لاشك أن زيارة بشار الأسد إلى حي بابا عمرو المنكوب في حمص، التي بثتها شاشات التلفزة يوم الثلاثاء الماضي هي حدث يحار المرء في تفسيره بكل ما أوتي من قدرة على الفهم.
جدران متداعية، بنايات منهارة، في مشهد يبدو كما لو أنه من مناظر الحرب العالمية الثانية. وفجأة يظهر في الشاشة بشار الأسد متجولا وحوله حفنة من البشر يتحدثون بلغة مصحوبة بضوضاء.
من يحدق في الوجوه التي تبدو منزعجة عبر التفاتاتها المتكررة في كل اتجاه من حول الرئيس، وعليها علامات الحذر والانتباه، يدرك تماما أن هذا الموكب موكب حفنة من المجرمين ولا يدل إلا على غريزة بدائية في مكان معتم من دماغ بشار الأسد ؛ إنها غريزة الانتقام التي فسرت أسارير وجه الأسد فيما هو يتحدث مع شبيحته.
ذلك أن ما بدا في وجه الأسد من تعابير دلت تماما على المعاني التي خذلته وظهرت على صفحات ذلك الوجه رغما عنه فكانت أصدق من الهراء الذي يتحدث به أمام الكاميرا.
هكذا جاءت الزيارة فجأة ودون مقدمات لتزيد من غموضها وعبثيتها. فلو تساءل عاقل ما هو هدف الزيارة لا يكاد يدرك لها معنى معقولا.
في العادة لا يمكن لعاقل أن يزور مكانا خربا وخاويا من الناس كبابا عمرو. وبما أن كل ما حول الأسد في ذلك المشهد كان دليلا على الحرب والخراب، فمن الطبيعي جدا ــ إذا كانت الزيارة عادية وذات معنى ــ أن يكون هناك جرحى ومصابون ليواسيهم quot; سعادة quot; الرئيس فأين الجرحى وأين المستشفيات ؟
هنا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام دلالة واضحة لتلك الزيارة وهي غريزة التشفي البدائية. ولأن مثل هذه الغريزة غريزة عمياء فإن مايصدر عنها يخرج عن نطاق المعقول. ولهذا فإن الشخص الوحيد الذي يقوم ويأمر بمثل هذه الزيارة سيكون هو بشار نفسه تحديدا. أي أن أي تبرير منطقي وتساؤل حول مغزى هذه الزيارة من مخرجي ومدبري مسرحيات الرئيس الإعلامية، قبل الإقدام عليها من باب إجادة الدور لن يكون محط اهتمام الرئيس. وفي هذا التأويل الذي تدل عليه هذه الزيارة ربما يسقط ذلك القناع الذي توهمه البعض من أن بشار ليس هو المتصرف الأول في إدارة وتوزيع القتل المتنقل في عموم سوريا. فهذا الفعل الذي قام به بشار في زيارته إلى بابا عمرو تحديدا هو دالة واضحة بحسب رأي علماء نفس الجريمة في الدلالات النفسية لفعل المجرمين ؛ فمن حقائق علم نفس الجريمة أن القاتل عادة يدفعه الفضول للعودة إلى مكان الجريمة. وإذ يعود الأسد ليتفقد الخراب الذي تم بأوامره في بابا عمرو، يتناسى أن تقارير لبعض المنظمات الإنسانية تحدثت عن اختفاء الآلاف من سكان بابا عمرو ولا يعرف مكانهم حتى الآن.
أمام هذه المفارقة التي تعكس مدى صفاقة هذا النظام، وبمثل هذه الزيارة الانتقامية كيف يمكن لمن يرى مثل هذه الغرائز الأولية لرأس النظام، أن يتوقع منه إمكانية للحوار في الشأن السياسي. فالسياسة بما أنها إدارة للشأن العام حين يتم إدراجها في منطق غرائزي بحسب عقلية هذا النظام، سيبدو لنا كم هو البون شاسعا بين هذا النظام وبين قدرته على التعاطي السياسي مع قوى المعارضة ومع العرب والعالم ؟
إنه نظام مصمم على التدمير الذاتي، ولا يملك أدنى قدرة على تمثل ذاته خارج دائرة العنف والقتل.
وكنا قد ذكرنا هذه الطبيعة الحصرية للنظام في قابليته فقط للانهيار عبر العنف منذ الشهور الأولى لاندلاع الثورة السورية في أكثر من مقال، وهاهي هذه الزيارة تؤكد أسلوب النظام المؤذي والمستفز والصفيق في رؤيته للعلاقة بينه وبين الشعب السوري بمنطق قروسطي تعيس، لا يمكن أن تحجبه كل تلك الأكاذيب والمسرحيات البليدة والتافهة.
ما لا يدركه النظام ورأس النظام ــ ولن يدركه أيضا ــ هو أن جدار الخوف الذي انهار بينه وبين الشعب مرة وإلى الأبد، ولابد أن يؤدي إلى نهايات طريق الحرية المفضي إلى إسقاط النظام، فالإحساس بالحرية أصبح حقيقة يومية في روح الشعب السوري، وهي حقيقة تأتي هذه المرة بعد أن وقعت المعجزة في كل من تونس ومصر وليبيا. فسقطت الأنظمة أمام أعين السوريين : هرب بن علي، وسجن مبارك، وقتل القذافي شر قتلة.
وحدها الرغبة في تحقيق المعجزة التي وقعت في مصر وتونس وليبيا هي الوقود الحقيقي لروح الثورة السورية، لاسيما إذا كان هذا النظام في بطشه وقمعه أكثر رعونة من نظامي تونس ومصر.
ولأن منطق السلطة العربية في مثل هذه الأنظمة الانقلابية هو تماما مثل منطق سباق الفيران التي تقع في المصيدة دون أن تتعظ عبر تحالات الوقوع المتكررة، فإن حدثا كالذي قام به بشار الأسد في زيارته لحي بابا عمرو تحديدا ثم قطع الزيارة فجأة، هو بذاته ما يحيل على مدى انفصام بشار الأسد عن الواقع الذي ينهار من حوله ؛ وهذا بالضبط ما سيدفعه إلى نهاية وخيمة تماما مثل نهاية القذافي لا غير.
وعلى طريقة النظام في التمادي والعنجهية، نجده في نفس يوم الزيارة لمسرح الجريمة، أعلن النظام أن سوريا ستقبل بالنقاط الست التي عرضها كوفي أنان في مبادرته الدولية التي تلقى إجماعا دوليا. ولقد شعر أنان بطبيعة الخداع في إعلان النظام بقبول نقاط المبادرة، لهذا صرح من بكين أنه يريد يبحث عن تطبيقات جدية لا عن كلام إنشائي. وكأنه بذلك يضع شركا حول عنق النظام بطريقة لا فكاك منها
- آخر تحديث :
التعليقات