"نعمة الدنيا" هكذا وصف أديب نوبل نجيب محفوظ ببساطة وفي إيجاز مُدهش أم كلثوم، التي كتبت عنها الباحثة المتخصصة في الموسيقى فرجينيا دانييلسون كتابا عنوانه "صوت مصر، أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين" تقول فيه :"إنها المُطربة الأكثر إنجازا وتكاملا في العالم العربي في القرن العشرين، فقد تمتعت ببراعة جوان ساذرلاند وإيلا فيتزغيرالد في الغناء، وشخصية إليانور روزفلت في الحياة العامة، وتأثير ألفيس بريسلي على الجمهور".
أم كلثوم: "المرأة العربية الوحيدة" التي مزجت الحب بالقوة
ذكرى رحيل أم كلثوم في إذاعة البي بي سي
أم كلثوم وأسمهان وفيروز مصدر إلهام لتغيير واقع المرأة العربية
هكذا، كانت أم كلثوم في نظر الكثيرين "صوت مصر ووجهها"، ولقد أظهرت منذ طفولتها موهبة استثنائية في الغناء، مما مهد الطريق لمسيرة فنية امتدت لعقود منذ عام 1910 تقريباً، عندما بدأت الغناء مع والدها في حفلات الزفاف والمناسبات الخاصة في القرى والمدن في دلتا مصر، وحتى مرضها الأخير في عام 1972.
فعلى مدى أربعين عاماً تقريباً ظلت حفلاتها الشهرية التي كانت تقام في ليلة الخميس تُذاع على الهواء مباشرة، حتى بلغ عدد جمهورها الإذاعي الملايين في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
لقد كانت رمزًا ثقافيًا لأمتها، وقد عُرفت بأسلوبها الغنائي الفريد وحسها الشخصي في الأناقة، وكانت تعتبر نموذجًا معاصرًا للفن العربي، كما لعبت دورًا في السياسة المصرية، حيث قامت بجولات في العالم العربي بعد حرب 1967 وتبرعت بعائدات حفلاتها للحكومة المصرية.
وفي العام الماضي، احتلت أم كلثوم، المركز 61 في قائمة أعظم 200 مطرب في التاريخ، والتي أعدتها مجلة رولينغ ستون الأمريكية المتخصصة في الموسيقى، وكانت المطربة العربية الوحيدة في القائمة، ووفقا لتقرير المجلة فإن كوكب الشرق ليس لها نظير في الغرب، إذ تعتبر روح العالم العربي، وصاحبة تأثير امتد لما هو أبعد من الغناء.
ووصفت المجلة صوت أم كلثوم بأنه رنان، يعبر بسهولة عن المشاعر والعواطف، رغم تنوع الموضوعات التي تتناولها أغانيها. وذكرت أن المغنية بيونسيه استخدمت أغنية أم كلثوم "إنت عمري" في تصميم جولتها الفنية في عام 2016. وقد تمت الاختيارات بناء على الأصالة والتأثير وعمق منتجات الفنان واتساع تراثه الموسيقي.
وكانت صحيفة لوموند الفرنسية قد اختارت في عام 1999، بناء على استطلاع أجرته الصحيفة لاختيار روائع القرن العشرين الفنية والأدبية، أغنيتها "الأطلال" من بين أفضل 100 عمل فني وأدبي شكلت ذاكرة القرن العشرين. وفي الأطلال وهي من شعر إبراهيم ناجي وألحان رياض السنباطي، تحلق أم كلثوم في فضاء المعاني والكلمات، ثم تغوص في بحار اللحن، لتخطف قلوب السامعين والعشاق بشباك صوتها.
البدايات
عُرفت أم كلثوم بالعديد من الألقاب مثل كوكب الشرق، وشمس الأصيل، وصاحبة العصمة، وقيثارة الشرق، وثومة، والست، وسيدة الغناء العربي، ولا خلاف حول ألقابها العديدة، ولكن يختلف البعض حول اسمها الحقيقي.
فقد تحدثت العديد من المصادر عن أن اسمها الحقيقي هو فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي إلا أن الكاتب الصحفي المصري محمود عوض روى في كتابه "أم كلثوم التي لا يعرفها أحد" قصة التسمية.
