التصريحات التي يطلقها بعض المسؤولين الغربيين حيال مايقوم به نظام الأسد في سورية من قتل لشعبه، مثل دعوة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية هذا النظام إلى الإصلاح، وكذلك دعوة الخارجية البريطانية له بنفس الدعوة، لا تنطوي إلا على رسالة رمزية يتم ترجمتها في لغة الدبلوماسية إلى أفعال وألعاب خطيرة. ففي مثل هذه التصريحات لا يكمن الخطر في منطوقها الناعم، وإنما في جملة السياقات التي تقال فيها، وردود الأفعال المنتظرة منها في مثل تلك الظروف.
وهكذا إذا كان ثمة دعوة للقتل مبطنة وناعمة فهي التي تجد معناها في تلك الكلمات.
إذ كيف تقع تلك النصحية في نظام أدرك الجميع أنه غير قادر وعاجز إلى درجة اليأس المطلق عن الإصلاح بفعل أفعاله القائمة على القمع والقتل أسلوبا للحوار مع شعبه؟ وهو نظام لا يملك إلا أن يكون كذلك.
والحال أن المبادئ لا تكون مجردة بفعل حسابات مادية محضة، في تقديرات القوى الغربية، وهي هنا لا تأتي إلا في ذيل المصالح الراجحة، وإن بدت كشعارات مرفوعة دائما.
ذلك أن الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية، بحسب تعريفات المصلحة لا يمكن تصورها مبادئ محضة. ففي غياب النفط مثلا لا يمكن لمفاعيل القوى الغربية أن تنشط حيال الأزمة في سوريا، كما أن الحدود التي تسمح بالتدخل الأخلاقي تحتاج إلى سقف عال من الضحايا، فبدون دماء عشرات الآلاف قد لا يمكن لمثل لتلك القوى الوصول إلى النقطة الحرجة المفضية إلى التدخل.
والأمر برمته يعيدنا إلى التناقضات التي تحكم طبيعة تلك المصالح، فإذ تدعو كلينتون نظام الأسد إلى الإصلاح فيمها هي تدرك تماما أن ذلك من رابع المستحيلات، يبدو واضحا أن المعنى المسكوت عنه في تلك الدعوة هو الخوف من مآلات التغيير في حال نجاح الثورة السورية، وبالتالي الخوف على أمن إسرائيل الذي يعد بمثابة مصلحة قومية أمريكية.
تلك التصريحات بطبيعة الحال تندرج في ضرب من الوقاحة واللاأخلاقية، بطريقة ربما تطرح مؤشرا إلى ضرورة إدراك الحسابات الدقيقة في الصراع مع السلطة.
وإذا كان واضحا أن التدخل الخارجي لا يأتي كعمل خيري في حسابات القوى العظمى فإن خيار التركيز على العمل الداخلي ـ رغم صعوبته وخطورته ـ هو البديل الوحيد لتسريع الحل في الصراع ضد السلطة.
ليس بالضرورة أن تكون معادلة النسبة والتناسب بين التدخل الخارجي، والعمل الداخلي بتلك البداهة ؛ ففي واقع عربي يشهد تحولات ثورية تنطلق من نقطة الانسداد والانفجار في وجه أوضاع بلغت درجات غير محتملة، يصبح التخطيط والتنظيم والتماسك الداخلي ذي الفعالية العالية ضربا من التجريب والمحاولة يعودان بالأساس إلى تلك الحالة المزرية التي آلت إليها الأوضاع في ظل هذه الأنظمة القمعية. أي أن الحراك الذي تشهده المنطقة يأتي في سياق الخروج من التخلف والاستبداد بطريقة قد تجعل منه سياقا متعثرا في خطواته، فهو هنا أشبه بمخاض أولي عسير ولكن لابد منه.
ورغم تشابه الأسباب التي أدت إلى تلك التحركات الثورية، يظل لكل بلد عربي شروطه الخاصة والمتصلة بالكثير من حيثيات التي تختلف من بلد إلى آخر.
وهكذا سنجد أن الحراك في سوريا يكاد أن يكون بلا حماية سوى إصرار هذا الشعب العظيم على اقتلاع الخوف من جذوره. لقد أصبح الخوف في سورية عقدة النظام بعد أن تخلص منها الشعب هناك مرة وإلى الأبد.
وفي هذا السياق الذي هو سياق خروج من التخلف لا تأتي تصريحات كلينتون بما تتضمنه من معان وقحة إلا كرد فعل على دلالة ذلك التخلف؟ أي في النظر إلى الحالة التي يعيشها هذه الجزء من العالم المسمى عربيا، سياسيا كحالة متأخرة من القرون الوسطى في العالم الحديث.
فلو كان السياق الذي تندرج فيه التحركات الثورية العربية سياقا متصلا بالحداثة، ولو كحالة دكتاتورية (إذ يمكن للدكتاتورية أن تكون تعبيرا سياسيا في ظل مجتمعات الحداثة) عوضا عن حالة الاستبداد الشامل التي تخترق المجتمعات العربية، لما أمكن لها أن تقول تلك التصريحات بدم بارد؟!
في كل الأحوال أصبح واضحا أن الأقدار المتصلة بشعوب هذه المنطقة تأتي ابتداء من مفارقة الحال الفريدة التي أصبحت كوصمة عار في العالم الحديث. فأن يقتل حاكم شعبه لمجرد الاختلاف في الرأي هو أمر يتصل في أساسه بالعجز عن حل تناقضات المجتمعات العربية بطريقة عقلانية؛ وهذا من أبرز سمات التخلف.
[email protected]