لو اتفق لعاقل أن يتأمل الهذيان الذي ظل يردده الرئيس السوداني عمر البشير بمناسبة وبغير مناسبة في حديثه لمنسوبي حزب المؤتمر الوطني لعرف تماما أن كمية التناقضات التي يهرف بها ذلك الرئيس لا تدل حصريا إلا على تخبط وتشوش ومجانية مشهورة عنه في أوساط الشعب السوداني. وهي صفات لا يمكن بحال أن تصدر عن شخص مسؤول ناهيك عن رجل على قمة هرم النظام العسكري الحاكم في السودان. يمكننا بسهولة أن نحصي ما لا حصر له من الكلام الذي يهرف به البشير ونستدل على تناقضاته لغويا وعقليا دون أدنى جهد في التحليل السياسي. هناك العديد من المستويات التي يمكن أن ندرج فيها دلالة هذيان البشير في طبيعة علاقته بالحكومة التي يترأسها؛ منها أن البشير حين يهرف بذلك الهذيان يكشف عن غياب وذهول لوعيه حيال مجريات ووقائع تم التوصل إليها في الغالب الأعم بعيدا عن إدراكه الحقيقي لها؛ بين حزبه وبين بعض القوى السياسية كالحركة الشعبية؛ وإلا فكيف يمكننا أن نفهم مثلا قوله ذات مرة أن الحديث عن التعدد الثقافي والعرقي والديني في السودان هو عبارة عن كلام (مدهنس) أي كلام ملتوي؛ فيما أقرت اتفاقية نيفاشا بوضوح التعدد الثقافي والعرقي في السودان؟.
وكيف نفهم دعوته الزائفة لتطبيق الشريعة فيما أقر الدستور أن المواطنة هي الأصل؟ أما آخر العجائب في الكلام الهوائي للسيد الرئيس فهو ماطالعتنا به صحيفة الشرق الأوسط في يوم الأربعاء الماضي 26/1/2011 حين قال بحسب الصحيفة (الشعب السوداني خيب آمال الواهمين الذين يظنون أن زيادة أسعار الوقود والسكر ستؤدي إلى اندلاع المظاهرات في الشوارع كما حدث في تونس.. في اليوم الذي نشعر فيه بأن الشعب رافض لنا سنخرج له في الشوارع ليرجمنا بالحجارة، ولن نذهب خارج السودان وإنما سندفن فيه... نحن شعب الانتفاضات ويعلم الناس ذلك ولم نكن مقلدين...
وأعلن عن مشاركته الجنوبيين للاحتفال بالدولة الجديدة، بينما جدد موقفه بعدم التنازل والمساومة في الشريعة الإسلامية، التي قال إنها لم تكن سببا في الحرب بالجنوب، ونوه البشير بأن انفصال الجنوب لن يكون نهاية التاريخ، وإنما بداية لثورة جديدة نتبنى من خلالها سوداننا الجديد الذي نرفع راياته...) في هذه الكلام الإنشائي والهوائي يمكننا أن نكشف كما من التناقضات التي هي في التأويل الحقيقي عبارة عن تداعيات العقل الباطن للرئيس وهواجسه. ذلك أن من يقول بأنه سيخرج للشارع ليرجمه في حال شعوره برفض الشعب السوداني له بصيغة ضمير الجمع؛ هو بمثابة شخص يعرف تماما مدى بعده عن هذا الشعب وخيانته له، فمثل هذا الكلام لا يصدر أبدا من شخص يمكن أن يكون قائدا حقيقيا لشعبه؛ فحين يكون قائدا حقيقيا لشعبه لا يصدر منه مثل هذا الكلام بل ولا يخطر له على بال، فيما سيكون إجماع الشعب عليه أوضح من شمس النهار. ذلك أن إجماع شعب ما على قائد عظيم لا تصنعه الدعاية والإدعاء وإنما يصنعه حياة ذلك القائد بين شعبه عبر حقائق صلبة ووقائع تكشف عن معدنه العظيم خلال محطات حياته في خدمة شعبه مثل غاندي أو مانديلا. وعليه فإن كل حديث فيه مثل هذا الإدعاء إنما هو ضرب من الهذيان والتغطية على الفشل واليأس.
ثم إن الرئيس إحساسا منه بقضية ملاحقته عبر المحكمة الجنائية الدولية أسقط ذلك الشعور دون أن يدري حين قال في كلامه (ولن نذهب خارج السودان ) فمن البديهي أن أي ديكتاتور لا يمكن أن يعيش في بلده في حال سقوطه الأمر الذي يكشف لنا من طرف خفي أن الرئيس يقول ذلك تعبيرا عن هواجسه؛ لمعرفته أنه سيكون مطاردا سواء أمكث في السودان أم خرج منه في حال سقوط نظامه بثورة شعبية ـ وليس غريبا على الشعب السوداني الذي قام بثورتين شعبيتين أن يقوم بثالثة ـ وحين يقول البشير (نحن شعب الانتفاضات ) ينسى أن تلك الانتفاضات إنما كانت تحديدا ثورة على من اغتصبوا الحكم مثله وقبله عبر الانقلابات العسكرية كالجنرال (إبراهيم عبود) الذي انتفض عليه الشعب السوداني وأسقطه في العام 1964 و الجنرال نميري الذي أسقطه الشعب في 6 أبريل 1985 والحال أن حديث الرئيس البشير عن هذا الأمر هو من باب المثل المصري العامي القائل (اللي في راسو بطحة يحسس عليها) أو ذلك المثل العربي القديم (يكاد المريب يقول خذوني). وما يميز هذه التصريحات الهذيانية الأخيرة كدلالة على تناقضاته التي تكشف عن خواء وعبث أن البشير دون وعي منه يستبطن في حديثه تصورات ومفاهيم ظل باستمرار على النقيض منها. فهو مثلا يصرح بأنه سيحتفل مع الجنوبيين فيما كان ينبغي له أن يحزن ويتوارى خجلا كون نظامه هو أول نظام سوداني وقع في عهده هذا الانقسام المحزن بين الشمال والجنوب نتيجة لأسباب تسبب فيها نظامه في المحصلة الأخيرة. وكذلك يبشرنا البشير بثورة و سودان جديدين .
