إذا كانت الحداثة في أحد تعريفاتها المجزوءة، توصف بأنها (وكالة إنسانية) فإن هذا المعنى ينطوي على قدر كبير من التأويل الصحيح حيال ما يحدث من ثورات في المنطقة العربية. وإذا كانت علامة الرشد الإنساني لمجتمع هي في قدرته على إدارة تناقضات الشأن العام ـ أي السياسة ـ في حياته سلميا وعبر الحوار ؛ فإن ما يجري اليوم من ثورات العرب ينحو إلى هذا المعنى ليختبر قدرتهم على الخروج من نفق التخلف بتلك التضحيات الجسيمة في الأرواح والدماء.
ولهذا فإن الثورة بهذا المعنى هي الوجه الآخر للحداثة السياسية التي تتخلق اليوم في مجتمعات التخلف العربية.
ذلك أن التعبيرات التي عكست أشكال الحياة الجديدة في مجتمعاتنا العربية لم تكن هي بذاتها المؤشر على دخول الأزمنة الحديثة. فالاستعمار الذي أنتج هذه الأشكال كان صدمة كبرى لبنية الحياة العربية الراكدة منذ قرون. وكانت العلاقة المتوترة معه تنعكس باستمرار في تناقضات كثيرة طبعت الحياة العربية، وجعلت منها مسخا يعيش حالة من الالتباس الكبير بين مظاهر الحداثة، والخضوع للتقاليد.
و نتيجة لأن الأشكال الحداثية للعمران البشري طبعت حياة المجتمعات العربية منذ بداية الحقبة الاستعمارية، فقد ظلت تلك الأشكال رغم أهميتها كتعبيرات حديثة، ظلت تراوح مكانها، وتأخذ عناوينها الكاذبة بعيدا عن المعاني الحقيقية.
هكذا كانت العناوين تتمثل في (الجمهورية، والجماهيرية) و(البرلمان) و(الدستور) و(الوطن) و(المواطن)... الخ دون أن تجد لها مصاديق مطابقة لها في الواقع.
بمعنى آخر كان العرب يعيشون حياة قروسطية في عالم السياسة، متدثرة بتلك العناوين الكاذبة. وبالرغم من أن هذه الحياة القروسطية ظلت راكدة، نتيجة لتصورات متبادلة بين الشعوب عن حكامها والعكس، كظاهرة من ظواهر التخلف إلا أن المعنى الحقيقي الذي كشف عن قناعه مع هذه الثورات لاسيما في ثورتي ليبيا وسورية، أصبح من الحقائق المرعبة والكابوسية التي تبثها يوميا شاشات التلفزة.
ففي العالم الحديث الذي نعيشه اليوم يتميز تقدم الشعوب بأن يكون لأفرادها الحرية المطلقة في اختيار الحكام والرؤساء لإدارة الشأن العام، وحين تبدو هذه البديهية العصرية في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا، معضلة معقدة تراق من أجلها دماء الآلاف، وتخاض من أجلها حروب شرسة من الحكام تجاه شعوبهم كما فعل القذافي، وكما يفعل بشار الأسد اليوم، فإن ذلك كاف بذاته ليس على الديكتاتورية فحسب، وإنما على عمق الاستبداد الذي ينتجه التخلف ويعيد انتاجه باستمرار. ولهذا أيضا فإن الخروج من نفق الاستبداد عبر هذه الثورات العربية لا يمكن أن يندرج في سياق سياسي فحسب، بل يندرج بالدرجة الأولى في سياق حداثي لمعنى السياسة.
ولعل من أهم علامات ذلك أن شعارات هذه الثورات لم تنطوي على تعبيرات آيدلوجية، بل انطوت على مفاهيم قيمية معروفة للجميع وهي المتمثلة في : الحرية والكرامة والعدالة. ذلك أن الاستبداد كان باستمرار ولقرون عديد يذكر الناس يوميا بنقيض تلك القيم، أي بالإهانة، والإكراه، والظلم إلى درجة أصبحت معها حاجة هذه الشعوب إلى تلك القيم لا تحتاج إلى تفسير بحيث أصبحت بالنسبة لها تماما كحاجتها إلى الماء والهواء.
تقتضي الحداثة السياسية النظر إلى العالم وموازين القوى فيه، كما هو لا كما تتمناه الآيدلوجيات وأصحابها، ولهذا فإن هناك علاقة شرطية بين ضعف الشعوب وتخلفها من ناحية، وبين كونها ـ نتيجة لذلك ـ عرضة لتدخل القوى الكبرى من ناحية أخرى. كما أن هناك علاقة شرطية أخرى بين وعي الشعوب، وقدرتها على الحد من تدخلات القوى الكبرى بحسب منسوب ذلك الوعي.
لذلك فإن الآيدلوجيات، وحدها، هي التي تفترض الصراعات الدونكيشوتية والوهمية وتسعى إلى تحقيقها في مواجهة موازين القوى الحقيقية، فتؤدي بذلك إلى نهايات وخيمة في حياة الشعوب ـ كل الشعوب ـ كما فعلت النازية بالألمان، والستالينية بالاتحاد السوفيتي ـ وكما فعلت الأنظمة القومية العربية، والإسلاموية بشعوبها في هذا الجزء من العالم
وعلى ضوء ما تقدم تنشا الحاجة إلى استيعاب الوعي الموضوعي في فهم تدخل القوى الغربية ؛ من تأمل ذلك التناقض الذي تقع فيه الشعوب، حين تواجه واقع القمع والظلم فتصبح ضحية لمنظومة قيمية متخلفة اجتماعيا، ولظلم وبطش ديكتاتوري سياسيا ؛ ظلم لا يتورع فيه حكامها عن شن حروب إبادة حقيقية عليها (تخيلوا ما كان سيفعله القذافي بأهل طرابلس لولا تدخل حلف الناتو) حين تطالب بالحرية والكرامة والعدالة ـ كما يفعل بشار الأسد مع شعبه ـ
والحال أن إعمال العقل في العلاقات والموازين التي تحكم العالم، والتعامل معها وفق وعي موضوعي من ناحية، وإدراك القدرات الحقيقية لشعوب هذه المنطقة في مواجهة ديكتاتورييها من ناحية ثانية ؛ كل ذلك يفترض أفكارا جديدة، ومفاهيم جديدة تقع في صميم التفكير الثوري.
ومن خلال هذه المخاضات التي تمر بها الشعوب العربية، سيتعين على كل شعب يفكر في الثورة أن يدرك طبيعة علاقات هذا العالم وموازين القوى الحقيقية التي تحكمه، ويتعامل معها بحسب وعيه العميق بقدراته وإمكاناته.
عند ذلك ستدرك هذه الشعوب معنى الحرية، ومعنى الرشد الذي يعني قدرتها على إدارة سياسة الشأن العام وفق مفاهيم حضارية كالحوار والعقلانية والسلم. ومن هنا ندرك ذلك الارتباط العميق بين الثورة والحداثة.
[email protected]