وقال عوض في كتابه إنه عندما وضعت الأم فاطمة المليجي مولودتها في بيتها الريفي الصغير بقرية طماي الزهايرة في مركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية بمصر، حملت القابلة المولودة وخرجت بها إلى والدها وهي تصرخ: "مبروك فاطمة ولدت"، دون الإشارة إلى أنها أنجبت طفلة، خشية أن يُصدم الأب الشيخ إبراهيم البلتاجي.
وكان البلتاجي يجلس على الأرض يقرأ كتابًا عن أولاد النبي، وعيناه في تلك اللحظة على اسم إحدى بنات النبي، وقبل أن يسمع إذا ما كان قد رُزق بذكر أم أنثى صاح قائلًا: "نسميها باسم بنت النبي، نسميها أم كلثوم".
وفيما تقول أغلب المصادر إن أم كلثوم وُلدت في 31 ديسمبر/ كانون الأول من عام 1898، إلا أن بعض المصادر تشير إلى أنها وُلدت في عام 1904.
وكان والد أم كلثوم إمام قرية يؤدي الأناشيد الدينية التقليدية في الأعراس والأعياد لتغطية نفقاتهم. وتعلمت ابنته الغناء منه، وعندما لاحظ قوة صوتها، بدأ يأخذها معه، وهي ترتدي زي صبي لتجنب ازدراء عرض ابنة صغيرة على المسرح.
وكان المجتمع المصري في شباب أم كلثوم يعتبر الغناء، حتى ولو كان من النوع الديني، مهنة سيئة السمعة، خاصة بالنسبة للإناث.
وصنعت أم كلثوم اسمًا لها في الغناء في مدن وقرى الدلتا المصرية، وعندما كانت مراهقة، أصبحت نجمة العائلة.
الانتقال للقاهرة
https://www.youtube.com/watch?v=L3ZxZvnHkik
في وقتٍ ما من عام 1923، انتقلت العائلة إلى القاهرة، التي كانت مركزًا رئيسيًا لعالم الترفيه المربح والإنتاج الإعلامي الناشئ في الشرق الأوسط، حيث بدأت أم كلثوم في تطوير أدائها الفني بمساعدة مجموعة من الملحنين المميزين، مثل الشيخ أبو العلا محمد وداوود حسني.
وفي هذه الفترة، بدأت تكتسب شهرة واسعة بفضل صوتها العذب وأدائها المتقن. ولم يكن صوت أم كلثوم وحده هو الذي ميزها، بل أيضًا ذكاؤها الفني وقدرتها على اختيار الأعمال التي تتماشى مع ذوق الجمهور.
وبحلول منتصف العشرينيات من القرن الماضي، كانت قد قدمت تسجيلاتها الأولى واختطّت لنفسها أسلوبًا موسيقيًا أكثر صقلًا وتطورًا، فأصبحت أعلى المغنيين أجرًا؛ حيث دفعت شركة أوديون لأم كلثوم 50 جنيهًا عن كل أسطوانة، في وقتٍ لم يكن سلامة حجازي يحصل على أكثر من 20 جنيهًا للأسطوانة، وكان محمد عبدالوهاب يحصل على 10 جنيهات فقط.
وفي عام 1926، غيرت أم كلثوم من مظهرها وتخلّت عن العباءة والعقال وارتدت الأزياء الحديثة، وكونت فرقة من العازفين على رأسهم محمد القصبجي.
ويقول المؤرخ حسين فوزي إن القاهرة كانت حينئذٍ مدينة عالمية تُقدَّم فيها المسرحيات الفرنسية والأوبرا العالمية. وقد واجهت أم كلثوم هذه الثقافة الدولية بأسلوب غنائي مصري عربي متطور، كان مزيجًا من العناصر العربية والغربية، التي تمثلت في الكلمات والموسيقى العربية ممزوجة ببعض الآلات الغربية مثل الكمان.
