ها نحن نودّع عامًا يمضي كما تمضي السحب الثقيلة عن سماءٍ أرهقتها العواصف، ونستقبل عامًا جديدًا بأحلامٍ تتسلل كأشعة الفجر لتبدّد عتمة الليل. بين ما كان وما سيكون، نقف عند محطة الزمن هذه، نتأمل في مرآة أيامنا الماضية، تلك التي تركت على جبين الذاكرة بل القلب ندوبًا من الألم والتشظي، وفي الوقت ذاته، ننظر نحو الآتي بأعينٍ مفعمة بالتفاؤل، كما لو أنَّ الأمل هو قارب النجاة الأخير وسط بحرٍ هائج. متلاطم. في خضمّ هذه اللحظة الانتقالية، يكتشف السوري ذاته - من جديد - بين حدّين متناقضين: الماضي بكل ثقله وأعبائه وتراجيدياه، والمستقبل بكل ما يحمله من احتمالات التحرر والتجدد التي نريدها بداية لعصر جديد، من دون ظلم أو استبداد، أو سيادة رؤى على أخرى، ولون على آخر، وصاحب ظل عال على السواد المحيط..!؟
عام 2024
بين عامين أحدهما ماض وثانيهما قادم. بين عامين صارا الأكثر بروزاً في مدونة التاريخ السوري. كعالمين متناقضين. يمر السوريون بمرحلة تعكس ذروة الألم الذي عايشوه منذ عقود، ويكاد لا يعرفه سواهم، حيث تراكمت المآسي في ظل الأنظمة الدكتاتورية والعنصرية التي رسخت القهر والاستبداد. اختتم العام الذي انطوت صفحاته بتأكيد آخر على عبثية نظام مجرم أمعن في سحق قيم الحرية والعدالة، مستمرئاً ومستمراً في سياسة الإبادة بتدرجاتها، لا سيما الجماعية وقهر المجتمع المتنوع، في عهدي سليلي الوحش: حافظ وبشار. إلا أن هذه الحقبة ليست سوى نتاج طبيعي لما سبقها من مراحل تواطأ فيها الاستبداد مع الصمت الدولي، ما أرسى أُسس الاستبداد والاضطهاد على مرّ العقود. في هذه الظلال الداكنة، يظهر السؤال الملح: أية سوريا نريد؟
طوال عقود، طالما جرى تجاهل التنوع السوري الذي يمثل فسيفساء غنية من القوميات والثقافات. ورغم الادعاء الزائف للوحدة الوطنية، فقد سعت الأنظمة إلى طمس الهوية، معتبرة البلاد لوناً واحداً، وفق ما عبّر عنه أحد المحققين ذات يوم حين قال لي: "سوريا لون واحد: الجمهورية العربية السورية".. كل من لا يريد هذا مصيره الموت". غير أنَّ هذا النهج القمعي، القائم على إقصاء الآخرين، لم ولن يلغي حقيقة أن سوريا لطالما كانت لوحة متعددة الألوان. سوريا التي نحلم بها هي وطن يتسع لجميع أبنائه، وطن ينهض من ركام الاستبداد ليعيد إحياء قيم الحرية والعدالة والمساواة.
2025 كما نريد
دور المثقفين والكتاب في هذه المرحلة محوري، حيث تقع على عاتقهم مسؤولية صياغة خطاب يرتقي فوق جراح الماضي ويعبر بالمجتمع إلى مستقبل أكثر إشراقاً. لا بد أن يتبنى هذا الخطاب رؤية ترتكز على العدالة الانتقالية، التي تحاسب المجرمين قانونياً وتعيد الحقوق لأصحابها، بعيداً عن منطق الانتقام الميداني الذي يروج له بعضهم عبر وسائل الإعلام، ومورس في أكثر من حادثة. وإذا كانت جريمة النظام استمرت لعقود، فإن رد الفعل يجب أن يتسم بالالتزام بالقانون، لئلا نكرر أخطاء الماضي ونغرق في دوامة جديدة من الثأر والفوضى.
