من يتأمل حراك الأحداث في السودان مؤخرا، ويختبر دلالتها من أجل الخروج برؤية مركبة حيال بعض النتائج التي يمكن أن يؤول إليها ذلك الحراك، ربما يخرج بنتيجة تشير إلى عكس ما يمكن أن يتوقعه البعض من ذلك الحراك.
فالحديث عن إمكانية قيام ثورة في السودان ضمن احتمال انعكاسات الربيع العربي على هذا البلد يبدو بعيدا عن الحقيقة. وهو بعد تسمح جملة من المؤشرات التي تحيل على انسداد عميق تعكسه أزمة بنيوية نشأت عن الاهتزازات الخطيرة التي ضربت السودان خلال أكثر من عشرين عاما من حكم نظام الإنقاذ.
وإذا كان التاريخ الحديث للسودان، بعد الاستقلال، قد سجل حراكا ثوريا نادرا كان بمثابة استثناء في المنطقة العربية برمتها (ثورتا أكتوبر 1964، وأبريل 1985) اللتان أسقطتا نظامين عسكريين من خلال حراك شعبي حقيقي، فإن ما آل إليه الوضع السياسي السوداني بعد ذلك، لاسيما بعد انقلاب البشير في العام 1989 هو تحديدا ما سنحاول من خلاله تأكيد دلالة عنوان هذا المقال بأنه ليس في السودان إمكانية لقيام ثورة شعبية.
هكذا حين قام نظام الإنقاذ بتصفية الحياة السياسية والحزبية خلال السنوات العشر الأولى من حكمه، ثم حين قام بعقد اتفاقيات عبثية مع ما تبقى من القوى السياسية في الفترة الثانية التي انتهت بانفصال الجنوب ؛ كان قد دمر تماما البنية السياسية للعمل الحزبي، ما أدى إلى بروز نتائج خطيرة هي في تقديرنا بمثابة العائق الأساس الذي يحول اليوم دون قيام ثورة شعبية.
منذ البداية طرح نظام الإنقاذ رؤية آيدلوجية إسلاموية ليس فقط لممارسة السياسة، وإنما أيضا لصياغة جديدة للمجتمع السوداني قائمة على تغيير أفكار ومفاهيم هذا المجتمع ورؤيته لذاته، وإبدالها برؤية إسلاموية أطلق عليها د. حسن الترابي (المشروع الحضاري) ولأنها رؤية آيدلوجية فقد كانت من نتائجها أن المجريات السياسية والمجتمعية للواقع السوداني وصلت إلى درجة بالغة من التعقيد والتأزم. وإذا كانت التحولات السالبة عادة ما تعيد إنتاج نفسها مع كل نظام عسكري، فإن التحولات التي جرت خلال العشرين عاما الماضية هي الأسوأ والأكثر ضررا في مجمل الواقع السوداني. لقد دمرت تلك التحولات الإطار الذي كان يمكن أن يكون قابلا للإصلاح والذي كانت تدور في داخله كل التحولات السالبة لفساد الأنظمة العسكرية السابقة، أي أن مفاعيل السياسات الأيدلوجية الاسلاموية خلال العشرين عاما ضربت بنية العلاقات الاجتماعية والسياسية والتعليمية وفتتت نسيجها عبر سياسات تجزيئية كانت حسما على مهمة الدولة، وبالتالي أدت تلك السياسات إلى إشاعة حالة كيانية عامة أقرب إلى الإنمساخ والتفسخ، وهو تفسخ وتحلل أصبح متروكا لتداعيات يمكن أن تنتج عنها فوضى كبيرة في المستقبل.
ذلك أن المشروع الحضاري دمر ـ مرة وإلى الأبد ـ صورة ما للسودان كانت قابلة لأن تكون نواة لمشروع الهوية الوطنية ـ رغم عللها ـ واحل تلك الفوضى..
لقد كان التصور الطوباوي للإنقاذ فيما خص إصلاح المجتمع عبر التعليم والإعلام بعد الانقضاض على السلطة بالعنف الانقلابي هو الطريق الملكي للخراب. فـ(المشروع الحضاري)، كان مشروعا ينطوي على عجز ذاتي بسبب الآيدلوجيا الإسلاموية الانسدادية ذات الطابع الانشقاقي، التي أثبت الزمن فقرها. وما أطلق عليه بـ(الإستراتيجية القومية الشاملة) كخطة عشرية (1992 ـ 2002) من أجل النهوض بالسودان وتحويله إلى quot; يابان أفريقياquot; تحولت إلى كوابيس سياسية، وحروب أهلية، وهجرات للكفاءات العلمية والسياسية، وعزلة دولية وغير ذلك من النتائج التي صعدت الاحتقان الداخلي.
لقد كانت الستة عشرة عاما التي سبقت اتفاقية نيفاشا كافية لجعل الانسداد والاحتقان أكبر من أن تحتويه أو تؤثر فيه تلك التسوية المتأخرة للحرب والسلام بين الشمال والجنوب ما أدى في النهاية إلى انفصال جنوب السودان.