وقد تم توثيق هذه السنوات المبكرة في مسيرة أم كلثوم الفنية في سلسلة من 8 أسطوانات أصدرها نادي الأسطوانة العربي في فرنسا. وقد أدرج إلفيس كوستيلو، المغني وكاتب الأغاني البريطاني، هذه المجموعة ضمن "ألبوماته الـ 500 الأساسية لحياة سعيدة"، التي أصدرها في مجلة فانيتي فير في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2000.
ومع تأسيس الإذاعة المصرية عام 1934، انطلقت مسيرتها المهنية، حيث شرعت في تقديم أغانيها عبر الإذاعة. وفي عام 1936، قدمت أول فيلم سينمائي لها بعنوان "وداد"، الذي لعبت فيه الدور الرئيسي، وكان هذا الفيلم هو الأول من بين 6 أفلام عملت فيها.
يُذكر أن هناك روايات تشير إلى أن نادي الوداد المغربي اتخذ اسمه تيمّنًا بالفيلم المصري.
وفي عام 1937، رتّبت بذكاء لبث حفلاتها الشهرية عبر الإذاعة على الهواء مباشرة، وكان الجميع تقريبًا يتابعون بثها. ومع تزايد قوة المحطة، زاد عدد جمهورها، ومع ظهور الترانزستور، وصلت إلى أصغر القرى المصرية.
وبحلول ذلك الوقت، كانت قد انتقلت من أداء الأناشيد الدينية إلى غناء الألحان الشعبية، غالبًا باللهجة العامية وبصحبة فرقة تقليدية صغيرة. وأصبحت معروفة بأدائها للأغاني العاطفية التي كتبها أبرز الشعراء وكتاب الأغاني آنذاك.
صوت قوي وذكاء
كانت أم كلثوم في أوج تألقها خلال الأربعينيات من القرن الماضي، حيث قدّمت أغاني الحب العامية، كما غنّت شعرًا أنيقًا ومتطورًا باللغة العربية الفصحى، محمّلًا بالصور التاريخية والدينية. وكان الكثير من أعمالها في هذا الوقت من ألحان زكريا أحمد، مثل أغنية "أنا في انتظارك".
تمتعت أم كلثوم بصوتٍ فاخرٍ من نوع كونترالتو قوي جدًا (أكثر الأصوات النسائية عمقًا وندرة)، والذي يصل إلى منتصف منطقة الميزو سوبرانو (الصوت متوسط النبرة للمرأة)، ويوجد في هذه المنطقة الصوتية 16 نغمة موسيقية.
وقد ساعد تدريبها على الإنشاد الديني وتلاوة القرآن في وقتٍ مبكرٍ من حياتها في تشكيل أسلوبها الفريد.
كما أنها تميّزت بقدرات هائلة على تغيير طبيعة الأداء الغنائي حسب الحاجة، فتصرخ حزنًا أو تهتف فرحًا، أو تتأوه ألمًا أو تغضب. وقد تضطر إلى الابتعاد عن الميكروفون، ويصاحب ذلك مشاعر جسدية قوية ورصينة وصادقة، وهي تهز منديلها الممسك بأصابعها التي لا تكفّ عن الاحتكاك ببعضها البعض.
لقد كانت أحبال أم كلثوم الصوتية قادرة على الاهتزاز حتى 14 ألف مرة في الثانية، وهو ما تطلّب منها الوقوف مبتعدة قليلًا عن الميكروفون.
وأدى صوتها القوي وقدرتها على التكرار المتنوّع لسطر واحد من النص إلى جذب الجماهير إلى مشاعر ومعاني الكلمات الشعرية. لقد كانت تقف أمام جمهورها وتكرّر العبارات والمقاطع بناءً على طلبهم، وكانت قادرة على الارتجال حتى أن الناس كانوا يقولون إنها لم تغنِ سطرًا واحدًا بالطريقة نفسها مرتين قط. وبفضل إتقانها البارع للعديد من الألوان والزخارف الصوتية، كانت تُطيل مقطوعاتها الموسيقية التي تستغرق عشرين دقيقة إلى عروض تستغرق ساعتين.
وقال الناقد ويل هيرمس إن صوت أم كلثوم لا مثيل له في عالم الغناء، وقد مثّل روح العالم العربي لعقود، باعتباره الصوت الوحيد والفريد في العالم.