غير أنَّ العدالة وحدها لا تكفي، فالتحديات التي تواجه السوريين تمتد- بكل أسف- إلى أبسط مقومات الحياة. السوريون اليوم يعيشون في وطن دُمّر بنيانه، وتهدم اقتصاده، وتشرد أهله. الأولوية القصوى يجب أن تكون لتأمين المأوى لملايين النازحين واللاجئين، وضمان حقهم في حياة كريمة تبدأ بتوفير الغذاء، والرعاية الصحية المجانية، والتعليم. هذا إلى جانب وضع خطة شاملة لإعادة العقول السورية المهاجرة التي أُجبرت على مغادرة البلاد، مع ضمان عدم المساس بمن لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين، خاصة أولئك الذين اضطروا للصمت قسراً.
وسط هذا المشهد، لا يمكن تجاوز قضية الكرد، الذين كانوا عبر التاريخ جزءاً أساسياً من النسيج السوري وساهموا في تأسيس الدولة والدفاع عنها، ودفعوا ضريبة النضال أكثر من غيرهم. فتح صفحة جديدة مع الكرد بات ضرورة ملحة، تقوم على الاعتراف بشراكتهم الحقيقية وحقوقهم الكاملة في وطن يحترم التنوع ولا يخشى من الاختلاف. كما أن معالجة التغيير الديمغرافي الذي فرضته سياسات الاحتلال التركي والفصائل الموالية له يجب أن تكون جزءاً لا يتجزأ من الحل الشامل. إنهاء الاحتلال وعودة المهجرين إلى ديارهم هي خطوة أساسية لضمان استعادة وحدة سوريا وسيادتها.
في الطريق نحو بناء سوريا الجديدة، لا بد من نشر ثقافة الديمقراطية، وترسيخ قيم حرية الرأي والإعلام، وتعزيز روح المحبة والسلام. سوريا المستقبل يجب أن تكون نموذجاً للوطن الذي يتسع لنا جميعاً، بلا إقصاء أو تهميش، حيث يعيش كل مواطن بكرامة وعدالة. العدالة ليست فقط في معاقبة المجرمين، بل في بناء مجتمع يحقق التكافؤ بين أفراده ويضمن حقوقهم الأساسية.
لأنَّ بناء سوريا الجديدة هو حلم يتطلب إرادة صادقة وجهوداً جماعية، بعيداً مما هو مبيت لأجل تطبيق رؤى معينة أو تحقيق مصلحة فئة أو فئات محددة، لكنه أيضاً مسؤولية أخلاقية وتاريخية. سوريا التي نحلم بها هي سوريا لكل أبنائها، حيث تُدفن حقبة الاستبداد، ويُعاد إعمار الإنسان قبل العمران. إن إعادة بناء سوريا ليست مجرد مشروع سياسي أو اقتصادي، بل هي استعادة للوطن الذي يجب أن يكون نموذجاً يحتذى به في الحرية والسلام.
عود على بدء
ونحن في ظلال هذه اللحظة، فإنَّ شبح السجن يقف كرمزٍ لكل القهر، والقمع كدليلٍ على انكسار العدالة، والتجويع كوسيلة لإخضاع الأرواح، بينما يشهد العالم ويراقب دون أن يحرّك ساكنًا. في سوريا، السجون السرية باتت أماكن تبتلع الأحلام والأجساد، شاهدةً على تواطؤ الدول الكبرى التي تركت هذه المأساة تتفاقم أو أسهمت في صناعتها. صمتها وصمت ضمائرها جعل من القمع وحشًا لا يعرف الشبع.
أما التجويع، فهو الوجه الآخر للدمار. أموال السوريين المنهوبة في جيوب الطغاة، وأولهم آل الوحش / المستأسدين، هي غنيمة حربٍ غير مشروعة يجب أن تُسترد. إعادة تلك الأموال إلى أصحابها حقٌ لا تسامح فيه، مثلما أن تغريم الدول المتورطة في دمار سوريا، وعلى رأسها روسيا و إيران و ذراعه القذرة حزب الله وتركيا، ليس خيارًا، بل واجبٌ أخلاقي على العالم الحر.
أجل، بين عامين، يكمن السؤال: متى تُرفع هذه المظالم؟ وهل نكون شهودًا على فجر جديد، أم أننا عالقون في ليل طويل؟
التعليقات