والمفارقة هنا أن السودان الجديد كان شعار خصومه في الحركة الشعبية في مواجهة شعار شيخه حسن الترابي الذي كان تحت عنوان (المشروع الحضاري) كما أن وعده بالثورة ليس سوى ذر للرماد في العيون؛ فالثورة هي نقيض الانقلاب، بل هي في الأصل لا تأخذ تعريفها الكامل إلا من كونها ثورة على نظام ديكتاتوري عسكري غاشم كالذي أنشئه البشير عبر الانقلاب في العام 1989.في بعض اللحظات يصل الدكتاتور إلى حالة من التوهم بفائض النشوة المختلطة بالخوف والتوجس فيتحدث بمفردات لا علاقة لها بما يجري في الواقع بل هي نقيضة له تماما، كتلك التصريحات التي أطلقها القذافي قبل أيام حول الثورة التونسية وهي تصريحات اقل ما يقال عنها أنها وقحة. أما البشير فهو هنا يتحدث عن ثقة متوهمة ليس لها وجود في الواقع فحديثه يدل على الخوف أكثر منه على الثقة. أما حديثه عن أن الشريعة الإسلامية (لم تكن سببا في الحرب بالجنوب) فهو هذيان آخر يريد البشير أن يتلطى وراءه بمفهوم الشريعة.ذلك أن ما جرى خلال العشرين عاما في ظل نظامه العسكري لم يكن تطبيقا للشريعة، وإلا فليفسر لنا كيف تقبل الشريعة مثلا بوجود نائب رئيس للدولة غير مسلم في قمة دولة (الشريعة) ؟!
ومع ذلك فما حدث في العشرين عاما من نظام البشير هو تطبيق آيدلوجيا اسلاموية قائمة على الشعار الشكلي لمفهوم الشريعة حيث تم تعويم الأسباب الدينية والجوهرانية للحرب في الجنوب باسم الجهاد، وتغييب الأسباب الزمنية والتاريخية للمشكلة بكونها مشكلة حقوق عادلة واستحقاقات مؤجلة لمواطنين في وطنهم، ومن ثم تم تحويل الحرب إلى حرب دينية وقتل على الهوية. لقد توهم النظام أن القوة العسكرية يمكنها أن تحسم قضية مركبة مثل قضية الجنوب ما أدى في النهاية إلى ارتداد تلك السياسة في بنيتها الداخلية عبر تجديد العنف مرة أخرى لحسم مشكلة أزمة دارفور طوال عقد التسعينات. وبعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية في نيويورك وصعود اليمين المتطرف والمحافظون الجدد في نظام الإدارة الأمريكية، كان نظام البشير يبحث عن قشة الخلاص من الورطة التي وقع فيها؛ فتعاون مع المخابرات الأمريكية تعاونا أذهل حتى الأمريكيين أنفسهم من كم المعلومات التي توفرت لهم عبر ذلك التعاون، كما كتب أحد كبار المسئولين الأمريكيين قبل سنوات عن هذه القضية في صحيفة الشرق الأوسط، وكذلك قام نظام البشير بتسليم مجموعة من المطلوبين الإسلاميين العرب إلى الولايات المتحدة عبر مطار الخرطوم كقرابين لذلك التعاون إلى أن وجد في اتفاقية نيفاشا سببا للتخلي العملي عن إدعاءاته وشعاراته.
وهكذا فإن ما توهمه البشير بأنه شريعة كان مشروعا لحرب أهلية بامتياز أدت في النهاية إلى انفصال الجنوب، وستؤدي أيضا إلى انفصال دارفور وبقية المناطق الأخرى من السودان. والحاصل أنه كيف يرى البشير كل هذا الخراب المديد الذي جرى على يد نظامه خلال 21 عاما إذا كان لا يزال يتوهم تلك الثقة التي تجعله يهرف بكلام متناقض ؟ هذه حالة مستعصية من الانتفاخ الكاذب والغلو والشطح واللامسؤولية لا ينفع معها إلا ثورة شعبية وانتفاضة تجعله يفيق من هذا الوهم على حقائق الواقع المرير. ولكن يبدو أن في نظام البشير من ينتبه إلى ذلك الكلام المتناقض واللامسؤول فيقوم بالتصحيح والتعديل واتخاذ المواقف المناسبة؛ فما أعلنه البشير في اليوم الثاني لتلك التصريحات؛ من زيادة لمرتبات العاملين كان بمثابة تصحيح لذلك الهذيان الذي لا يمكن أن يصدر عن شخص يزن أمور السياسة بميزان العقل، وإلا فكيف يستقيم قول البشير في نفس تلك التصريحات التي نشرتها صحيفة الشرق الأوسط : (الشعب السوداني خيب آمال الواهمين الذين يظنون أن زيادة أسعار الوقود والسكر ستؤدي إلى اندلاع المظاهرات في الشوارع كما حدث في تونس) فإذا كان الرئيس يتوقع من الشعب السوداني الرضا والقبول بزيادة الأسعار فهذا لا يدل إلا على أمرين أحدهما : أن الشعب السوداني كله من منسوبي المؤتمر الوطني ولهذا يرضى بالقبول، والثاني أن الرئيس يتوهم أشياء لا وجود لها.
[email protected]
التعليقات