ولعل الباحث في صوت أم كلثوم يجد فيه الكثير من السمات الفنية التي تُبرر ظاهريًا المكانة الرفيعة التي تتمتع بها "الست"، ولكن هذه المواصفات ليست وحدها المسؤولة عن تشكيل هذه الظاهرة، بل هناك عوامل تتعلق بشخصيتها وذكائها كان لها تأثير كبير فيما وصلت إليه.
فقد تميزت مسيرة أم كلثوم بتعاونها مع أبرز شعراء وملحني عصرها، مما ساهم في إنتاج مجموعة من الأعمال التي أصبحت من أعمدة التراث الموسيقي العربي. فقد عملت مع أحمد شوقي في أغنيات خالدة مثل "سلوا كؤوس الطلا"، كما تعاونت مع الملحن رياض السنباطي، الذي شكّل معها ثنائيًا استثنائيًا أخرج العديد من الروائع، مثل "الأطلال" و"رباعيات الخيام". ولاحقًا، انضمت إلى هذه القائمة أسماء كبيرة مثل محمد عبدالوهاب في أغنيات شهيرة كـ"أنت عمري".
وتقول فيرجينيا دانييلسون، الباحثة في مجال الموسيقى، إنه من العدل تشبيه موسيقى أم كلثوم بالبلوز من حيث الطريقة التي مزجت بها بين الإنشاد الديني وقصائد الحب الكلاسيكية والأغاني بالعامية المصرية. كما تضمنت أيضًا الطرب، وهي صفة فريدة من نوعها للموسيقى العربية، والتي يمكن ترجمتها على أفضل وجه إلى كلمة "نشوة".
وأوضحت دانييلسون أنها عندما أجرت مقابلات مع أشخاص حول الاستماع إلى أغاني أم كلثوم، "تحدثوا عن أنهم ينسون مشاكلهم تمامًا، وكانوا خارج أنفسهم تمامًا. فجزء من الطرب هو فكرة أن تكون هناك علاقة روحية بين المستمعين والمطربين، فذلك يشكل أهمية حاسمة للأداء".
ومن جانبه، يقول حبيب حسن توما، الملحن الفلسطيني المتخصص في علم موسيقى الشعوب: "إن شدة الطرب تعتمد في المقام الأول على صوت المغني وأسلوب أدائه، كما تجسّده أم كلثوم. وكثيرًا ما كانت عروضها تتبع تقريبًا التنظيم الإيقاعي الزمني الثابت للحن، ثم تُجرد بعض المقاطع اللحنية من شكلها الإيقاعي الصارم من أجل تكرار وتنويع وإعادة صياغة المقاطع الفردية بطريقة ارتجالية. وهكذا كان عرضها يحوم بين ما قدّمته وما ارتجلته بنفسها، مما يخلق بشكل عام توترًا يستحضر صعوده وهبوطه الطرب في المستمع، وهذا أكثر ما يلفت الانتباه في فن أم كلثوم".
أم كلثوم والسياسة
كانت شهرة أم كلثوم قد بدأت في عهد الملك فؤاد الذي غنت له "حفظ الهوى"، وضمن أبياتها "أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا، ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعا". وكان ذلك بداية علاقتها بالأسرة المالكة في مصر.
وقد دأبت على الغناء في عيد ميلاد الملك فارق، الذي خلف والده فؤاد على عرش مصر في عام 1937.
وفي عام 1944 منحها الملك فاروق وسام الكمال، الذي يُمنح للأميرات فقط، لتصبح صاحبة العصمة وذلك عندما استعاضت في حفل حضره في ليلة العيد عن بعض أبيات أغنية "يا ليلة العيد" بأبيات أخرى لمدح الملك.
