المراقب الذي يتابع الفضائية السودانية والقنوات التي تدور في فلكها مثل قناة الشروق، إذا قدر له أن يتابع في الوقت نفسه قناة ((ss.tv أي قناة جنوب السودان المملوكة للحركة الشعبية سيجد مفارقة عجيبة حيال قضيتي الوحدة والانفصال التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. ففيما تبث الفضائية السودانية وملحقاتها دعايات متواصلة وعاطفية عن الوحدة والاتحاد والجنوب الحبيب إلى آخر هذا الزجل المجاني، تبدو قناة ((ss.tv مدركة تماما لتوجهاتها وخياراتها المحددة في الانفصال بعيدا عن أي دعوة للوحدة ؛ وتضخ باستمرار تصريحات ولقاءات واستطلاعات كلها حول خيار الانفصال كحل وحيد لقضية الجنوب. وبعيدا عن طبيعة تنظيم الدعاية وكواليسها في كل من الطرفين. إذا تأملنا في الوضع فسنجد فيه مفارقات غريبة. أولى هذه المفارقات هو: ما يبدو كما لو أن حكومة المؤتمر الوطني في الخرطوم أدركت فجأة فضائل الوحدة و ومنافع الاتحاد فراحت تبشر بها ثم أسست لها هيئة تحت اسم (هيئة دعم الوحدة) حاولت أن تحشد لها القوى السياسية الشمالية والشخصيات العامة، لكنها وجدت صدا ورفضا من الأحزاب المعارضة. وهكذا إذ تبدو حكومة المؤتمر الوطني حريصة على الوحدة ـ كما تريد أن توحي ـ إلا أن تجربتها في تطبيقات نيفاشا كانت البرهان الساطع على أن المؤتمر الوطني كان هو العائق الأكبر أمام قضية الوحدة. ففي البداية حين أسست أمريكا لمشروع اتفاقية نيفاشا كان ثمة أمل في إمكانية الوحدة بعد 5 سنوات لكن سلوك المؤتمر الوطني وإعاقته لمسيرة نيفاشا بدأت منذ التطبيق الأول لإحدى بنود تلك الاتفاقية، فقد كانت وزارة الطاقة والتعدين (وزارة النفط) من نصيب الحركة الشعبية بحسب اتفاق نيفاشا لكن المؤتمر الوطني احتج بأن الوزارة والوزير الذي استخرج البترول ـ الذي كان أهم وساءل الدعاية الآيدلوجية للإنقاذ ـ تخضع لخطط طويلة المدى وبالتالي تستدعي بقاء وزير البترول في منصبه. طبعا قبلت الحركة الشعبية هذا الخرق على مضض، لكنه كان بالطبع بداية مسلية لخروقات أخرى. وهكذا استمرت مسيرة نيفاشا وفق العديد من الخروقات التي أدت إلى ردود فعل من قبل الحركة أيضا، إلى أن تيقنت الحركة بأن مشروع الوحدة في ظل وجود حكومة المؤتمر الوطني لايمكن أن يتحقق للعديد من الانسدادات الآيدلوجية لديه والتي تمنع تصور سودان متعدد وديمقراطي أصلا، ناهيك عن ادراته. لهذا طرحت الحركة الشعبية مؤخرا شرطا آخر وأخير للوحدة يتمثل في إقامة دولة علمانية ديمقراطية لكل مواطنيها، وهو بالطبع شرط يتعارض جذريا مع التوجه الآيدلوجي للمؤتمر الوطني. هذا هو تحديدا جوهر الخلاف على خلفية الوحدة والانفصال وهو بطبيعة الحال لا يمكن لحكومة الخرطوم أن تقبل به، الأمر الذي يثير سؤالا عريضا : إذن لماذا تقوم حكومة المؤتمر الوطني في اللحظات الأخيرة بمثل هذه الدعوات المحمومة من أجل الوحدة، وتؤسس هيئة دعم الوحدة بالإضافة إلى إغلاق صحيفة (الانتباهة) للمنشق الشمالي الانعزالي الطيب مصطفى؟ وفي نظرنا أن الجواب هو : ليس لتلك الدعايات التي يضخها المؤتمر الوطني حول جاذبية الوحدة أي مصداقية، فالمؤتمر الوطني ليست له أدنى رغبة في الوحدة ؛ بل يمكننا القول أن قبول المجتمع الدولي بالانتخابات التي تم تزييفها بالتواطوء مع المؤتمر الوطني كان نتيجة لصفقة تم بموجبها ترجيح خيار الانفصال في الجنوب في العام 2011. إذن لماذا هذا البكاء على اللبن المسكوب؟ والجواب مرة ثانية هو أن المؤتمر الوطني أدرك الآن أن انفصال الجنوب ظل في الوجدان الوطني السوداني دائما بمثابة خط أحمر وإذا وقع فسيكون حدثا حزينا على قلب كل مواطن سوداني. في نفس الوقت فإن الوحدة مع الجنوب عبر الحركة الشعبية لن تتحقق إلا بشروط لا يستطيع المؤتمر الوطني الاستجابة لها. وإذ يدرك المؤتمر الوطني هذه الخطيئة الوطنية التي ستقع نتيجة لسياساته الانعزالية والايدلوجية التي ظهرت نتائجها الكارثية في جميع أنحاء الوطن ؛ يريد والحالة هذه أن يجمع حوله شهود زور عبر إنشاء هيئة دعم الوحدة وعبر هذه الدعايات المجانية التي يبثها في قنواته حول الوحدة ؛ لمشاركته في تمرير هذه الجريمة التاريخية التي استيقن من وقوعها، ولكي يحتج على المواطنين بعد وقوع الواقعة بأنه ليس وحده الذي وافق على انفصال الجنوب. بيد أن هناك أسباب أخرى للمؤتمر الوطني في استدعاء وتسييل كل تلك العواطف حول خيار الوحدة، وهي أسباب تتعلق بمصلحته الخاصة فقط. فكما هو معروف أن أغلب النفط السوداني الحالي يستخرج من الجنوب بما في ذلك منطقة (أبيي) التي ستخضع لبند (المشورة الشعبية) المتزامن مع استفتاء الجنوب. الأمر الذي ستذهب معه ثروة مقدرة كانت في يد المؤتمر الوطني ـ في حال موافقة أهل (أبيي) على الانفصال ـ وبما أن أغلب الترتيبات المتصلة بمنطقة أبيي وتوزيع السلطة والثروة فيها، وأيلولة وضعها الملتبس لازالت محل غموض في بنود الاتفاقية، ونزاع غير محسوم في التطبيق فإن احتمالات الحرب ربما تتغلب على إمكانية السلام للأسف. هكذا يبدو أن الانسدادات التي تعيق ترتيب الاستفتاء في موعده والتي عجز الطرفان عن تهيئتها على مدى أكثر من 4 سنوات سترتد على الوضع برمته وستدخل السودان إلى المجهول. والأمر برمته لا يتصل بخصوص الوحدة والانفصال كخيارين عقلانيين فهذا أمر ممكن في حال وجود شراكة مسؤولة بين طرفين يدركان معنى الوطن كقيمة متعالية عن الخلافات ؛ لكن المشكلة الأخطر هي أن الغموض الذي التبس بمنطقة أبيي في بنود نيفاشا من ناحية، والانسدادات الآيدلوجية والفئوية ذات الطابع العسكري بين الطرفين من ناحية أخرى ـ لاسيما المؤتمر الوطني ـ سيعيقان تحقيق الاستفتاء. وسيبدو لنا أن أكلاف الانفصال ـ بسبب هذا النزاع ـ أكبر بكثير من أكلاف الوحدة كما قال الصادق المهدي ذات مرة
[email protected]