quot;ليس المهمة من تصنع حامل المهمةquot; (ريجس دوبريه)

كان ثمة انطباع قوي بأن ماحدث في 11/ فبراير بتنحي حسني مبارك هو في الحقيقة نصف ثورة ونصف انقلاب. وبمرور الوقت واندلاع الموجة الثانية من الثور المصرية منذ يوم السبت الماضي 19 نوفمبر بدا أن ذلك الانطباع هو الأقرب إلى الصحة. فبينما لم يكن بين ثورتي تونس ومصر سوى 18 يوما، كان الفارق عظيما لجهة النتائج السياسية التي ترتبت على ثورة تونس والتي تم تتويجها اليوم بافتتاح أول مجلس وطني تأسيسي في البلاد.
أما مصر فقد ظلت في تجاذباتها طوال الشهور العشرة الماضية دون أن تسجل فيها الثورة اختراقا لجهة التحول الديمقراطي، وبدا واضحا أن القوى السياسية لم تتوفر على تصور وطني وبرنامج جماعي لتأسيس الحد الأدنى من الإجماع حول تحديد المهام المشتركة والملحة للانتقال الديمقراطي.
واليوم نزل المصريون إلى ميدان التحرير بعد أن سكتوا طويلا على غموض العسكر وتباطؤهم في التسريع بمجموعة من الخطوات المطمئنة، كتحديد الانتخابات الرئاسية، وإصدار قانون العزل السياسي ــ الذي وافق المجلس العسكري على إصداره تحت ضغظ التظاهرات ــ وغير ذلك من الإجراءات التي تتمثل المناخ الثوري وتدل عليه.
لقد فوجئ المصريون بأحداث ماسبيرو التي راح ضحيتها مجموعة من المصريين نتيجة للتعامل العنيف من الجيش. وكانت المفاجأة الأكبر في تلك اللقطات التي بثتها القنوات الفضائية لتعامل رجال الأمن مع المتظاهرين منذ يوم السبت الماضي بطريقة ذكرت المصريين بزمن حسني مبارك، ما أدى إلى خروج مئات الآلاف بعد ذلك إلى الشوارع للاحتجاج على تلك الطريقة.
والحال أن تلك المناظر القاسية لتعامل رجال الأمن مع المتظاهرين كشفت عن جملة من الحقائق المتصلة بصيرورة الثورة المصرية. أولى هذه الحقائق أن هناك في الداخل والخارج ـ جماعات ودول ـ من يحرص دائما على إعاقة الانتقال الديمقراطي في مصر، ولا نعدو الواقع إذا قلنا أن هناك من يرصد أموالا ويوظف أشخاصا في سبيل هذه المهمة القذرة من داخل وخارج مصر.
ومن هذه الحقائق أن الطاقة الخطيرة التي اكتشفها الشعب المصري منذ أن نزل بالملايين إلى الشوارع خلال ثورة 25 يناير وأطاح بنظام حسني مبارك لاتزال كامنة وقادرة على تجديد الثورة والوعي بقيمة تلك الطاقة ومعناها أيضا. وهو ما دلت عليه التظاهرة المليونية التي شهدتها مصر يوم أمس وأول من أمس.
ولقد كان واضحا أن الإطاحة بنظام حسني مبارك هو جانب الهدم من الثورة المصرية، وهو جانب بطبيعته أقل تعقيدا من جانب البناء. فالرغبة في الحرية ونيلها لا يعني ضرورة انجازا ديمقراطيا ؛ فثمة فرق كبير بين تحقيق الحرية بمفهومها العام وبين عملية البناء الديمقراطي.
وحين نقارن اليوم الوقائع المختلفة في مسار الانتقال الديمقراطي بين تونس ومصر سنجد أن ماتميزت به تونس من استثناء مرموق في التعليم أنتج حضورا ما لطبقة وسطى متماسكة، ومن وجود قيادات حزبية متفاهمة، ومن القدرة على إدراك الحد الأدنى من الحاجة إلى التوافق على المكتسبات القانونية والاقتصادية والتعليمية للمجتمع التونسي ــ وهو ما ظلت حركة النهضة تؤكد الحفاظ عليه ــ سنجد كل ذلك لعب دورا كبيرا في تسهيل عملية الانتقال الديمقراطي في تونس.
وهذا مايكاد يكون غائبا في مصر أو هو غير مكتمل. فالخلافات، وغموض رؤية وطنية للحد الأدنى من المكتسبات المشتركة عند المصريين جعلت من مسار الانتقال الديمقراطي أشبه بطريق مسدود.
كانت الثورة المصرية عند اندلاعها ثورة بلا قيادة كبيرة أو ظاهرة. ولعل من آثار تلك الحالة ما يمكن تفسيره اليوم في موجة الثورة الثانية للمصريين. هناك إدراك لدى المصريين بعجز الثورة المصرية على إفراز قيادة تاريخية تستقطب التناقضات في الواقع المصري. وكان ذلك أصلا نتيجة للمفاجأة التي أنتجت الثورة ذاتها بطريقة غير متوقعة.
لابد للثورة من إنتاج قيادة تاريخية استثنائية خلاقة لها القدرة على الجمع النادر بين الكاريزما الوطنية والأخلاقية من ناحية، والوعي الموضوعي العميق بروح مصر وشخصيتها عبر إدراك معرفي يتجاوز الآيدلوجيا إلى الإمساك باللحظة التاريخية الدقيقة التي تمر بها مصر.
في غياب تلك القيادة لابد من وجود رؤى سياسية توافقية للأحزاب حول الإجماع المتصل بصيغة مشتركة للقضايا الوطنية المحلة والمتعالية عن البرامج المحدودة للأحزاب. وهذا بطبيعة الحال يحتاج إلى بنى تحتية تكمن في تعليم مرموق مثل مستوى التعليم في تونس، والحد الأدنى من الطبقة الوسطى المتماسكة. الأمر الذي سيحيل إلى أن هذه التظاهرات ستكون بمعنى ما (ثورة في الثورة) عبر تجديد اللحظات التاريخية لثورة 25 يناير لتحقيق مكتسبات مضافة في القضايا التي خرج من اجلها الشعب المصري.
لكن ربما كانت هناك حاجة إلى (ثورة في الثورة) بحسب مفهوم (ريجس دوبريه) الذي جعل من تلك العبارة الجدلية عنوانا لأحد كتبه ؛ أي الحاجة إلى ثورة في التفكير الثوري، فذلك وحده ما يضمن تحقيق اختراق نوعي في مسار الانتقال الديمقراطي في مصر.
ولإدراك الفرق في حال المقارنة بين مصر وتونس يمكننا الإشارة إلى تمثلات حركة النهضة في خطابها العام لمكتسبات الحداثة في تونس، مقارنة بخطاب الإخوان المسلمين والغموض الذي يكتنفه حيال مكتسبات الحداثة في مصر.
[email protected]