فؤاد الأول: حكاية السلطان الذي صار ملك مصر والسودان وسيد النوبة وكردفان ودارفور
الملك فاروق: حكاية ملك مصر المتهم بـ "التواطؤ" مع هتلر
جمال عبد الناصر: إرث مختلف عليه وجدل لا ينتهي
جيهان السادات: سيدة مصر الأولى التي سارت في طريق مختلف
وبعد الإطاحة بالملك فاروق عام 1952، عمل الحكام الجدد على استبعاد كل من كان له علاقة بالنظام السابق، فتم استبعاد أم كلثوم من منصبها كنقيب للموسيقيين، كما مُنعت أغانيها من الإذاعة، فاعتزلت أم كلثوم واحتجبت في منزلها، ولم تعد للغناء حتى بعد أن أوقف عبد الناصر تلك القرارات، فشكل عبد الناصر وفدًا لزيارتها والاعتذار لها لتبدأ علاقة صداقة ممتدة بينهما.
وفي الخمسينيات من القرن الماضي غنت العديد من الأغاني الداعمة لعبد الناصر مثل أغنية "يا جمال يا مثال الوطنية".
وإحدى أغانيها المرتبطة بعبد الناصر أيضا هي "والله زمان يا سلاحي"، والتي تم اعتمادها كنشيد وطني مصري من عام 1960 إلى عام 1979.
وقد شغلت منصب نقيب الموسيقيين لمدة 7 سنوات كما شغلت مناصب في العديد من اللجان الحكومية المعنية بالفنون.
وتعززت شعبيتها من خلال تبرعاتها السخية للقضايا العربية، بعد هزيمة مصر في حرب يونيو/ حزيران من عام 1967 حيث تبرعت بعائدات حفلاتها الموسيقية، ، التي بلغت نحو مليوني دولار، للحكومة المصرية.
وفي ليلتي الإثنين 13 والأربعاء 15 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1967 غنت أم كلثوم على مسرح الأولمبيا في العاصمة الفرنسية باريس لصالح المجهود الحربي. وقال جان ميشال بوريس أحد مديري الأولمبيا في تلك الفترة إن 3 مغنين حفروا أسماءهم في ذاكرة الأولمبيا وهم أم كلثوم، وأديث بياف، وجاك بريل.
وبعد وفاة عبد الناصر وتولي السادات الحكم في عام 1971 تراجعت علاقة أم كلثوم بالسلطة، ويُزعم أن حرم الرئيس جيهان السادات كانت وراء ذلك لأنها أرادت أن تكون الوجه النسائي الرئيسي في مصر.
المرض والرحيل
عانت أم كلثوم من مشاكل صحية في فترات مختلفة من حياتها، حيث سافرت إلى أوروبا والولايات المتحدة في مناسبات عديدة للعلاج مجموعة متنوعة من الأمراض.
ومن الواضح أن مشاكل عينيها (التي يُزعم أنها ناجمة عن السنوات التي قضتها أمام أضواء المسرح) أجبرتها على ارتداء نظارات شمسية ثقيلة، والتي أصبحت سمة مميزة خلال حياتها اللاحقة.
وبدأت صحتها تسوء في عام 1971، وكانت أغنية "ليلة حب" آخر ما غنته وذلك في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1972.
وفي 21 يناير/ كانون الثاني من عام 1975 أوشكت على الوفاة بسبب عدة مشاكل بكليتيها، وفي اليوم التالي تصدرت أخبار مرض أم كلثوم الصحف وكانت الإذاعة تستهل نشراتها بأخبار مرضها.
وفي يوم الإثنين 3 فبراير/ شباط من عام 1975 توفيت أم كلثوم في القاهرة بسبب توقف القلب عن الخفقان عن عمر يناهز 76 عاماً، وشُيّعت جنازتها من مسجد عمر مكرم الواقع بوسط القاهرة.
وكانت شعبيتها كبيرة لدرجة أن خبر وفاتها أثار موجة من الحزن الهستيري، واصطف الملايين من المعجبين في الشوارع لحضور موكب جنازتها، وكانت من أكبر الجنازات في العالم إذ قُدِّر عدد المشيعين وصل لنحو 4 ملايين شخص. وقد نشر خبر وفاتها في كبريات الصحف ووسائل الإعلام العالمية.
أبرز الأغاني
رحلت أم كلثوم لتترك مخزونا هائلا من الأغاني الدينية والعاطفية والقومية يُقدر بنحو 320 أغنية، ومن أشهر أغانيها:
- "الأطلال": تُعتبر من أبرز الأغاني التي قدمتها أم كلثوم، وهي من كلمات إبراهيم ناجي وألحان رياض السنباطي، وتميزت هذه الأغنية بعمقها العاطفي وجمال كلماتها التي عبرت عن الحنين والحب المفقود.