والحال أن جيل الشباب الذي نشأ خلال عقدي نظام الإنقاذ حدث له مسخ في الهوية الوطنية، حيث تم تفريغ تلك الهوية الوطنية من مضمونها لحساب رؤية (المشروع الحضاري) ما أدى الأمر في النهاية إلى بروز جيل من الشباب عاجز تماما عن الإمساك برؤية وطنية تسمح له بالحراك الثوري. وهذا بطبيعة الحال مالم يحدث للشباب المصري أو التونسي أو اليمني ؛ لأن الأنظمة القمعية في مصر وتونس واليمن رغم فسادها العريض إلا أنها لم تحاول أن تعبث بتغيير الهوية الوطنية تحت مسميات آيدلوجية لتفتيت النسيج الوطني والاجتماعي.
لقد كان انعكاس الآيدلوجيا الإسلاموية داخل المجتمع السوداني على حساب تذويب الهوية الوطنية الخام، ولأن الايدلوجيا رؤية نسقية إنسدادية فقد أصبحت في نهاية الأمر أداة للمسخ الذي طال المجتمع وانعكس في الحال العدمية في رؤى الشباب حيال قضايا الشأن العام والعمل السياسي في السودان، عدا استثناءات قليلة تؤكد القاعدة ولا تنفيها.
وكان من نتائج تصفية الحياة السياسية والحزبية بروز حركات الهامش والحركات المناطقية (حركات دارفور) (مؤتمر البجا) وغيرها كبديل لممارسة السياسة من باب الاحتجاج على التهميش المتمادي من ناحية، ولاستبدال الصراع السياسي بصراع ذي طابع عسكري من ناحية ثانية.
وفي سياق آخر مارس نظام الإنقاذ سياسة تفتيت ما تبقى من البُنى الحزبية من الداخل بعد هجرة كوادرها إلى خارج الوطن، وطال ذلك التفتيت الحزبين الكبيرين حزب الأمة والحزب ألإتحادي، فتحول كل حزب منهما إلى أحزاب كرتونية صغيرة، ثم قام النظام بتفتيت الجماعات الإسلامية المتعددة. وأخيرا قام بتفجير حركات الهامش من الداخل عبر عمليات انشطارية، بعد أن عقد معها عشرات الاتفاقيات الهوائية الصغيرة لاسيما مع حركات دارفور التي تناسلت عقب تلك الاتفاقيات، وكذلك تحولت جبهة الشرق إلى ثلاثة أحزاب بعد اتفاقية أسمرا التي عقدها النظام معها في العام 2006 م.
واليوم من يتأمل حال المعارضة السودانية بعد انفصال الجنوب يدرك تماما أن الاستعصاء لا يكمن فقط في عجز النظام على التغيير نحو التحول الديمقراطي، بل كذلك في عجز المعارضة السياسية أيضا.
فالجبهة الثورية السودانية (تحالف كاودا) المكونة من حركات دارفور الرئيسية المعارضة ومن الحركة الشعبية قطاع الشمال تتبنى اليوم الخيار المسلح كوسيلة وحيدة لإسقاط النظام، والخيار المسلح مع نظام عسكري في العادة، لن يؤدي إلى تغيير، فضلا عن أن مناخ الربيع الثوري العربي نجح بالأصل عندما عزل الأنظمة القمعية وشل قدرتها على المواجهة المسلحة بتبني الخيار السلمي.
أما الأحزاب الأخرى فرغم تفتيتها لا نجدها تملك رؤية واحدة حيال الموقف من النظام. ومن يتأمل موقف الصادق المهدي ودعوته النظام إلى تفكيك نفسه وعقد مؤتمر دستوري لإخراج البلاد من الأزمة، فيما نجله عبد الرحمن المهدي تم تعيينه مساعد لرئيس الجمهورية، يدرك تماما عجز الأحزاب التقليدية عن استقطاب الشارع وتحريكه.
لكن هل يعني ذلك انعداما للحراك من قبل الجماهير احتجاجا على الأوضاع المتردية التي آل إليها السودان في ظل هذا النظام ؟
بطبيعة الحال سيكون هناك حراك، ولكن لا أحد يضمن ماسيؤول إليه. وحين ينجم هذا الحراك فسيكون نتيجة للأوضاع الاقتصادية المتفاقمة. وفي تلك الحال ليس بالضرورة أن يتمخض الحراك عن ثورة، فللثورة شروطها. بل قد تكون نتائجه أقرب للفوضى والانفلات الأمني واندلاع صراع مناطقي وإثني خطير لا سيما بعد اغتيال د. خليل إبراهيم، وتهديد حركة العدل والمساواة بالدخول إلى الخرطوم والقيام بأعمال انتقامية.
لكل تلك الأسباب ليس ثمة ثورة في السودان.
[email protected]