقوله أن أكثر ما يخشاه على الحركة quot;أن تضيق بالمفكرين الأحرار من أبنائها وأن تغلق المنافذ في وجه التجديد والاجتهاد، وأن تقف عند لون واحد من التفكير، وعندئذ تتسرب الكفايات العقلية من بين صفوف الحركة ولا يبقى إلا الحافظون المقلدونquot;.

أمّا السلفية، الرابح الثاني من الإسلاميين في مصر، فيصعب انتظار شيء مدني وسياسي من قبلهم، فلا زالوا في حال ربكة أمام المجال السياسي، وفتاواهم ومواقفهم quot;الطازجةquot; قبل الثورة، ضد الديمقراطية والتعددية والثورة لم يحدث تجاهها أي مراجعة أو توضيح تواكب انخراطهم في العمل السياسي!. والحركات الإسلامية عموماً بما فيها الإخوان، كان لها سابقة تعاون حتى مع الاستبداد، لكن لم يحدث أن كان لها تعاون مستمر وقوي مع الحركات المدنية التي ولدت في المنطقة، وهذا قد يعكس ضعف ثقة بالديمقراطية.
في التجربة المصرية المهمة، التي ستؤثر حتماً على غيرها في المنطقة، يبقى سؤال استمرار التصويت إسلاميا من عدمه معتمدا على تجربة الإسلاميين السياسية. لا أعتقد هناك ما يمنع أن تكون تجربتهم قريبة لأمثالهم في إندونيسيا، بعد أن أنزوت الأصوات عن أولئك بمرور الزمن، وذلك كردة فعل شعبية على تقصير مدني وخدمي من هذه الأحزاب. أما التجربة التركية فيصعب أن تكون قريبة، لأن هذه الأخيرة وليدة خبرة مدنية وسياسية ناضجة استمرت تمرحلاتها لأكثر من سبعة عقود، وتجاورت مع أحزاب علمانية قوية ساهمت في صقلها. والتجربة الإيرانية لن تكون قريبة أيضاً، لأن الشباب الإسلامي المثقف في إيران، المتخرج من الجامعات الإيرانية (القوية) وقت الشاه، كان قد تعاضد مع العلماء والقادة الإسلاميين الكبار لفترة طويلة قبل الثورة على الشاه، ممّا ولد طبقة صلدة أثّرت بقوتها وتماسكها على مشهد ما بعد الثورة في إيران، وحكمته. وهذا النوع من التعاضد والتلاحم لم يكن موجودا قبل الثورة المصرية.
في العام 2010 أصدرت مجلة دراسات الديمقراطية في أميركا دراسة بعنوان quot;هل يصوّت المسلمون إسلامياً؟quot;(Do Muslims vote Islamic?). وقام فيها الباحثان باستقصاء وتحليل لتجارب الأحزاب الإسلامية خلال الأربعة عقود الماضية، حيث دخلت هذه الأحزاب في تجارب انتخابية لأكثر من 160 مرة. بعضها تم في أجواء انتخابية حرة، وأخرى حدثت في أجواء استبداد وتلاعب. والمفاجئ الذي تذكره له الدراسة عبر تحليلها لهذه التجارب، أنه في المنظور الواسع، لم تكتسح الأحزاب الإسلامية في أجواء الانتخابات التي اعتبرتها الدراسة، أجواء انتخابية حرة، بل قلّت درجة التصويت لها. وتعلن أنه بينما قمع السلطة في البلدان الإسلامية لم يستطع الانتصار على هذه الأحزاب، فإنه في المقابل لعب دورا في دعم التصويت لها ورفع شعبيتها. وما خلصت له الدراسة يتوافق مع ما ذكرته quot;منظمة مسوح القيم العالميةquot; (World Values Survey Association)، من أن الدعم الشعبي لتطبيق quot;الشريعةquot; يكون مرتفعاً في البلدان الأقل حظاً في حريتها السياسية. بمعنى آخر، حين تتوفر الحرية للشعب لأن يصوّت للأحزاب الإسلامية فهو لا يميل لذلك. هذا ما تقوله أرقام الدراسة، وهذا ما سَيختبره العرب في قادم أزمانهم.

[email protected]