- "أنت عمري": تمثل هذه الأغنية التعاون الأسطوري بين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وقد أصبحت "أنت عمري" رمزًا للأغاني التي تجمع بين الكلاسيكية والتجديد وهي من كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل، وهي أول أغانيها التي استخدم فيها الغيتار الكهربائي.
- "سيرة الحب": من كلمات مرسي جميل عزيز وألحان بليغ حمدي، وتُعد هذه الأغنية مثالًا على الرومانسية الموسيقية التي اشتهرت بها أم كلثوم.
- "على باب مصر": تُبرز هذه الأغنية الطابع الوطني الذي عُرفت به أم كلثوم، حيث كانت دائمًا تعبر عن مشاعر الأمة وآمالها، وهي من كلمات كامل الشناوي وألحان محمد عبد الوهاب.
- "هذه ليلتي": أغنية أخرى من إبداعات محمد عبد الوهاب وكلمات جورج جرداق، وقد جسدت إحساسًا عاطفيًا راقيًا.
وكانت أغاني أم كلثوم تُعرض لأول مرة في حفلات شهرية، حيث كان الجمهور ينتظر بفارغ الصبر الاستماع إلى جديدها، واستمرت حفلاتها في جذب الملايين عبر الراديو.
أم كلثوم والسينما
بالإضافة إلى مسيرتها الغنائية، كان لأم كلثوم حضور مميز في السينما خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين حيث شاركت في 6 أفلام، لعبت فيها دور البطولة وقدمت فيها العديد من الأغاني الشهيرة وهي أفلام:
- "وداد" (1936): كان أول أفلامها، حيث قدمت فيه دور فتاة فقيرة تقع في حب شاب غني، ويُعد الفيلم بداية تجربة أم كلثوم مع السينما.
- "نشيد الأمل" (1937): تناول الفيلم قصة رومانسية ممزوجة بالقيم الوطنية، وكان فرصة لأم كلثوم لتعبر عن مشاعر حب الوطن.
- "دنانير" (1940): فيلم تاريخي تناول قصة خيالية عن عصر هارون الرشيد، وقدم أغنيات لا تزال محفورة في الذاكرة.
- "عايدة" (1942): فيلم رومانسي يحكي عن قصة حب عابرة للطبقات الاجتماعية.
- "سلامة" (1945): يُعتبر هذا الفيلم من أبرز أفلامها، حيث قدمت فيه أغاني خالدة مثل "غني لي شوية شوية".
- "فاطمة" (1947): كان آخر أفلامها، وقد ركز على قضية اجتماعية حساسة تتعلق بحقوق المرأة ودورها في المجتمع.
وتميزت أفلام أم كلثوم بتقديمها مزيجًا من الدراما والغناء، مما جعلها وسيلة لنشر أغانيها على نطاق أوسع، ورغم نجاحها السينمائي، قررت أم كلثوم التركيز على الغناء.
إرث أم كلثوم
كانت أم كلثوم فتاة قروية بسيطة لكنها أصبحت رمزاً ثقافياً لأمة حينما شقت طريقها الصعب في صناعة الموسيقى المصرية وسط بيئة سياسية معقدة.
لقد توفيت أم كلثوم في 3 فبراير/ شباط من عام 1975، لكن إرثها الفني والثقافي لا يزال حيًا، فهي تُعد نموذجًا للفنانة التي جمعت بين الموهبة الفريدة والإرادة الصلبة، مما جعلها أسطورة لا تُنسى حيث لا تزال أغانيها تُسمع في كل مكان، من المقاهي الشعبية إلى المسارح الكبرى.
وامتد تأثير أم كلثوم إلى ما هو أبعد من حدود مصر، حيث أصبحت رمزًا للثقافة العربية في جميع أنحاء العالم، وتأثر بها العديد من الفنانين والموسيقيين، ولا تزال أغانيها يُعاد تقديمها بأصوات جديدة، كما شكلت جسورًا للتواصل بين الشعوب من خلال موسيقاها التي عبرت عن المشاعر الإنسانية المشتركة.
وفي مهرجان بيروت للأفلام الفنية الوثائقية في عام 2017 ، قدم المخرج والمؤلف الفرنسي كزافييه فيلتار فيلما بعنوان "أم كلثوم، صوت القاهرة" حيث اعتبرها بمثابة أيقونة عربية، مازالت مسيرتها الغنية فنيا وسياسيا واجتماعيا تدهش المبدعين والمؤرخين والمحللين السياسيين وصناع السينما.
وحكى الفيلم قصة حياتها معتمدا على مواد أرشيفية ومقابلات. وكتب فيلتار في كتيب المهرجان "أم كلثوم من المقدسات في مصر لذا أحب أن أسميها الهرم الرابع، وقد استطاعت أن تسبغ معنى جديدا للانتماء والفخر في أمة كانت تبحث عن هوية".
وفي عام 2001 أنشأت الحكومة المصرية متحف كوكب الشرق في القاهرة حيث تُعرض مقتنيات أم كلثوم الشخصية التي يمكن من خلالها للزوار التعرف على مسيرتها وحياتها.
ويعرض المتحف مخطوطات أصلية لكلمات أغانيها، إلى جانب فساتين السهرة الشهيرة وحقائب اليد الخاصة بها ومنديلها الأحمر المميز الذي كانت تحمله دائمًا على المسرح.
وبلغت تكلفة إنشاء المتحف 1.5 مليون دولار، واستغرقت عملية البناء 12 عاما، ويقع في قصر المانيستيرلي، وهو قصر عمره 150 عامًا يطل على نهر النيل في القاهرة.
وقد أعرب وزير الثقافة المصري آنذاك فاروق حسني عن أمله أن " يشجع المتحف الفنانين المصريين والعرب على الارتقاء بأعمالهم إلى المستوى الرفيع الذي وصلت إليه أم كلثوم". فيما قال أحد عشاق أم كلثوم الذين زاروا المتحف لدى افتتاحه، إن إقامة بناء يبلغ عشرة أضعاف المتحف لن يفي الفنانة حقها، ومضى قائلا: "لقد وحدتنا كعرب، ووحدت أرواحنا".
"القلب يعشق كل جميل": أم كلثوم تغنّي فرحة الحج بلغة البسطاء
لقد حولت أم كلثوم الشعر الرفيع إلى ثقافة شعبية، ووسعت الأشكال الموسيقية بارتجالاتها الصوتية، ومن خلال الجمع بين الشغف التاريخي والديني والأدبي والموسيقي، ألهمت شعورًا بالفخر الوطني.
وفي الوقت الذي كان فيه العالم العربي يهتز بفعل صراع الحداثة والأصالة، وتوابع الاستعمار، والزعامات الفاسدة، والمواجهات مع الدولة الإسرائيلية الجديدة، كان صوت أم كلثوم بمثابة نجم يرشد الجميع، وقد خلقت أم كلثوم وجمهورها معًا شيئًا رائعا.
وأما عن حياتها الخاصة، فقد تزوجت أم كلثوم 4 مرات، الأولى زواج صوري من صديق والدها لتتمكن من السفر للعراق لإحياء حفلات هناك، ثم الملحن محمود الشريف وتم طلاقهما بعد أسابيع إثر اكتشافها أنه مازال محتفظا بزوجته الأولى، ثم عرفياً لمدة 11 سنة من الكاتب الصحفي مصطفى أمين، وأخيراً تزوجت طبيبها حسن الحفناوي الذي كان يعالجها من الغدة الدرقية.
وفي النهاية لا يسعني إلى أن أتوجه لذكرى الست، نيابة عن الملايين من عشاقها، بكلمات مأمون الشناوي التي شدت بها وهي من ألحان بليغ حمدي:
أنساك..! ده كلام..؟ أنساك..! يا سلام..!
أهو ده اللى مش ممكن أبداً، ولا أفكر فيه أبداً
ده مستحيل قلبي يميل ويحب يوم غيرك أبدا أبدا أبدا، أهوده اللى مش ممكن أبدا.
التعليقات